تدمير الحضارة سنة الغزاة
بينما كان فريق من التتار يعمل على قتل مسلمي بغداد وسفك دمائهم اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر.. عمل ليس له مسوغ إلا أن التتار قد أكل الحقد قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين.. لقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين؛ فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق.. عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم.. الديني منها والدنيوي.
لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات.. بينما التتار لا حضارة لهم.. ولا أصل لهم.. إنهم أمة لقيطة.. نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها.. لقد قاتلت هذه الأمة كما تقاتل الحيوانات.. بل عاشت كما تعيش الحيوانات.. ولم ترغب مطلقًا في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا.. لقد عاشوا حياتهم فقط للتخريب والتدمير والإبادة.. شتان بين هذه الأمة وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.. وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة العظيمة.
ماذا فعل مجرمو التتار؟!
لقد اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة[1].. وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن.. وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام.. جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.. علوم شرعية كتفسير القرآن والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق.. علوم حياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض.. علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.. هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر.. فإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان.
لقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس.. ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس.. وسبحان الله! لقد مرت مكتبة قرطبة بالتجربة نفسها التي مرت بها مكتبة بغداد!
عندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636 هجرية (قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط!) قاموا بحرق مكتبة قرطبة تمامًا.. وقام بذلك أحد قساوسة النصارى.. وكان اسمه «كمبيس»، وحرق بنفسه كل ما وقعت عليه يده من كتب بذلت فيها آلاف الأعمار وآلاف الأوقات، وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد.
لكن هذه سنتهم!
حروبهم هي حروب على الحضارة.. وحروب على المدنية.. وحروب على الإسلام.. بل هي حروب على الإنسانية كلها.
ولكن قبل أن نتحدث عن ماذا فعل التتار بمكتبة بغداد تعالوا نتحدث - ولو قليلًا - عن مكتبة بغداد.
مكتبة بغداد:
هي أعظم دور العلم في الأرض -بلا أدنى مبالغة- قرابة خمسة قرون متتالية.
أسسها الخليفة العباسي المسلم هارون الرشيد، والذي حكم الدولة الإسلامية من سنة 170 هجرية إلى سنة 193 هجرية، ثم ازدهرت المكتبة جدًّا في عهد المأمون خليفة المسلمين من سنة 198 هجرية إلى سنة 218 هجرية.. وما زال الخلفاء العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى صارت دارًا للعلم لا يُتخيل كمّ العلم بداخلها[2]!
نحن نتحدث عن دار للعلم حوت ملايين المجلدات في هذا الزمن السحيق!
ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمان ليس فيه طباعة!
وكان هذا هو الأمر المتكرر والطبيعي في معظم حواضر الإسلام.. ولا ندري بالتحديد كم عدد الكتب في هذه المكتبة الهائلة.. وإن كانت تقدر حقًّا بالملايين.. ويكفي أن مكتبة طَرَابُلُس بلبنان -والتي لم تكن تقارن قط بمكتبة بغداد- قد أحرق الصليبيون الأوروبيون فيها «ثلاثة ملايين» مجلد عندما وقعت في أيديهم! فتخيل كم كان عدد المجلدات في مكتبة بغداد!
كانت مكتبة بغداد تشتمل على عدد ضخم من الحجرات، وقد خصصت كل مجموعة من الحجرات لكل مادة من مواد العلم، فهناك حجرات معينة لكتب الفقه، وحجرات أخرى لكتب الطب، وهناك حجرات ثالثة لكتب الكيمياء ورابعة للبحوث السياسية وهكذا.
وكان في المكتبة المئات من الموظفين الذين يقومون على رعايتها، ويواظبون على استمرار تجديدها.. وكان هناك «النساخون» الذين ينسخون من كل كتاب أكثر من نسخة، وكان هناك «المناولون» الذين يناولون الناس الكتب من أماكنها المرتفعة، وكان هناك «المترجمون» الذين يترجمون الكتب الأجنبية، وكان هناك «الباحثون» الذين يبحثون لك عن نقطة معينة من نقاط العلم في هذه المكتبة الهائلة!
وكانت هناك غرف خاصة للمطالعة، وغرف خاصة للمدارسة وحلقات النقاش والندوات العلمية، وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، بل وكانت هناك غرف لإقامة طلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة!
نحن إذن نتحدث عن جامعة هائلة.. وليست مجرد مكتبة من المكتبات.
لقد حوت هذه المكتبة عصارة الفكر الإنساني في الدنيا بأسرها.
لقد كان المأمون يشترط على ملك الروم في معاهداته معه بعد انتصارات المأمون المشهورة عليه أن يسمح للمترجمين المسلمين بترجمة الكتب التي في مكتبة القسطنطينية.. وكان لخلفاء بني العباس موظفون يجوبون الأرض بحثًا عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم وتوضع في مكتبة بغداد بعد أن يتولاها علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل.
لقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية وغيرها.
هذه هي مكتبة بغداد!
المكتبة التي جمعت كل علوم الأرض في زمانها.
ماذا فعل التتار مع مكتبة بغداد الهائلة؟
لقد حمل التتار الكتب الثمينة.. ملايين الكتب الثمينة... وفي أَرْيَحيَّة شديدة -لا تخلو من حماقة وغباء- ألقوا بها جميعًا في نهر دجلة!
لقد كان الظن أن يحمل التتار هذه الكتب القيمة إلى «قراقورم» عاصمة المغول ليستفيدوا- وهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية- من هذا العلم النفيس.. لكن التتار أمة همجية.. لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم.. يعيشون للشهوات والملذات فقط.
لقد كان هدفهم في الدنيا هو تخريب الدنيا!
ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة.. حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب.. وحتى قيل أن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!
هذه جريمة ليست في حق المسلمين فقط.. بل في حق الإنسانية كلها!
وهي جريمة متكررة في التاريخ.
لقد فعلها الصليبيون النصارى في الأندلس -كما ذكرنا- في مكتبة قرطبة الهائلة.
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة أخرى في مكتبة غرناطة عند سقوطها، فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة!
وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها.
وفعلها الصليبيون النصارى في الشام في مكتبة طَرَابُلُس اللبنانية فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب.
وفعلها الصليبيون النصارى في فلسطين في مكتبات غزة والقدس وعسقلان.
ثم فعلها بعد ذلك المحتلون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكن هؤلاء كانوا أكثر ذكاء؛ فإنهم سرقوا الكتب ولم يحرقوها، ولكن أخذوها إلى أوربا، وما زالت المكتبات الكبرى في أوربا تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض.. ألّفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية.. ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوربا تفوق كثيرًا أعداد هذه المراجع المهمَّة في بلاد المسلمين أنفسهم!
لقد كان من هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم.. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها.. أو بتغيير مناهج التعليم -حاليًّا- حتى تفرغ من كل ما هو قيّم وثمين.. كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيدًا قيمة العلم في دين الإسلام.. ويعرفون كذلك قوَّة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم.
ونعود إلى التتار.. وإلى بغداد.
فبعد أن فرغ التتار من تدمير مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة، وإلى المباني الأنيقة فتناولوا جلها بالتدمير والحرق.. وسرقوا المحتويات الثمينة فيها، أما ما عجزوا عن حمله من المسروقات فقد أحرقوه! وظلوا كذلك حتى تحولت معظم ديار المدينة إلى ركام، وإلى خراب تتصاعد منه ألسنة النار والدخان.
واستمر هذا الوضع الأليم أربعين يومًا كاملة.. وامتلأت شوارع بغداد بتلال الجثث المتعفنة، واكتست الشوارع باللون الأحمر، وعم السكون البلدة، فلا يسمع أحد إلا أصوات ضحكات التتار الماجنة.. أو أصوات بكاء النساء والأطفال بعد أن فقدوا كل شيء.
وإلى الله المشتكى.
[1] عبد الملك بن حسين المكي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/519.
[2] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص123 بتصرف.