الدولة المدنية والدولة الدينية(3-3)هذه الورقة هي محاولة لإلقاء الضوء على فكرة الدولة، والدولة المدنية كما يراها مناصروها والدولة الدينية كما يراها مناصروها ومعارضوها، ومن ثم محاولة لطرح فكرة «الدولة المدنية بالمرجعية الإسلامية»، تتأصل وتؤثر في تطوير الفكر السياسي الإسلامي، لأننا يمكن أن نعترف وبوضوع أن ما
كتب في الإسلام حول السياسة والحكم قديماً وحديثاً، لا يساوي نقطة في بحر مما
كتب عن الإسلام في بقية الأصول والفروع، ربما لأن السياسة تعني الحكم والحكم يعني السلطة والسلطة تعني الغلبة، والغلبة تعني القوة والمال. حتى لو تطور الأمر إلى سفك دماء المعارضين. ما نطرحه هو محاولة لتوضيح صورة مشرقة عن الإسلام الذي أنتمي إليه وأعتز به، وأسأل الله أن ألقاه عليه، ليس في البال ولن تدور محاولة تسيس أو تدنيس أو تلفيق لصالح جهة أو رأي.
وأقول كما قال الإمام الشافعي «كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب»، ومثل من يأخذ عنا دون أن يعرف دليلنا، كمثل حاطب ليل لا يدري إن كان في حطبه أفعى تلدغه.
دولة مدنية ومرجعية إسلامية
إن الوسطية التي تظلل فهمنا، ليست وسطية تلفيقية أو أنصاف حلول. إنها منهج فكري وموقف أخلاقي ينبذ العنف والغلو من جهة والانحلال والتطرف من جهة أخرى، والإسلام بالإضافة لكونه مبادئ وأحكام ومقاصد فهو أيضا كسب بشري متواصل، فكل جيل مطالب أن يعيش تجربته الخاصة في الإسلام، وأن يستنبط من كليات أحكامه ومقاصده ما يكون من خلاله الاستجابة لما يطرح الواقع المتجدد من مشكلات، إذ لا فهم للثوابت إلا من خلال فهم متجدد، والتجديد إذ يراعي الثوابت التي حسمها الشرع، فإنه يتوجه إلى الفضاء الأوسع المرتبط بالواقع لإبداع الاختيارات الملائمة التي من شأنها إصلاح أحوال الناس. لا بد من حسم التوافقات التاريخية الكبرى ذات الصلة بقضايا المرجعية والمكونات الأساسية للهوية الوطنية.
إن الخطاب المدني ليس على قطيعة مع المصطلحات كالتعددية وحقوق الإنسان والدولة المدنية والمواطنة والتداول السلمي للسلطة، والمرجعية الإسلامية تستوعب كل ذلك.
العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام ليست علاقة توحد وليست علاقة فصل بين الثابت والمتغير، والمقدس والبشري، فهي علاقة الفروع المتغيرة بالأصول والأركان والمقاصد.
الإسلام لم يجعل الدولة أصلاً من أصوله الإعتقادية، ولا ركناً من أركانه ولا شعيرة من شعائره الثابتة، حتى تكون هناك مظلة لثباتها، فالغزالي يقول إن نظرية الإمام من الفرعيات، وكذا الجويني يقول إن الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد، وفق الشهرستاني والقرافي يُتوصل إلى تمييز الدين أو الرسالة عن الدولة أو الإمامة. فالرسول صل الله عليه وسلم في الرسالة مبلغ وفي الإمامة منشئ، وابن تيمية يقول إنها ليست من أركان الإسلام الخمسة، ولا من أركان الإسلام الستة، وابن خلدون يقول إنها من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق.
ورأس الدولة بشر مجتهد، هكذا أكد كثير ممن تولوا أمر المسلمين بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا افترقت العصمة عن رأس الدولة فعمالها يعزلون للعجز والجور والفسق، والرسول صل الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي يبلغ رسالة ربه، فقد شهدت ممارساته كحاكم للدولة تغيير رأيه في كثير من الأمور التي شاور فيها أصحابه، وهو يقول في آخر خطبة له (أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقدمني ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقدمني ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء ومن قبلي فإنها ليست من شأني).
خاضت الدولة الدينية في أوروبا الحروب الدينية لتجعل وبالإكراه كل رعيتها متدينة بدينها، لأنها وحدت بين الدين والدولة. أما الإسلام فمنذ اللحظة الأولى في المدينة فقد كانت وثيقة المدينة تنص على عدم حصر المواطنة فقط في المسلمين، بل نصت على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وحددت ما لهم من الحقوق والواجبات (يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فقرة 25, وحددت الوثيقة حدود الإقليم الجديد الدولة) في المدينة، وهو الذي أعطاهم حق المواطنة فيها وقالت الوثيقة برابطة الرعية السياسية (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة). فغير المسلم فيها مواطن يستوي مع المسلم في حقوق المواطنة وواجباتها وهذه غير الموالاة في الدين أي نصرة الدعوة. إن انتقاد الدولة الدينية في المفهوم الغربي، ينفي ضرورة الوحدة والتطابق في دين الدولة، فتمييز الدولة بين الثوابت الدينية والمتغيرات الدنيوية مع العلاقة بينها على النحو الذي تثمره الوسطية الإسلامية، يسمح بتمايز العقائد الدينية للرعية مع اجتماعها على الولاء للدولة.
إن ضرورة الدولة للمجتمع، ينبغي أن لا يتعارض مع كون الدولة من جنس المجتمع ودينه، فالقرآن فرض على المسلمين من الفرائض مما لا يمكن القيام به، إلا إذا كانت هناك دولة تتحقق في أركانها دعوة الإسلام، فالزكاة والقضاء والشورى والقيام بفريضة الدعوة والجهاد والعلم وعمارة الأرض، وتأكيد وجود ولاة للأمر (قادة الدولة)، وهؤلاء لا يقفون فقط عند حدود الطبقة الأولى، وإنما يشملون كل قادة الرأي وذوي الشوكة في الأمة.
إن
القاعدة التي تقول بما لا يتم الواجب إلا به، فهو ما يوجب على الدولة قيامها، ولا يمكن أن تؤدي الدولة مهامها إلا إذا كانت إسلامية.
نؤكد على أن الدولة اجتهاد بشري لا يحتكر التفكير لها، ولا تنفيذ دستورها جماعة من الناس أو فئة دون غيرها. إنها حق لكل من هو قادر على الوفاء بحقوقها، فهي ليست دولة
حزب أو جماعة مهما كبرت وامتدت، والحاكم فيها غير معصوم وتختاره الأمة بالشورى، وتبايعه لتنفيذ القانون الإسلامي بواسطة أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولا عصمة لأي أحد فيها. لا احتكار للسلطة أو الاستثمار بالسلطات. إن ديننا يقول عن المسلمين: يسعى بذمتهم أدناهم، وهذا الدين هو أشد أعداء احتكار السلطة، وكون سياسة الدولة اجتهاداً بشرياً يعني أنه لا يجوز لحاكمه القول إن حكمه هو حكم الله، فهناك تمييز بين حكم البشر وحكم الله.
الأمة الإسلامية هي مصدر الدولة تختار رأسها وأجهزتها بواسطة أهل الاختيار، الذين يتحدون وفق المصلحة وأعراف الناس والزمان، والأمة مصدر تقنين النصوص والتشريع بما لا نص فيه، وهي الرقيبة على مؤسسات الدولة وصاحبة السلطة في التغيير. عندما رفض الإمام مالك اقتراح المنصور أن يكون الموطأ هو وحده قانون قضاء الدولة، قال إن ذلك هو اجتهاد مالك وفي الأمة مجتهدون آخرون. أعطى ابن خلدون رأياً ربما لا يناسب البعض، فهو يقول:»إن أهل العلم الديني ككل المتبحرين بالعلم النظري، هم أبعد الناس عن إجادة الدولة، لحاجتها إلى العقلية العملية التي تراعي الواقع دون أن تغرق الواقع في النظريات «. هي دولة إسلامية لأنها اجتهاد إسلامي، وهي دولة مدنية تحدثنا فيها عن منطقة الفراغ والفضاء الأوسع، وهي تلك المساحة التي تركت الشريعة الإسلامية حق التشريع فيها لأولي الأمر، والسلطة المنتخبة مخولة بالإشراف لكي تصدر الحكم المناسب في الظروف المتطورة، على النحو الذي يضمن الأهداف العامة للشريعة.عندما تقول الآية الكريمة « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم» فنجد التفسير الأقرب لهذه الآية، أنها جعلت الخطاب بصيغة الجماعة فقالت «أولي» وهي تشير إلى عدم الانفراد بالسلطة، والثانية هي وجوب الطاعة في المساحة التي يرد فيها تكليف مباشر.
إن شمول رسالة الإسلام كما ذكرنا، وختمها للرسالات والنبوات لا بد أن تشتمل على كل ما يقتضيه النظام الاجتماعي للمصالح البشرية، بما فيه من عناصر ثابتة وأخرى متطورة أو متغيرة، فوجود مساحة لا بد أن تكون متغيرة هي التي تعطيها صلاحية الاستمرار الزماني, وإلا كان حالها كحال بقية الرسالات التي سبقتها، ولكنها أي الشريعة لم تجعل ملء هذه المنطقة جزافاً، بل لا بد من مراعاة عدة ضوابط لتحقيق هدفها، منها الضوابط المتعلقة بتعيين ولي الأمر ومنها تحديد منطقة الفراغ، ومنها التشريعات التي تملأها، وفي هذه الحالة هناك ثلاثة مجالات: مجال تشخيص الموضوعات، ومجال تشخيص الأهم والأصلح، ومجال المصالح الطارئة في دائرة المباحات.
نحن نفرق بين أمرين: الدين والفكر الديني.الدين تنزيل سماوي من قبل الله سبحانه وتعالى، والمنزل عليه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، المنزه عن مقتضيات الغفلة والنسيان والسهو والخطأ والاشتباه. أما الفكر الديني فهو قراءة بشرية للدين، قابلة لأن تصيب وتخطئ، ولكن ذلك لا يعني أن لا حقائق ثابتة في الفهم الديني. في المجال الأول هناك أمور ثابتة في العقيدة وأمور ثابتة في الشريعة، وهناك أمور متغيرة في الشريعة أو ما أطلق عليه الأحكام الأولية والأحكام الثانوية، ومما يدل على ذلك إقرار مبدأ الاجتهاد على مدى عصور الشريعة الإسلامية، حتى أن الرسول صل الله عليه وسلم عندما بعث معاذاً إلى اليمن كان من جملة ما قاله: «أجتهد في رأي ولا آلوا.
إن ربط النظام السياسي بمفهوم الخلافة، لا يعني أن هذا اللفظ نص مقدس، إنه رؤية بشرية لمؤسسة حكم بعد وفاة الرسول صل الله عليه وسلم، يُعنى بتنظيم رئاسة الدولة الإسلامية من اختيار رئيسها إلى مؤسساتها، وقد استعملت ألفاظ «خليفة رسول الله» و«أمير المؤمنين» و«الإمام» في المدلولات السياسية عبر التاريخ الإسلامي.
إن حديثنا عن المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، معناه التزام المرجعية الإسلامية في شأننا الديني التعبدي وفي شأننا الدنيوي، فإذا كانت قطعية الدلالة التزمنا بها، وان كانت ظنية اجتهد المؤهلون للاجتهاد في فهمها.
إن موضوع الشأن السياسي في أغلبه اجتهاد موكول إلى المؤهلين، فمن أين جاء شرط الاجتهاد للخليفة بأن يقود الجيوش وأن يبارز، وبقاؤه في منصبه مدى الحياة وشرط القرشية؟
لقد استقر الرأي الفقهي السياسي الإسلامي مثلاً، على أن الحاكم يبايع لمدة محدودة. إن من دواعي انتقاد الجور والظلم والاستبداد، عدم انفراد شخص أو
حزب أو جماعة أو طائفة بحكم الناس إلى مالا نهاية، وإنما تقييد ذلك بمدة زمنية. لقد تبلورت لديننا ثلاثة اجتهادات في مسألة الحكم: الشورى والبيعة عند أهل السنة، وولاية الفقيه عند
الشيعة الإمامية، وولاية الأمة على نفسها عند الإمام محمد مهدي شمس الدين (من الشيعة).
إن هناك قواعد عامة واجتهادية، يمكن أن تدخل ضمن تفاصيلها قواعد تفصيلية في الحياة السياسية منها: «الضرورات تبيح المحظورات، دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، تصرف الإمام منوط بتحقيق المصلحة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى والعدل والنهي عن الظلم، وحرية الرأي السياسي»، وفي ذلك يقول الإمام ابن باديس «فحق كل انسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياه هو مقدار ما عنده من حرية، والمعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيء من حياته، وما أرسل الله الرسل وما شرع لهم من الشرع إلا ليحيوا أحرارا، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحرية والحياة» ومنها قيمة المساواة، والحاكم ليس فوق المسألة. أبو بكر رضي الله عنه يقول «إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني».
إن صلاح حال الناس غاية أعظم من أن تحول بيننا وبينها عقلية جامدة أو همة قاعدة، والذين لا يقبلون من الآراء والأفكار إلا ما يجدونه عندهم مكتوباً في كتاب، يحكمون على الأمة بالبقاء حيث كانت.. يتقدم الآخرون ونتخلف نحن، والذين يرفضون كل فكرة سبقنا إليها غيرنا، أو اجتهد في تقريرها بعضنا، مهما كانت موافقة لمقتضى الشرع، يخطئون كل من سبقنا ولو لم يكن لهم به سابقة ولا عهد.
إن الدولة المدنية تؤكد التعددية، والدولة المدنية في المرجعية الإسلامية تؤمن بالتعددية، فالاختلاف سنة كونية، وإذا كان الاختلاف في أمر العقيدة مقبول، فالاختلاف في شأن الدنيا أكثر قبولاً، ولنا أن نقول ونحن مرتاحون إلى قولنا إن أسوأ صور الظلم وأبشع حالات الطغيان وأقساها، ما كان مستنداً إلى نظرة دينية، يساء فيها استخدام النصوص وتأويلها وفق أهواء الظالمين، أو يُدس على الدين ما ليس منه لتحقيق نزوة أو القضاء على خصم.
وفي موازاة التعددية نقف عند المرأة والعمل السياسي، فلا يوجد ما يمنع من أن تشتغل المرأة بالعمل العام ومنه العمل السياسي، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخاطبٌ به الرجال والنساء، والقرآن يتحدث عن الشورى مشمولاً بها الرجال والنساء، والوارد في الحديث «من رأى منكم منكراً فليغيره»، يشير إلى ألفاظ العموم. لقد شاركت المرأة في الجيوش وفي الهجرة إلى الحبشة وبيعة العقبة، وكا يدل موقف أم سلمة يوم الحديبية وموقف أم سليم في حنين وموقف حفصة يوم صفين، وموقف أسماء بنت أبي بكر مع الحجاج.
إن الفقه كما يقول الشيخ الغزالي «ليس قصة أنوثة أو ذكورة، إنها قصة أخلاق وقدرات، ومواهب نفسية واستعدادات علمية قد تتوفر في امرأة ذات دين خير من ذي لحية ذكور.
إن بيعة النساء يوم العقبة كانت بيعة سياسية، وتولية الشفاء بنت عبدالله الحسبة على السوق، والحسبة ولاية عامة من ولايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما سمراء بنت نهيك الأسدية الإسلامية، فقد تولت هي الأخرى حسبة السوق وأعطاها عمر سوطاً كانت تؤدب به المخالفين والمخالفات.
إن قصر الحقوق السياسية على الرجال دون النساء، أمرٌ لا يقره الإسلام، وقد قال الإمام أبو حنيفة بتولي المرأة القضاء في ما تجوز فيه شهادتها، والإمام مالك أجاز توليها الإمارة.
إن أصل المساواة بين الرجال والنساء في الخلق، وفي الحقوق والواجبات ينصرف إلى حق المرأة كالرجل سواء بسواء في المساهمة في العمل العام وولايته، لا تصرفه عنه ولا تمنعه منها إلا الصوارف الخاصة التي مثلها ما يصرف
الرجل ويمنعه.
وعليه فإن الدولة التي نشأت في حضن الإسلام هي «الدولة التاريخية» لها ما لها وعليها ما عليها، وهي ليست النموذج المقدس، ولا النص الذي لا يحتمل النقاش، ففي الغالب لم تكن دولة عقيدة دينية عبادية ولم تنشأ من داخل الإيمان، ولكنها كانت دولة المسلمين التاريخية، ونشأت بين المسلمين بصفتهم بشراً.
يقول الدكتور برهان غليون «ومن الواضح بالنسبة إلي أن الناس لا يتنازعون في هذا السياق على تعيين حقيقة الإسلام، أو على معرفة جوهر رسالته وإنما يرتبط نزاعهم النظري بالصراع على السلطة الذي تستغرقه مسألتان: تداول السلطة، وعلاقة الدولة ومؤسساتها بالمجتمع.
إننا بحاجة إلى التأشير على مجموعة من القضايا منها:
- الدولة الإسلامية اختيار منهجي وحضاري، ولا تنجح تجربة سياسية في مجتمع لا يأخذ بعين الاعتبار بنية هذا المجتمع وثقافته وعقيدته التي تتحكم بسلوكه.
- إن غير المسلمين مصانة حقوقهم في الدولة الإسلامية ضمن مبدأ المواطنة، بما فيها الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية.
- هناك مجالات واسعة لتطبيق القانون الوضعي في الحياة العامة، انطلاقاً من مساحة الفراغ والقواعد العامة الكلية للشريعة.
- هناك مرونة في التشريع وحركية في الاجتهاد.
- إن كثيراً من مبادئ الديمقراطية الغربية في إعلان مبدأ سيادة الشعب وهو مصدر السلطة، وسيادته يمارسها من خلال جملة من التقنيات الدستورية، وتتفق حول مبادئ المساواة والانتخاب وفصل السلطات والتعددية السياسية وحرية التعبير والاعتقاد، والإقرار للأغلبية بحق الحكم والتقرير للأقلية بحق
المعارضة، والانتقال من حكم الفرد إلى حكم القانون، الأمر الذي يجعل سلوك الحكومة خاضعاً للقانون، وأن تحترم الحكومة القيم والأهداف الأساسية للمجتمع.. هذه المبادئ كلها تتلاقى مع جوهر النظرة الإسلامية لعلاقة الفرد مع الدولة وموقفه منها ووظيفة الدولة في المجتمع، مع التركيز على المرجعية الإسلامية.
- إن النص والشورى بمفاهيمها السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية وغيرها من المضامين، هي أداة أساسية لتنفيذ الوجهة الإيجابية للحكم الإسلامي.
- إن هناك ضمانات لعدم الجور في الدولة الإسلامية، باعتبار أن المشروعية العليا في الدولة هي لله، واعتبار عقد النيابة عقد وكالة خاص ومنع الحاكم من الجمع بين
التجارة والإمارة، وإقامة نظام اقتصادي يتضمن عدم تركيز الثروة، ونظام اجتماعي يؤكد على احترام الفرد وقيمة العمل ونظام تربوي يشيع المعرفة والفضيلة.
- تؤكد السلطة الإسلامية مبدأ استقلال القضاء.
- إن تأكيد قيمة الحرية والقبول بحق الاختلاف والتعددية والعدالة والتسامح والنظام، وروح العمل الجماعي والتناصر في مقاومة الظلم والجور، وحب الحقيقة واحترام إرادة الأمة، وترويض المشروعات الفردية نزولاً عند رأي الجماعة وتداول السلطة، والتمسك بالسلم والتعاون والتقدم كلها أمور أقرها الإسلام ضمن سلطة السياسة.
- لقد كفلت السلطة السياسية الحرية الدينية والسياسية، وحرية العمل وحرية الرأي.
إن مصطلح المجتمع المدني، والدولة المدنية لا يتعارض مع الأصول والمبادئ والقواعد العامة للنظام السياسي الإسلامي. إن المؤسسات التي يصوغها المجتمع المدني تدخل جميعها ضمن نظام الدولة في الإسلام. لقد شدد الإسلام من خلال نصوصه على المدنية كحالة في مواجهة البداوة، وحتى أن اسم يثرب قد تغير وأصبح أسمها المدينة، ومن المبدأ نفسه عمل الإسلام مشدداً على القيم المدنية لارتباطها بمغزى سياسي يمثل نواة قيام الدولة بشكل مؤسسي.
لقد نصت معظم الدساتير في البلاد العربية على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وأن الإسلام هو المصدر الأسمى للتشريع أو هو المصدر الأول للتشريع، وأن قوانيتن الأحوال الشخصية ما زالت مطبقة، من هنا سيكون المدخل لكل من ينادي بدولة مدنية بمرجعية إسلامية.
*مفكر ودبلوماسي اردني
الدولة المدنية والدولة الدينية(3-3)مصدر:
السبيل GMT 02:05 15/11/2016 Tweet هذه الورقة هي محاولة لإلقاء الضوء على فكرة الدولة، والدولة المدنية كما يراها مناصروها والدولة الدينية كما يراها مناصروها ومعارضوها، ومن ثم محاولة لطرح فكرة «الدولة المدنية بالمرجعية الإسلامية»، تتأصل وتؤثر في تطوير الفكر السياسي الإسلامي، لأننا يمكن أن نعترف وبوضوع أن ما
كتب في الإسلام حول السياسة والحكم قديماً وحديثاً، لا يساوي نقطة في بحر مما
كتب عن الإسلام في بقية الأصول والفروع، ربما لأن السياسة تعني الحكم والحكم يعني السلطة والسلطة تعني الغلبة، والغلبة تعني القوة والمال. حتى لو تطور الأمر إلى سفك دماء المعارضين. ما نطرحه هو محاولة لتوضيح صورة مشرقة عن الإسلام الذي أنتمي إليه وأعتز به، وأسأل الله أن ألقاه عليه، ليس في البال ولن تدور محاولة تسيس أو تدنيس أو تلفيق لصالح جهة أو رأي.
وأقول كما قال الإمام الشافعي «كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب»، ومثل من يأخذ عنا دون أن يعرف دليلنا، كمثل حاطب ليل لا يدري إن كان في حطبه أفعى تلدغه.
دولة مدنية ومرجعية إسلامية
إن الوسطية التي تظلل فهمنا، ليست وسطية تلفيقية أو أنصاف حلول. إنها منهج فكري وموقف أخلاقي ينبذ العنف والغلو من جهة والانحلال والتطرف من جهة أخرى، والإسلام بالإضافة لكونه مبادئ وأحكام ومقاصد فهو أيضا كسب بشري متواصل، فكل جيل مطالب أن يعيش تجربته الخاصة في الإسلام، وأن يستنبط من كليات أحكامه ومقاصده ما يكون من خلاله الاستجابة لما يطرح الواقع المتجدد من مشكلات، إذ لا فهم للثوابت إلا من خلال فهم متجدد، والتجديد إذ يراعي الثوابت التي حسمها الشرع، فإنه يتوجه إلى الفضاء الأوسع المرتبط بالواقع لإبداع الاختيارات الملائمة التي من شأنها إصلاح أحوال الناس. لا بد من حسم التوافقات التاريخية الكبرى ذات الصلة بقضايا المرجعية والمكونات الأساسية للهوية الوطنية.
إن الخطاب المدني ليس على قطيعة مع المصطلحات كالتعددية وحقوق الإنسان والدولة المدنية والمواطنة والتداول السلمي للسلطة، والمرجعية الإسلامية تستوعب كل ذلك.
العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام ليست علاقة توحد وليست علاقة فصل بين الثابت والمتغير، والمقدس والبشري، فهي علاقة الفروع المتغيرة بالأصول والأركان والمقاصد.
الإسلام لم يجعل الدولة أصلاً من أصوله الإعتقادية، ولا ركناً من أركانه ولا شعيرة من شعائره الثابتة، حتى تكون هناك مظلة لثباتها، فالغزالي يقول إن نظرية الإمام من الفرعيات، وكذا الجويني يقول إن الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد، وفق الشهرستاني والقرافي يُتوصل إلى تمييز الدين أو الرسالة عن الدولة أو الإمامة. فالرسول صل الله عليه وسلم في الرسالة مبلغ وفي الإمامة منشئ، وابن تيمية يقول إنها ليست من أركان الإسلام الخمسة، ولا من أركان الإسلام الستة، وابن خلدون يقول إنها من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق.
ورأس الدولة بشر مجتهد، هكذا أكد كثير ممن تولوا أمر المسلمين بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا افترقت العصمة عن رأس الدولة فعمالها يعزلون للعجز والجور والفسق، والرسول صل الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي يبلغ رسالة ربه، فقد شهدت ممارساته كحاكم للدولة تغيير رأيه في كثير من الأمور التي شاور فيها أصحابه، وهو يقول في آخر خطبة له (أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقدمني ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقدمني ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخش الشحناء ومن قبلي فإنها ليست من شأني).
خاضت الدولة الدينية في أوروبا الحروب الدينية لتجعل وبالإكراه كل رعيتها متدينة بدينها، لأنها وحدت بين الدين والدولة. أما الإسلام فمنذ اللحظة الأولى في المدينة فقد كانت وثيقة المدينة تنص على عدم حصر المواطنة فقط في المسلمين، بل نصت على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وحددت ما لهم من الحقوق والواجبات (يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فقرة 25, وحددت الوثيقة حدود الإقليم الجديد الدولة) في المدينة، وهو الذي أعطاهم حق المواطنة فيها وقالت الوثيقة برابطة الرعية السياسية (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة). فغير المسلم فيها مواطن يستوي مع المسلم في حقوق المواطنة وواجباتها وهذه غير الموالاة في الدين أي نصرة الدعوة. إن انتقاد الدولة الدينية في المفهوم الغربي، ينفي ضرورة الوحدة والتطابق في دين الدولة، فتمييز الدولة بين الثوابت الدينية والمتغيرات الدنيوية مع العلاقة بينها على النحو الذي تثمره الوسطية الإسلامية، يسمح بتمايز العقائد الدينية للرعية مع اجتماعها على الولاء للدولة.
إن ضرورة الدولة للمجتمع، ينبغي أن لا يتعارض مع كون الدولة من جنس المجتمع ودينه، فالقرآن فرض على المسلمين من الفرائض مما لا يمكن القيام به، إلا إذا كانت هناك دولة تتحقق في أركانها دعوة الإسلام، فالزكاة والقضاء والشورى والقيام بفريضة الدعوة والجهاد والعلم وعمارة الأرض، وتأكيد وجود ولاة للأمر (قادة الدولة)، وهؤلاء لا يقفون فقط عند حدود الطبقة الأولى، وإنما يشملون كل قادة الرأي وذوي الشوكة في الأمة.
إن
القاعدة التي تقول بما لا يتم الواجب إلا به، فهو ما يوجب على الدولة قيامها، ولا يمكن أن تؤدي الدولة مهامها إلا إذا كانت إسلامية.
نؤكد على أن الدولة اجتهاد بشري لا يحتكر التفكير لها، ولا تنفيذ دستورها جماعة من الناس أو فئة دون غيرها. إنها حق لكل من هو قادر على الوفاء بحقوقها، فهي ليست دولة
حزب أو جماعة مهما كبرت وامتدت، والحاكم فيها غير معصوم وتختاره الأمة بالشورى، وتبايعه لتنفيذ القانون الإسلامي بواسطة أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولا عصمة لأي أحد فيها. لا احتكار للسلطة أو الاستثمار بالسلطات. إن ديننا يقول عن المسلمين: يسعى بذمتهم أدناهم، وهذا الدين هو أشد أعداء احتكار السلطة، وكون سياسة الدولة اجتهاداً بشرياً يعني أنه لا يجوز لحاكمه القول إن حكمه هو حكم الله، فهناك تمييز بين حكم البشر وحكم الله.
الأمة الإسلامية هي مصدر الدولة تختار رأسها وأجهزتها بواسطة أهل الاختيار، الذين يتحدون وفق المصلحة وأعراف الناس والزمان، والأمة مصدر تقنين النصوص والتشريع بما لا نص فيه، وهي الرقيبة على مؤسسات الدولة وصاحبة السلطة في التغيير. عندما رفض الإمام مالك اقتراح المنصور أن يكون الموطأ هو وحده قانون قضاء الدولة، قال إن ذلك هو اجتهاد مالك وفي الأمة مجتهدون آخرون. أعطى ابن خلدون رأياً ربما لا يناسب البعض، فهو يقول:»إن أهل العلم الديني ككل المتبحرين بالعلم النظري، هم أبعد الناس عن إجادة الدولة، لحاجتها إلى العقلية العملية التي تراعي الواقع دون أن تغرق الواقع في النظريات «. هي دولة إسلامية لأنها اجتهاد إسلامي، وهي دولة مدنية تحدثنا فيها عن منطقة الفراغ والفضاء الأوسع، وهي تلك المساحة التي تركت الشريعة الإسلامية حق التشريع فيها لأولي الأمر، والسلطة المنتخبة مخولة بالإشراف لكي تصدر الحكم المناسب في الظروف المتطورة، على النحو الذي يضمن الأهداف العامة للشريعة.عندما تقول الآية الكريمة « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم» فنجد التفسير الأقرب لهذه الآية، أنها جعلت الخطاب بصيغة الجماعة فقالت «أولي» وهي تشير إلى عدم الانفراد بالسلطة، والثانية هي وجوب الطاعة في المساحة التي يرد فيها تكليف مباشر.
إن شمول رسالة الإسلام كما ذكرنا، وختمها للرسالات والنبوات لا بد أن تشتمل على كل ما يقتضيه النظام الاجتماعي للمصالح البشرية، بما فيه من عناصر ثابتة وأخرى متطورة أو متغيرة، فوجود مساحة لا بد أن تكون متغيرة هي التي تعطيها صلاحية الاستمرار الزماني, وإلا كان حالها كحال بقية الرسالات التي سبقتها، ولكنها أي الشريعة لم تجعل ملء هذه المنطقة جزافاً، بل لا بد من مراعاة عدة ضوابط لتحقيق هدفها، منها الضوابط المتعلقة بتعيين ولي الأمر ومنها تحديد منطقة الفراغ، ومنها التشريعات التي تملأها، وفي هذه الحالة هناك ثلاثة مجالات: مجال تشخيص الموضوعات، ومجال تشخيص الأهم والأصلح، ومجال المصالح الطارئة في دائرة المباحات.
نحن نفرق بين أمرين: الدين والفكر الديني.الدين تنزيل سماوي من قبل الله سبحانه وتعالى، والمنزل عليه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، المنزه عن مقتضيات الغفلة والنسيان والسهو والخطأ والاشتباه. أما الفكر الديني فهو قراءة بشرية للدين، قابلة لأن تصيب وتخطئ، ولكن ذلك لا يعني أن لا حقائق ثابتة في الفهم الديني. في المجال الأول هناك أمور ثابتة في العقيدة وأمور ثابتة في الشريعة، وهناك أمور متغيرة في الشريعة أو ما أطلق عليه الأحكام الأولية والأحكام الثانوية، ومما يدل على ذلك إقرار مبدأ الاجتهاد على مدى عصور الشريعة الإسلامية، حتى أن الرسول صل الله عليه وسلم عندما بعث معاذاً إلى اليمن كان من جملة ما قاله: «أجتهد في رأي ولا آلوا.
إن ربط النظام السياسي بمفهوم الخلافة، لا يعني أن هذا اللفظ نص مقدس، إنه رؤية بشرية لمؤسسة حكم بعد وفاة الرسول صل الله عليه وسلم، يُعنى بتنظيم رئاسة الدولة الإسلامية من اختيار رئيسها إلى مؤسساتها، وقد استعملت ألفاظ «خليفة رسول الله» و«أمير المؤمنين» و«الإمام» في المدلولات السياسية عبر التاريخ الإسلامي.
إن حديثنا عن المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، معناه التزام المرجعية الإسلامية في شأننا الديني التعبدي وفي شأننا الدنيوي، فإذا كانت قطعية الدلالة التزمنا بها، وان كانت ظنية اجتهد المؤهلون للاجتهاد في فهمها.
إن موضوع الشأن السياسي في أغلبه اجتهاد موكول إلى المؤهلين، فمن أين جاء شرط الاجتهاد للخليفة بأن يقود الجيوش وأن يبارز، وبقاؤه في منصبه مدى الحياة وشرط القرشية؟
لقد استقر الرأي الفقهي السياسي الإسلامي مثلاً، على أن الحاكم يبايع لمدة محدودة. إن من دواعي انتقاد الجور والظلم والاستبداد، عدم انفراد شخص أو
حزب أو جماعة أو طائفة بحكم الناس إلى مالا نهاية، وإنما تقييد ذلك بمدة زمنية. لقد تبلورت لديننا ثلاثة اجتهادات في مسألة الحكم: الشورى والبيعة عند أهل السنة، وولاية الفقيه عند
الشيعة الإمامية، وولاية الأمة على نفسها عند الإمام محمد مهدي شمس الدين (من الشيعة).
إن هناك قواعد عامة واجتهادية، يمكن أن تدخل ضمن تفاصيلها قواعد تفصيلية في الحياة السياسية منها: «الضرورات تبيح المحظورات، دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، تصرف الإمام منوط بتحقيق المصلحة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى والعدل والنهي عن الظلم، وحرية الرأي السياسي»، وفي ذلك يقول الإمام ابن باديس «فحق كل انسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياه هو مقدار ما عنده من حرية، والمعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيء من حياته، وما أرسل الله الرسل وما شرع لهم من الشرع إلا ليحيوا أحرارا، وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحرية والحياة» ومنها قيمة المساواة، والحاكم ليس فوق المسألة. أبو بكر رضي الله عنه يقول «إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني».
إن صلاح حال الناس غاية أعظم من أن تحول بيننا وبينها عقلية جامدة أو همة قاعدة، والذين لا يقبلون من الآراء والأفكار إلا ما يجدونه عندهم مكتوباً في كتاب، يحكمون على الأمة بالبقاء حيث كانت.. يتقدم الآخرون ونتخلف نحن، والذين يرفضون كل فكرة سبقنا إليها غيرنا، أو اجتهد في تقريرها بعضنا، مهما كانت موافقة لمقتضى الشرع، يخطئون كل من سبقنا ولو لم يكن لهم به سابقة ولا عهد.
إن الدولة المدنية تؤكد التعددية، والدولة المدنية في المرجعية الإسلامية تؤمن بالتعددية، فالاختلاف سنة كونية، وإذا كان الاختلاف في أمر العقيدة مقبول، فالاختلاف في شأن الدنيا أكثر قبولاً، ولنا أن نقول ونحن مرتاحون إلى قولنا إن أسوأ صور الظلم وأبشع حالات الطغيان وأقساها، ما كان مستنداً إلى نظرة دينية، يساء فيها استخدام النصوص وتأويلها وفق أهواء الظالمين، أو يُدس على الدين ما ليس منه لتحقيق نزوة أو القضاء على خصم.
وفي موازاة التعددية نقف عند المرأة والعمل السياسي، فلا يوجد ما يمنع من أن تشتغل المرأة بالعمل العام ومنه العمل السياسي، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخاطبٌ به الرجال والنساء، والقرآن يتحدث عن الشورى مشمولاً بها الرجال والنساء، والوارد في الحديث «من رأى منكم منكراً فليغيره»، يشير إلى ألفاظ العموم. لقد شاركت المرأة في الجيوش وفي الهجرة إلى الحبشة وبيعة العقبة، وكا يدل موقف أم سلمة يوم الحديبية وموقف أم سليم في حنين وموقف حفصة يوم صفين، وموقف أسماء بنت أبي بكر مع الحجاج.
إن الفقه كما يقول الشيخ الغزالي «ليس قصة أنوثة أو ذكورة، إنها قصة أخلاق وقدرات، ومواهب نفسية واستعدادات علمية قد تتوفر في امرأة ذات دين خير من ذي لحية ذكور.
إن بيعة النساء يوم العقبة كانت بيعة سياسية، وتولية الشفاء بنت عبدالله الحسبة على السوق، والحسبة ولاية عامة من ولايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما سمراء بنت نهيك الأسدية الإسلامية، فقد تولت هي الأخرى حسبة السوق وأعطاها عمر سوطاً كانت تؤدب به المخالفين والمخالفات.
إن قصر الحقوق السياسية على الرجال دون النساء، أمرٌ لا يقره الإسلام، وقد قال الإمام أبو حنيفة بتولي المرأة القضاء في ما تجوز فيه شهادتها، والإمام مالك أجاز توليها الإمارة.
إن أصل المساواة بين الرجال والنساء في الخلق، وفي الحقوق والواجبات ينصرف إلى حق المرأة كالرجل سواء بسواء في المساهمة في العمل العام وولايته، لا تصرفه عنه ولا تمنعه منها إلا الصوارف الخاصة التي مثلها ما يصرف
الرجل ويمنعه.
وعليه فإن الدولة التي نشأت في حضن الإسلام هي «الدولة التاريخية» لها ما لها وعليها ما عليها، وهي ليست النموذج المقدس، ولا النص الذي لا يحتمل النقاش، ففي الغالب لم تكن دولة عقيدة دينية عبادية ولم تنشأ من داخل الإيمان، ولكنها كانت دولة المسلمين التاريخية، ونشأت بين المسلمين بصفتهم بشراً.
يقول الدكتور برهان غليون «ومن الواضح بالنسبة إلي أن الناس لا يتنازعون في هذا السياق على تعيين حقيقة الإسلام، أو على معرفة جوهر رسالته وإنما يرتبط نزاعهم النظري بالصراع على السلطة الذي تستغرقه مسألتان: تداول السلطة، وعلاقة الدولة ومؤسساتها بالمجتمع.
إننا بحاجة إلى التأشير على مجموعة من القضايا منها:
- الدولة الإسلامية اختيار منهجي وحضاري، ولا تنجح تجربة سياسية في مجتمع لا يأخذ بعين الاعتبار بنية هذا المجتمع وثقافته وعقيدته التي تتحكم بسلوكه.
- إن غير المسلمين مصانة حقوقهم في الدولة الإسلامية ضمن مبدأ المواطنة، بما فيها الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية.
- هناك مجالات واسعة لتطبيق القانون الوضعي في الحياة العامة، انطلاقاً من مساحة الفراغ والقواعد العامة الكلية للشريعة.
- هناك مرونة في التشريع وحركية في الاجتهاد.
- إن كثيراً من مبادئ الديمقراطية الغربية في إعلان مبدأ سيادة الشعب وهو مصدر السلطة، وسيادته يمارسها من خلال جملة من التقنيات الدستورية، وتتفق حول مبادئ المساواة والانتخاب وفصل السلطات والتعددية السياسية وحرية التعبير والاعتقاد، والإقرار للأغلبية بحق الحكم والتقرير للأقلية بحق
المعارضة، والانتقال من حكم الفرد إلى حكم القانون، الأمر الذي يجعل سلوك الحكومة خاضعاً للقانون، وأن تحترم الحكومة القيم والأهداف الأساسية للمجتمع.. هذه المبادئ كلها تتلاقى مع جوهر النظرة الإسلامية لعلاقة الفرد مع الدولة وموقفه منها ووظيفة الدولة في المجتمع، مع التركيز على المرجعية الإسلامية.
- إن النص والشورى بمفاهيمها السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية وغيرها من المضامين، هي أداة أساسية لتنفيذ الوجهة الإيجابية للحكم الإسلامي.
- إن هناك ضمانات لعدم الجور في الدولة الإسلامية، باعتبار أن المشروعية العليا في الدولة هي لله، واعتبار عقد النيابة عقد وكالة خاص ومنع الحاكم من الجمع بين
التجارة والإمارة، وإقامة نظام اقتصادي يتضمن عدم تركيز الثروة، ونظام اجتماعي يؤكد على احترام الفرد وقيمة العمل ونظام تربوي يشيع المعرفة والفضيلة.
- تؤكد السلطة الإسلامية مبدأ استقلال القضاء.
- إن تأكيد قيمة الحرية والقبول بحق الاختلاف والتعددية والعدالة والتسامح والنظام، وروح العمل الجماعي والتناصر في مقاومة الظلم والجور، وحب الحقيقة واحترام إرادة الأمة، وترويض المشروعات الفردية نزولاً عند رأي الجماعة وتداول السلطة، والتمسك بالسلم والتعاون والتقدم كلها أمور أقرها الإسلام ضمن سلطة السياسة.
- لقد كفلت السلطة السياسية الحرية الدينية والسياسية، وحرية العمل وحرية الرأي.
إن مصطلح المجتمع المدني، والدولة المدنية لا يتعارض مع الأصول والمبادئ والقواعد العامة للنظام السياسي الإسلامي. إن المؤسسات التي يصوغها المجتمع المدني تدخل جميعها ضمن نظام الدولة في الإسلام. لقد شدد الإسلام من خلال نصوصه على المدنية كحالة في مواجهة البداوة، وحتى أن اسم يثرب قد تغير وأصبح أسمها المدينة، ومن المبدأ نفسه عمل الإسلام مشدداً على القيم المدنية لارتباطها بمغزى سياسي يمثل نواة قيام الدولة بشكل مؤسسي.
لقد نصت معظم الدساتير في البلاد العربية على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وأن الإسلام هو المصدر الأسمى للتشريع أو هو المصدر الأول للتشريع، وأن قوانيتن الأحوال الشخصية ما زالت مطبقة، من هنا سيكون المدخل لكل من ينادي بدولة مدنية بمرجعية إسلامية.
*مفكر ودبلوماسي اردني