تُعَدُّ مدينة أنطاكية من أهم المدن في منطقة الشام وآسيا الصغرى، بل لا نبالغ إن قلنا إنها كانت من أهم مدن العالم القديم بأسره، وذلك لمميزات خاصَّة تفوقت بها هذه المدينة على غيرها. فهي أولاً: مدينة رئيسية منذ قديم الزمان، كانت تتخذها الدولة البيزنطية قديمًا عاصمة لمنطقة الشام بكاملها ولعدة قرون. وثانيًا: هي مدينة دينية من الطراز الأول، حيث يعظِّم النصارى شأنها جدًّا، فهي أول مدينة أطلق فيها على أتباع المسيح اسم المسيحيين، وذلك كما جاء في سِفْر أعمال الرسل: "ودُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً"[1]. وفي هذه المدينة أسَّس القديس بطرس أول أسقفية له[2]. وثالثًا: وصل الفتح الإسلامي إلى هذه المدينة مبكرًا جدًّا، ففتحت بالإسلام في سنة (15هـ) 636م على يد المجاهد الجليل أبي عبيدة بن الجراح ، فهي إسلامية منذ أكثر من 460 سنة[3]. ويرجع الفضل في تحويلها إلى منطقة إسلامية واضحة المعالم إلى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ، الذي لاحظ تكرار الهجمات البيزنطية على هذه المدينة بالذات، فقرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان، بل ومن العراق، ليستوطنوا في هذه المنطقة، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين، وصارت المدينة إسلامية آمنة، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش وطرسوس وملطية وغيرها[4]. ورابعًا: فهذه المدينة صاحبة تاريخٍ تجاريٍّ عظيم، فهي من أهم المراكز الاقتصادية في المنطقة، بل إنها كانت من مراكز التبادل التجاري المشهورة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية في الفترات التي كان السِّلم يغلب فيها على العَلاقة بين الدولتين[5]. وخامسًا: تُعَدُّ هذه المدينة من أحصن مدن الشام، بل من أحصن مدن العالم آنذاك، وكانوا يقارنون حصانتها بحصانة القسطنطينية أحصن مدن العالم القديم[6]. ولعلنا إذا نظرنا نظرة سريعة إلى جغرافيتها ندرك مدى الحصانة الطبيعية التي وهبها الله لهذه المدينة، فضلاً عن القلاع والحصون؛ فالمدينة محاطة بالجبال العالية من جهتي الجنوب والشرق، ويحدها من الغرب نهر العاصي، وهي محاطة أيضًا من الشمال بمستنقعات وأحراش. وفوق هذه الحماية الطبيعية فهي محاطة بأسوارٍ عالية من كل جانب، وعلى هذه الأسوار ثلاثمائة وستون برجًا للمراقبة وإطلاق السهام والرماح والقذائف المشتعلة، فضلاً عن قلعة حصينة جدًّا من الصعب أن تُقتحم. سادسًا: تقع هذه المدينة على أول طريق الشام للقادمين من آسيا الصغرى[7]، وعلى ذلك فسقوطها يعني فتح الطريق للشام، كما أن بقاءها بما فيها من جنود وحامية يجعل تجاوزها دون إسقاط أمرًا في غاية الخطورة؛ لذلك لم يكن هناك بُدٌّ للصليبيين من التوقف أمامها. سابعًا: هذه المدينة وإن كانت مدينة داخلية غير ساحلية إلا أنها على مقربة جدًّا من البحر الأبيض المتوسط وموانئ السويدية واللاذقية، مما يجعل وصول المؤن إليها عن طريق البحر أمرًا ممكنًا بل ميسورًا. ثامنًا: التركيبة السكانية في داخل أنطاكية كان لها طابع خاص جدًّا، فعلى الرغم من قدم توطُّن المسلمين فيها إلا أنه كان بها أعدادٌ كبيرة من النصارى الأرثوذكس، وأيضًا من النصارى الأرمن؛ وذلك للأهمية الدينية لهذه المدينة عندهم، وقد عاشوا قرونًا طويلة مع المسلمين في هذه المدينة في تعايش جميل، لم يعكر صفوه على مدار السنين فتنة طائفية ولا اضطهاد عنصري. تاسعًا: التاريخ القريب لهذه المدينة شهد بعض التغيرات التي أضافت بعض التعقيدات إلى القصة، فهذه المدينة سقطت في أيدي الدولة البيزنطية في (358هـ) أول نوفمبر سنة 969م، في عهد الإمبراطور نقفور فوقاس[8]، وأحدث سقوطها دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي، فهي وقت سقوطها كان قد مرَّ عليها أكثر من ثلاثة قرون بأيدي المسلمين، وهي في نفس الوقت المدينة الدينية المعظَّمة عند عموم العالم المسيحي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي. كما أن الدولة البيزنطية بعد سقوطها قتلت الكثير من أهلها، وأخرجت الباقي، وهجَّرتهم خارجها، واستقدمت جموعًا هائلة من المسيحيين ليعيشوا فيها، وظل الوضع على هذه الصورة إلى العقد الثامن من القرن الحادي عشر، أي بعد موقعة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ) 1071م؛ حيث شهدت منطقة أنطاكية هجرة مزدوجة من السلاجقة والأرمن، مما أدى إلى تغيُّر الخريطة السكانية من جديد، بل إن العنصر الأرمني غلب على التوزيعة الجديدة. وقد أدى الانهيار البيزنطي أمام السلاجقة إلى سعي الدولة البيزنطية إلى التعاون مع الأرمن -على كراهيتها لهم- لمقاومة السلاجقة؛ وهذا أدى إلى رسوخ قدم أكبر في المنطقة، بل تطاول الأرمن أكثر وأكثر، وخرجوا عن تبعية الدولة البيزنطية، وحاصر أحد أكبر قادتهم وهو فيلاريتوس مدينة الرها، واستولى عليها من البيزنطيين، وذلك في سنة (469هـ) 1077م، ثم في السنة التالية مباشرة (470هـ) 1078م استطاع فيلاريتوس أن يستولي على أنطاكية ذاتها بعد قتل آخر حاكم بيزنطي لها[9]. غير أن الأرمن لم يحكموا أنطاكية إلا سبع سنوات فقط، حيث سقطت في يد سليمان بن قُتلمش مؤسِّس دولة سلاجقة الروم، وذلك في سنة (477هـ) 1085م[10]، ليبدأ فيها حكمًا إسلاميًّا من جديد بعد غياب 119 سنة متصلة. ومن جديد بدأ السلاجقة وعموم المسلمين يتزايدون في المدينة، وذلك جنبًا إلى جنب مع النصارى الأرثوذكس على أَتْباع المذهب البيزنطي، والأرمن الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة. وهذا التاريخ القريب -كما نرى- أعطى تعقيدًا واضحًا للموقف، فأنطاكية متنازعٌ عليها بوضوح من الطوائف الثلاثة: المسلمين بقيادة السلاجقة، والدولة البيزنطية والأرمن، إضافةً إلى القوة الجديدة القادمة من أوربا الغربية! عاشرًا وأخيرًا: أنطاكية بالذات حلم كبير في ذهن بوهيموند، الزعيم النورماندي الشرس، فهو لا ينسى أنها كانت أُمْنيَّة أبيه روبرت جويسكارد زعيم النورمان الإيطاليين الشهير، وأن أباه أرسل جيشًا قبل ذلك بسبعة عشر عامًا، وبالتحديد في سنة (473هـ) 1081م لإسقاط أنطاكية، وكان على رأس هذا الجيش بوهيموند نفسه، ولكن هذا الجيش فشل في إسقاط المدينة الحصينة، والفشل في عُرْف هؤلاء القراصنة عار كبير، فهم لا يعيشون إلا على السلب والنهب والسرقة والقنص. ولذلك فإن بوهيموند لم ينس أنطاكية أبدًا، ويأخذ القضية كثأر قديم، ويضحِّي بكل شيء من أجل استحواذها، وليس في ذهنه دين ولا صليب، ولا يتحرك قلبه لقدس أو حجيج، ولا يخشى في ذلك إمبراطور الدولة البيزنطية الذي تظاهر بالصداقة له، ولا زعماء الحملة الصليبية الذين يصاحبونه في هذه العمليات الإجرامية. إن المسألة عنده مسألة شخصيَّة تمامًا، وسيبيع كل شيء ويشتري أنطاكية! هذه أمور عشرة جعلت قضية أنطاكية قضية معقدة جدًّا، وهي محطُّ أنظار الجميع، وعليها سيكون التنافس بين كل القوى الموجودة في المنطقة. د. راغب السرجاني
مدينة أنْطَاكية السورية | أنطاكيا
وكانت مدينة على نهر العاصي على مسافة خمسة عشر ميلًا من البحر الأبيض المتوسط. وقد أسس هذه المدينة سلوقس نيكاتور أحد قواد جيش الأسكندر الأكبرأسسها عام 300 ق.م ودعاها أنطاكية نسبة إلى أبيه أنطيوخس. وقد أسس سلوقس أيضًا سلوقية على مصب نهر العاصي لكي تكون ميناء لأنطاكية، وقد صارت أنطاكية عاصمة السلوقيين وهم نسل سلوقس وأتباعه الذين صاروا حكام سوريا من بعده (1 مك 3 : 37). وفي عام 64 ق.م أخذ المدينة بومباي القائد الروماني وأصبحت عاصمة إقليم سوريا الروماني. وكانت أنطاكية مركزًا مهمًا للتجارة والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب. وكانت ثالث مدينة في الإمبراطورية الرومانية (بعد روما والإسكندرية) وكانت الآلهة "تيخي" أو "الحظ" هي آلهة أنطاكية الخاصة وكانت تقوم عبادة "أبولو" في "دفني" بالقرب من أنطاكية على كثير من الرجس والنجاسة والممارسات الجنسية الجامحة.
وكان في أنطاكية جماعة كبيرة من اليهود ومن بينهم ظهر المسيحيون الأوّل في المدينة.
St-Takla.org Image: The Seven Deacons: And they chose Stephen, a man full of faith and the Holy Spirit, and Philip, Prochorus, Nicanor, Timon, Parmenas, and Nicolas, a proselyte from Antioch
وقد أصبحت أنطاكية أهم مركز للمسيحية بعد أورشليم، وانتشرت المسيحية من هذه المدينة إلى الغرب. وقد دعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولًا (أع 11: 26) ومنأوائل الشمامسة في المسيحية في أورشليم رجل يدعى نيقولاوس من أنطاكية وقد اهتدى من الوثنية إلى اليهودية ثم صار شماسًا مسيحيًا (أع 6: 5). وبعد موت استفانوس الشهيد هرب المسيحيون من أورشليم إلى أنطاكية وبشروا بالإنجيل لليهود واليونانيين هناك (أع 11: 19-21). وقد أرسلت الكنسية في أورشليمبرنابا ليقود العمل التبشيري في أنطاكية ودعا بولس معه ليعاونه في الوعظ والتعليم (أع 11: 22-25). وقد أرسل المسيحيون في أنطاكية عطايا وتقدمات إلى المسيحيين في أورشليم أثناء المجاعة (أع 11: 29 و30). وأرسلت كنيسة أنطاكية الرسول بولس في ثلاث رحلات تبشيرية (أع 13 : 1-3 و15: 40 و 18: 23) وقد عاد إلى الكنيسة هناك بعد الرحلتين التبشيريتين الأوليين ليقدم لها تقريرًا عن خدمته (أع 14: 26-28 و18: 22).
وقد رأت الكنيسة في أنطاكية أن المسيحيين من الأمم غير ملزمين أن يحفظوا الشريعة الطقسية. ولذا فقد أرسلت الكنيسة في أنطاكية بولس وبرنابا إلى مجمع للقادة المسيحيين في أورشليم، وقرر المجمع أن المسيحيين الداخلين إلى المسيحية من الأمم غير مرتبطين بمطالب الشريعة الفرضية والطقسية (أع 15: 1-29) وقد وبخ بولس في أنطاكية بطرس لرفضه أن يأكل مع المسيحيين من الأمم (غل 2: 11 و12) وقد جعل مبدأ التحرر من الشريعة الطقسية والفرضية، التبشير بالإنجيل ممكنًا على نطاق واسع بين الأمم.
وقد ظهر في أنطاكية بعد أزمنة العهد الجديد اثنان من أعظم قادة الكنيسة المسيحيةشهرة وهما: أغناطيوس أسقف أنطاكية الذي استشهد في روما، ويوحنا كرسستم "فم الذهب" الواعظ المسيحي الشهير الذي ذهب إلى القسطنطينية. وقد أظهرت الكشوف التي أجريت في أنطاكية خرائب كنائس كثيرة أكثرها قديمة يرجع إلى القرن الرابع الميلادي. وقد زينت بعض هذه الكنائس برسوم جميلة كانت أنطاكية قد اشتهرت بها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى). وقد اكتشفت بالقرب من أنطاكية كأس مسيحية فضية ترجع إلى القرن الثالث أو الرابع بعد الميلاد ولا يمكن أن نجزم، كما يدعي البعض، بأن كأسًا فضية أخرى أكثر قدمًا من هذه وجدت داخل هذه الكأس، وهي بذاتها الكأس التي استخدمها يسوع المسيح عندما وضع فريضة العشاء الرباني. وأنطاكية الآن بلدة قليلة الأهمية، وقد أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية تحت حكم تركيا.
عتبر أنطاكية Antakya واحدة من أكثر مدن سورية التاريخية شهرة. ويعود منشؤها إلى مطلع القرن الثالث قبل الميلاد على يد خليفة الإسكندر الكبير القائد سلوقوس الأول نيكاتور؛ والذي بناها تخليداً لذكرى والده أنطيوخس.
تقع أنطاكية في شمال غربي سورية عند الطرف الجنوبي لسهل العمق، يحدها شرقاً جبل سلبيوس ويعد جزءاً من الجبل الأقرع، وغرباً نهر العاصي. وتبعد عن شاطئ المتوسط حوالي 25 كم.
تم بناء المدينة وفقاً للنظام الشبكي (الشطرنجي) الذي غلب على تخطيط المدن في تلك الحقبة ، وحددت اتجاهاتها بدقة بالغة لتستفيد إلى أقصى حد من أشعة الشمس شتاءً ومن الظلال ونسيم البحر صيفاً، وأخذت شكل مستطيل طوله ميلان وعرضه ميل واحد، يحيط بها سور على شكل شبه منحرف، له خمسة أبواب و360 برجاً على شكل أنصاف دوائر.
كان الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة من الشرق إلى الغرب أهم شوارع المدينة، والتي كانت مرصوفة بمجملها. وقد بنيت المدينة على أربع مراحل، وتألفت في النهاية من أربعة أحياء، مما أشاع اسم «المدينة الرباعية» كأحد مسمياتها، ومن مسمياتها أيضاً «أنطاكية على نهر العاصي» و«أنطاكية دفنة» لتمييزها عن غيرها.
وقد تزايد عدد سكان المدينة منذ إنشائها لتصبح واحدة من أهم مدن الحقبة السلوقية إلى درجة ساد فيها الاعتقاد أنها عاصمة سلوقوس نيكاتور؛ إلا أن المكتشفات الأثرية أثبتت تبوؤها هذه المكانة بعد وفاة مؤسس الأسرة السلوقية أو بعد الحرب السورية بين السلوقيين والبطالمة حيث احتل البطالمة عاصمة السلوقيين سلوقية بيرية. ونقل سلوقوس الثاني عاصمة حكمه إلى أنطاكية حيث استمرت مدينة مزدهرة تضاهي أهميتها مدن الشرق العظيمة كالإسكندرية. واستمرت هذه الأهمية بعد احتلال الرومان لسورية عام 64 ق.م، حيث أصبحت مركز الحاكم الروماني وجيوشه، ومركزاً تجارياً مرموقاً، واستمرت في مكانتها هذه طوال الألف الميلادية الأولى حيث تنازعها الفرس والبيزنطيون والمسلمون العرب والحملات الصليبية المختلفة.
ضمت المدينة عدداً من المعابد الهامة كمعبد هرقل ومعبد زيوس، كما كانت تضم مسرحاً وحماماتٍ ومتحفاً ودوراً للكتب ومجلساً للشورى وملعباً للألعاب الأولمبية، التي كانت تقام كل أربع سنوات، وقناطر كانت تجلب الماء من دفنة. كذلك بنيت فيها قلعة على قمة جبل سيلبيوس. وأضاف إليها الأباطرة الرومان عدداً من المنشآت الرسمية والعامة، كالقصور والملاعب والأقواس والملاعب والمعابد والأبراج والحدائق، حتى امتدت المدينة على بعد ميل خارج الأسوار، مما اضطر الإمبراطور الروماني إلى بناء سور جديد. وبلغ جمال ضاحية دفنة التي سميت المدينة باسمها حداً بلغ الأساطير.
ولأنطاكية شهرة سياحية واسعة لأهميتها التاريخية والدينية ففيها أقيمت أول كنيسة أممية، وسمي فيها تلاميذ المسيح مسيحيين، وقد أسس هذه الكنيسة القديسان بولس وبرنابا سنة 42م، وكان فيها مقر البطريركية الأرثوذكسية التي تفرعت عنها بطريركيات القسطنطينية وأنطاكية والقدس والإسكندرية وموسكو، وتعرف رسمياً باسم بطريركية أنطاكية وسائر المشرق.