الحلقة الثامنة
عربيات: تركنا انطباعا إيجابيا عن الإسلام أثناء الدراسة بأميركا
يروي رئيس مجلس النواب الأسبق والقيادي البارز في صفوف الحركة الإسلامية الدكتور عبد اللطيف عربيات في حلقة اليوم من حلقات "سياسي يتذكر" مع "الغد" قصة بناء مسجد في الولاية التي زارها وأقام فيها خلال رحلته الدراسية العليا.
وفي هذه القصة يكشف عربيات جانبا عن التفاصيل التي ألهمته في الفكرة، وبعد أن سأل عن أعداد الطلبة المسلمين الذين يدرسون في الجامعة، قرر التقدم بطلب لرئاسة الجامعة يتضمن مطالبة بتخصيص مصلى. وكيف أنه وعددا من زملائه في الجامعة استطاعوا فرش المصلى وإقامة الصلاة فيه.
وفي حلقة اليوم يفرد عربيات جانبا من ذكرياته في الدعوة الإسلامية خلال إقامته في الولايات المتحدة، ويرسم جوانب مهمة من الصورة التي كان الطلبة يسعون لنشرها عن الدين الإسلامي، وعن جوانب من نشاطاتهم سواء من خلال الجامعة أو من نشاطات خارجها.
ويؤكد عربيات قدرته في ترك انطباع إيجابي عن رسالة الدين الإسلامي، ونبذ الصورة المشوهة التي كان الغرب يحاول إلصاقها بالمسلمين. وفي السياق يروي عربيات قصته من اكتشاف خطأ محاسبي تسبب في وصول أموال زائدة إليه، ما دفعه لإعادتها، وكيف أن الموظف المحاسب تفاجأ من الموقف، ليسأله: بتلك البساطة تقوم بذلك؟، فأجابه إن تعاليم الدين الإسلامي تلزمه بأن يكون أمينا.
وكان عربيات قد تحدث في الحلقة الماضية عن عمله الدعوي والسياسي خلال محطات من عمره، وأشار إلى أنه ظل يحاول مناقشة أساتذته الجامعيين ويسعى للتأثير بهم خلال رحلته الدراسية الأولى إلى العراق، وروى موقفا مع الدكتور سعدون حمادي الذي أصبح لاحقا رئيسا للوزراء زمن رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين.
مقفلا في الحلقة السابقة الحديث عن رحلة دراسته الجامعية الأولى في بغداد، وعودته لوزارة التربية والتعليم، التي أخرت التحاقه ببرنامج الدراسات العليا في الولايات المتحدة، ما دفعه للتظلم وتسجيل شكوى بحق القائمين على البعثات، إلا أنه أكد حصوله على المنحة في نهاية المطاف.
وفيما يلي نص الحلقة:* هل انقطعت عن العمل الدعوي أو النشاط مع جماعة الإخوان المسلمين، في تلك الفترة؟- رغم قصر المدة وصعوبة الدراسة، كان الميدان مفتوحاً للقيام بنشاطات مرافقة كثيرة، والتي أعتبر أنها كانت مهمة وذات فوائد جمة على المستوى الإسلامي والاجتماعي والعلاقات العامة والتعريف بالإسلام، وبواقع الأمة وطموحاتها المشروعة، على المستوى العالم.
بعد وصولي إلى الجامعة، وفي اليوم الثاني من الوصول، التقيت أحد الإخوة السوريين، وهو الأخ أدهم السقاف، وكان طالب دكتوراه فيزياء، فسألته: هل تصلون الجمعة؟ فقال: لا، فقلت: لماذا؟ فأجاب: تحتاج إلى إذن من الجامعة لتخصيص مكان كمصلى.
وأضاف قائلا: هذا يحتاج إلى طلب يقدم إلى جمعية الـ(ymca)، فلديهم أماكن كثيرة.
سألت عن الطلاب المسلمين في الجامعة، فقيل لي إن عددهم يفوق الأربعمائة طالب، فقمنا على الفور بكتابة الطلب والتوقيع عليه، وجمعنا تواقيع حوالي ثلاثين شخصا، ثم قمنا بتقديمه إلى الجمعية المذكورة في اليوم نفسه.
جاءت الموافقة الفورية، وبعدها ذهبنا لنرى القاعة الملائمة عندهم للصلاة، فاخترنا واحدة، وسألونا إن كنا نحتاج أي شيء آخر، فطلبنا ميكرفوناً، وقاموا بإحضاره سريعا.
قمنا بشراء سجاد وجمعنا بعض المصاحف، وبدأنا صلاة الجمعة بعد ذلك، ومنذ أول يوم جمعة.
بقي هذا المصلى قائماً لنا نصلي الجمعة فيه، وعندما عدت إلى الجامعة نفسها بعد ست سنوات لدراسة الدكتوراه، وجدته قائماً مع بعض الإضافات، وعلمت بعد سنوات أن مسجدا بني في المنطقة، وأن العمل الإسلامي أصبح كبيراً هناك.
زرت مدينة دلاس بولاية تكساس بعد حوالي عشر سنوات كمدير لمشاريع البنك الدولي في وزارة التربية، فاستقبلني عدد كبير من المسلمين في مطار المدينة، والتي لم تكن فيها سجادة صلاة واحدة معروفة عندما كنا طلاباً في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
ومن باب المصادفة، وقبل عدة أعوام دعاني الأخ زهير أبو الراغب، رحمه الله، لعشاء في مزرعته في منطقة زي في السلط على شرف مجموعة من الإسلاميين العرب المسلمين في ولاية تكساس، وكان معهم الأخ الدكتور ياسر بشناق، الذي كان ناشطاً إسلامياً في الولايات المتحدة، فذكرني إخواني في ولاية تكساس، بما هو عليه الأمر الآن، وهو والحمد لله يشير بالخير الكثير إن شاء الله، واعتبروني من أصحاب السابقة في الولاية.
* ومن هناك عدت للنشاط الطلابي، فالمصلى كان فرصة للقاءات الجانبية، وبالتالي استعدت ذكرياتك في العمل الطلابي.- قد يكون كذلك؛ ففي الأسبوع الأول من وصولي للجامعة في العام 1966، جاءتني مكالمة هاتفية من شخص لا أعرفه، اسمه أحمد التوتنجي. عرفني بنفسه، ورحب بي في الولايات المتحدة. وقال لي إن الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة لديهم اتحاد، وأعطاني عنوانه، مبشرا وواعدا بالتعاون في العمل الإسلامي.
سررت كثيراً بهذا الاتصال، وشكرت أخي الدكتور أحمد التوتنجي الداعية المعروف، الذي هو اليوم من قيادات العمل الإسلامي العالمي ومؤسس في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومجاهد وداعية أطال الله في عمره.
كنا خلال هذه المدة على اتصال دائم، وتصلني منهم النشرات والمطبوعات الصادرة عن الاتحاد، ونتعاون معهم في نشاطاتهم في أماكن مختلفة.
في تلك الفترة كذلك، طلب إلي الأستاذ المشرف أن أعطي محاضرة في مدرسة الأحد قرب الجامعة، وهذه المدرسة يحضر إليها بعض أساتذة الجامعة وعائلاتهم، ويستمعون إلى محاضرات حسب ما تنظمها اللجنة المشرفة على المدرسة. طلب مني الأستاذ أن أعطي محاضرة عن الإسلام، فقلت له: أنا جديد ولغتي قد لا تسعفني في إعطاء الصورة كاملة، وهؤلاء أساتذتي، فكيف أحاضر بهم عن الإسلام؟
قال لي: أنا أعرف من أنت، وماذا عندك، وأنت قادر على ذلك.
بدأت بالتفكير في ما عساي أن أقدم لهذا الجمع المثقف، وهو الجمهور الذي لا يعرف ما هو الإسلام، على الأغلب. جمعت أفكاري ورتبتها بطريقة سلسة، من مثل: الإله الواحد، والخلق الواحد، ومن عند آدم عليه السلام حتى آخر الأنبياء، وخاتمة الرسالات، وهي رسالة الإسلام، وماذا يقول الإسلام عن مريم والمسيح وموسى وبقية الأنبياء. وأن الإسلام توج حضارة سادت العالم عصوراً طويلة، وأخذ الغرب عنها في نهضته الحديثة، وعن تداول الحضارات والأيام وماذا يمكن أن يأتي بعد الحضارة الغربية المادية، وبعض نقائص هذه الحضارة من ناحية مادية ومعنوية وإنسانية.
ذهبت إلى المكان في الوقت المحدد، وقدَّمني مدير البرامج وعرف بي على أنني عربي مسلم من الأردن، وأدرس في الجامعة،وغير ذلك من التعريفات البسيطة. كما تحدث عن محاضرتي، على أساس أن أعطي محاضرتي، ثم يدور نقاش حولها، على أن لا يتعدى كل ذلك الساعة ونصف الساعة.
بدأت الحديث بما لدي من أفكار، وأنهيت المحاضرة طالباً توجيه الأسئلة. بدأت الاستفسارات والأسئلة بشكل استمر لأكثر من ساعتين ونصف الساعة. وفي نهاية المحاضرة، طلبوا مني أن أكمل ما بدأت الحديث عنه في محاضرة أخرى في الأحد المقبل، وقد كان ذلك.
لمست تعطشا من الجميع لسماع أشياء أخرى والإجابة عن تساؤلات وأمور يجهلونها، وعن أمور تلبي لديهم رغبة الإجابة عن شبهات لديهم نتيجة التشويه المتعمد في مناهجهم الدراسية والإعلامية.
في نهاية المحاضرة الثانية، طلب مني أحد الأساتذة أن يتحدث معي على انفراد. وحين صرنا وحدنا، سألني: ما حكم الذي يؤمن بكل ما قلته، هل يحاسبه الله على ما كان لديه؟
فقلت له: لست فقيهاً لأفتيك، ومن الآن فصاعداً عليك أن تلتزم بما تؤمن به، فـ"العداد شغال عليك" من الآن.
فصار يسأل عن كيفية مفاتحة عائلته بذلك، وكيف يبدأ بممارسة العبادات وغيرها، فتحدثنا عن بعض الوسائل والمصادر المعرفية التي يمكن أن يستخدمها في إقناع أهل بيته، وما إلى ذلك من الأمور.
في تلك الفترة أيضا، وفي زيارة نظمتها الجامعة لبعض المدارس الثانوية، قابلت مدير المدرسة، وتم التعريف عني بصعوبة كبيرة. قال لي: عرّف أين الأردن؟ ثم سأل: هل عندكم عملة؟ فأجبته أن لدينا عملة، وأريته الدينار الأردني، وأخبرته أنه يساوي ثلاثة دولارات في حينها. فأخذني إلى بعض الصفوف في المدرسة، وسأل الطلاب إن كان أحد منهم يعرف أين يقع الأردن. لكن أحدا لم يعرف.
عندها، قال المدير: هذا الضيف من الأردن، وهو عربي انظروا إليه؛ إنه مثلنا، ولديهم عملة، انظروا إلى الدينار الأردني إنه مثل الدولار.
هذه أمثلة واقعية عن مقدار التوجيه الخاطئ والمعلومات المشوهة التي يتلقاها أولئك الناس عن العرب والمسلمين، فهم لا يعرفون إلا أنفسهم، وهم ضحايا تشويه مقصود، سواء كان في المناهج المدرسية أو الإعلام الذي توجهه القوى الصهيونية الحاقدة.
*هنا بدأت تنخرط دعويا واجتماعيا، فهل كان الأمر مقبولا عند الأميركيين؟ - قد يكون للأمر علاقة بقدرتك الذاتية على استغلال الفرص السانحة، فعند الأميركيين دعوة عيد الشكر، الذي تعطل فيه الجامعات والمؤسسات الرسمية، ومن عادة الجامعة، بالاتفاق مع بعض المؤسسات والمناطق المختلفة، دعوة الطلاب الأجانب لزيارة عائلات أميركية، وجزء من هذا التقليد فيه شيء من التبشير بشكل مباشر أو غير مباشر.
كانت الدعوة في تلك السنة من مدينة كوربس كرستي على الحدود المكسيكية، ومنظم الزيارة هناك هو مدير البنك الأول في المدينة، وهو الذي تولى توزيع الطلاب على العائلات هناك. وسمعت فيما بعد أن مدير البنك هذا قد طلب من المسؤول عن الرحلة في الجامعة أن يخصص له اثنين موثوقين من الناحية الأخلاقية؛ لأن عنده بنات ويريد أن يتأكد من نوعية ضيوفه، وقد نسب له المنسق في الجامعة اسمي ولم يجد شخصا آخر، إلا بعد مدة، فاختار طالباً أفريقياً من النيجر.
عرفت ذلك في ما بعد، عندما وصلنا بالحافلة إلى المدينة، واستقبلنا مدير البنك ومعه قائمة ينادي منها على الطلاب الضيوف، وينادي إلى مضيف كل اثنين. كنا حوالي ثلاثين شخصا، وكان اسمي آخر اسم مع الأفريقي، فنادانا المنظم وكان اسمه براون، وقال لنا: أنتما ضيفاي.
كانت زوجته وابنه وابنتاه برفقته، فأخذونا في السيارة، وعادوا بنا مساءً إلى البيت. كان هناك حديث مطول عن القدس وعن الأردن ومعي نشرات عن الأردن وفلسطين أعطيتهم معظمها. وكان عنده والدته وهو يسكن في بيت كبير محاط بالحدائق، وعنده كلب له ما يشبه الشقة، ويعتني به عناية خاصة.
قال لنا: أنا اخترتكما بعد التشاور مع منسق الجامعة؛ لأنه في بعض السنين كان يأتينا ضيوف غير مريحين من ناحية سلوكية، فاخترتكما بعد شهادة منسق الجامعة الذي أعطاني اسمك فوراً، ثم بحث عن زميلك من النيجر.
وفي الصباح أعلمنا أننا سنذهب لشاطئ المحيط القريب من المدينة ونتناول الغداء هناك، أركبني بجانبه في سيارته والضيف الآخر ووالدته في الكرسي الخلفي. بعد قليل، توقف أمام عمارة من طابقين مكتوب أمامها أنها ملجأ للعجزة. هبط من السيارة، وأخذ بيد والدته وصعد بها إلى سكنها في الطابق الثاني.
انتابني شعور بالألم من هذا المنظر. كانت والدته بصحة جيدة، وفي تقديري، بأنها كانت تستطيع القيام بمسؤولية أكبر بيت، فلماذا توضع في هذا الملجأ وهي في هذه الحالة.
سألته: كم مرة تأتي والدتك لزيارتك؟
قال: مرة واحدة، في عيد الشكر.
كنت قد رأيت ما لديه من غرف إضافية في بيته الكبير، فحتى الكلب كان لديه شقة فاخرة، فقلت له: براون أخبرني؛ بعد كم سنة سيأخذك ابنك هوارد ويصعد بك هذه الدرجات في الملجأ؟
قال: أعد السؤال. فأعدت السؤال. كان كأنما أصيب بصدمة غير متوقعة، فأطفأ محرك السيارة وقال لي: يا رجل لقد قتلتني!
فقلت له: أنا فقط أسألك بعد كم سنة، فلم يعرف بماذا يجيب، فصارت زوجته تعطي أصواتاً بالسيارة وكأنها تسأل ماذا حدث.
وصلنا إلى الشاطئ وجلسنا على كراسي بانتظار الغداء، ولمدة ساعتين أو ثلاث ساعات والحديث بيني وبينه عن الإسلام وحقوق الوالدين، فنقلت له حديث رسول الله صل الله عليه وسلم قوله: تعس وندم ثلاثاً، وأجاب، من لحق بأبويه أو بأحدهما ولم يدخل بهما الجنة. وشرحت له حقوق الوالدين وصلة الرحم والمودة بين الآباء والأبناء، وكيف أن الأسرة جنة الدنيا.
قال لي: هذه أول مرة أسمع مثل هذا الكلام، مع إنني في كل عام أستقبل طلاباً، ومعظمهم من المسلمين.
أخذ براون عنواني، واستمر لسنوات يبعث لي أجندة البنك، وأنا أرسل له بعض المطبوعات.
وبمناسبة الحديث عن كوربس كرستي على الحدود الأميركية المكسيكية، توجد مدينة أخرى على هذه الحدود، واسمها مات مورس، أي مات المورس "المورسكيون"، وهم المسلمون الذين أخرجوا من الأندلس بعد إنهاء دولة الإسلام هناك. فعلى إثر نشوة النصر على المسلمين، اجتاح الإسبان جنوب الولايات المتحدة الأميركية وأميركا الجنوبية، وعند وصولهم حدود المكسيك أطلقوا على البلدة هذا الاسم.
إن نمط البناء في جنوب الولايات المتحدة هو نمط إسلامي، فجامعة تكساس التي كنت أدرس فيها مثلا، عندما تدخل البناء الأصلي لها فكأنك في الأندلس بنمط البناء من الأقواس والقباب.
وقيل لي: إن البناية الأساسية في جامعة منيسوتا، وعلى حجر الغلق في قبة البناء كتب بالعربية "لا إله إلا الله"، وهم يحسبونه نوعاً من الزخرفة.
*سمعنا عن قصة لها اتصال بأموال زائدة تسلمتها في البعثة، وعند اكتشاف الخطأ الذي وقع به الموظف في الجامعة، أعدت له الأموال بطريقة لفتت الانظار، وكان درسا بالأمانة والأخلاق؟- في آخر شهرين لي في الجامعة دعاني مسؤول البعثات وسألني عن عدد الشيكات التي وصلتني مؤخرا، فسألته عن السبب، وإذا به يشرح لي قصة المديرة المالية في دائرة البعثات في واشنطن، حيث أبلغني أنها أرسلت لي شيكات زائدة، وقام بشرح ظروف هذه الموظفة الجديدة على العمل، وأن ذلك قد يؤثر على مستقبلها الوظيفي.
حينها، كنت مشغولاً جداً بامتحانات نهاية الفصل سألته باختصار ماذا يريد، فقال: أنا أشرح لك الأمر فقط. فسألته عن قيمة الشيك الذي تدعيه، فأخبرني أن المبلغ ثلاثمائة وعشرين دولاراً. ومن دون نقاش أخرجت دفتر الشيكات وكتبت له المبلغ المطلوب، وقلت له: أرسل لها هذا الشيك، فأنا مشغول جدا، وليس لدي وقت أقضيه في هذا النقاش.
نظر إلي باستغراب، وقال: بهذه السهولة تفعل هذا الأمر؟
قلت له: لو كنت موجودا في الأردن، وعلمت أن خطأ حصل على هذا النحو، فسأرسل لكم المطلوب، لأننا، كمسلمين، لا نأكل حراماً ولا نقبله لأحد.
تسلم مسؤول البعثات الشيك، ومضى. لكن، وفي اليوم التالي، تسلمت منه رسالة مطولة يشكرني فيها، ويشيد بالأمانة وعدم محاورته ونقاشه بموضوع حول شيء مشكوك فيه، وليس لديهم بينة واضحة عليه.
بعد انتهاء الفصل الدراسي، كان علينا أن نذهب لواشنطن، لدائرة البعثات، وذلك لتقييم البرنامج، وإبداء الملاحظات عليه. عندما دخلت باب الدائرة المالية، وجدت رجلاً يقف عند الباب وسألني: هل أنت فلان؟ فقلت: نعم، فقال: تفضل معي.
وأدخلني إلى اجتماع ترأسه المديرة المالية، فرحبت بي، وقالت للحاضرين: هذا فلان الذي تحدثت لكم عنه، وأعادت قصة الشيك وسهولة عودته والسرعة التي سويت بها الأمور.
وأضافت: هذا الرجل جاء مع ستة من المبعوثين من الأردن، وجاء في دورة تدريبية ورتب على عاتقه أخذ مساقات دراسية أنهى بها متطلبات الماجستير، وهو الوحيد بينهم الذي قام بهذا العمل.
وشرحتْ لهم المديرة المالية كيف أن التقارير الشهرية تصل كاملة وفي وقتها، وأن علاماتي في الدراسة متقدمة، إضافة إلى كثير من التفاصيل حولي، ثم بينت كيف أنني لم أصرف سنتاً واحداً من التأمين الصحي. وبعد الاجتماع، سألتني إن كنت أريد أي مساعدة في شراء بعض الحاجات قبل السفر، فشكرتها على ذلك.
سافرت عائدا إلى الأردن في الوقت المقرر، وداومت في وزارة التربية والتعليم. اتصل بي السيد الدجاني مسؤول البعثات في دائرة المساعدات والبعثات الأجنبية، وقال: هل تسمح أن أزورك؟ فقلت له: تفضل أهلاً وسهلاً.
جاءني في اليوم التالي، وقال: أنا جئت معتذراً ومستفسراً. أما الاعتذار فهو لتعطيلي لبعثتك مدة عامين، والسبب هو سياسي، وأما الاستفسار، فأريد أن أعرف منك ماذا فعلت لهم في واشنطن حتى سطروا لك كتاباً لم يسطر لأحد قبلك؟
وأضاف: أنت "بيضت وجه" دائرة البعثات، وحققت ما لم يحققه أحد من زملائك المبعوثين هذا العام. ثم كرر اعتذاره وشكره.
شرحت له ما حدث، سواء من حيث الخروج على ترتيبات البعثة، أو التعامل مع الناس هناك. فقال: أهنئك على هذا، وهكذا يكون الرجل المسلم الذي يعطي مثل هذا المثال.
فشكرته، وقلت له: نحن هكذا وبهذه الصورة، وهكذا علمنا الإسلام.