الاستخلاف المالي في الإسلام
"المفهوم، والأسس، والثمار"
يعتبر مبدأ الاستخلاف في المال أحدَ أهم الأصول الكبرى التي تنبني عليها النظرية الاقتصادية الإسلامية، وهو حينما يُطلق يراد به "كون الإنسان نائبًا ووكيلًا عن الله فيما بين يديه من أموال وثروات"؛ لذا يجب عليه تنفيذ مراده، وإجراء أحكامه فيها، وعليه فالمال في ظل هذا المبدأ مالُ الله، والإنسان مستخلَف فيه؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7].
يقول الإمام الزمخشري:
"يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما ولَّاكم إياها، وخوَّلكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاءَ في التصرف فيها؛ فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنـزلة الوكلاء والنواب"
[1].
مفاهيم يصححها مبدأ الاستخلاف في المال
أولًا: مفهوم المِلكية:
إن هذا المبدأ يستندُ على حقيقة أن المالَ مالُ الله، فالله هو المالك الحقيقي والأصلي لِما في أيدي الإنسان، وهذا الأخير لا يعدو أن يكون وكيلًا ونائبًا وخليفة عنه، يؤكد هذا نسبةُ الله تعالى المال إليه في مواطنَ عدة من كتابه؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 33].
ثانيًا: مفهوم التصرف:
ثم إن تصرُّف الإنسان في ظلِّ هذا المبدأ محكومٌ بتوجيهات رب المال (الله)، سواء في الكسب والتحصيل، أو الإنفاق والصرف، أو الاستثمار، وهو مسؤول عن ذلك بين يدي الله تعالى؛ قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ: عَن عُمُرِه فيم أفناهُ؟ وعن علمه فيم فعل؟ وعن مالِهِ مِن أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟))
[2].
فقوله صل الله عليه وسلم: ((وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟)) دليلٌ على أن الإنسان يُسأل عن ماله يوم القيامة، ويحاسب على تصرفه فيه، بالإحسان إن أحسن، وبالإساءة إن أساء.
ثالثًا: الملكية الخاصة أو الملكية الفردية:
ويقصد بها: حق الأفراد أو المؤسسات في تملُّك الأموال أو وسائل الإنتاج، دون حجر أو تضييق، غير أن مبدأ الاستخلاف في المال في التصور الإسلامي لا يقرُّ هذا الحق بإطلاق، كما هو الحال في النظام الرأسمالي، بل إنه قيَّد ذلك بعدم الإضرار بمصالح الجماعة، وعليه فالمِلْكية الفردية في ظل هذا التصور لها وظيفةٌ اجتماعية.
رابعًا: المال بين كونه (زينة الحياة وقوامها) وكونِه (فتنة وشهوة):
قال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، وقوله أيضًا: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ﴾ [النساء: 5]، وفي المقابل يقول جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، ووجه التوفيق بينها يمكن تلمُّسه في ظل هذا المبدأ؛ فالذي يُحَصِّل المال ويستثمرُه ويُنفِقه مستحضرًا توجيهات مالكه الأصلي (الله تعالى)، يكون هذا المال زينةَ حياته وقوامَها، والذي يُهمِل ذلك ويُقصِّر فيه، فهو فتنة لصاحبه في الدنيا، وسبب لشقائه في الآخرة.
المال بين كونه "ثروة" أو "رأس مال":
إن مبدأ الاستخلاف في المال يُحتِّم علينا أن ندبر مقدراتنا المالية في إطار (رأس المال) المتحرك المنتِج، الذي يولد نشاطًا اقتصاديًّا؛ من خلال الاستثمار، وخلق المشاريع المنتجة التي تمتصُّ البطالة، وتوفِّر فرص الشغل للشباب، من خِلال اندماجهم في محيطهم الاقتصادي المفعم بالإنتاج والحركية، وفي ضوء هذا المعنى ينبغي فهمُ قولِه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34]، وإذا كان المفسرون القدامى قد فسَّروا الكنز بالمال الذي لم تؤدَّ زكاته، فإننا نجد من المعاصرين مَن توسع في ذلك ليشملَ المال الجامد الذي لم يدفَعْ به أصحابه إلى سوق العمل مِن أجل تنميته واستثماره؛ حتى يستفيد منه المجتمع كله!
يقول مجدي عبدالفتاح سليمان:
"والاكتناز في الفكر الإسلامي يشمل منع الزكاة، وحبس المال، فإذا خرج منه الواجب لم يبقَ كنزًا، والواجب مِن وجهة نظرنا يشمل: الزكاة، الإنفاق، الاستثمار، فلا يخرج المال من دائرة الاكتناز إلا إذا تمَّ إخراج الواجب؛ أي: الزكاة؛ العفو، النفقات، الصدقات، مداومة الاستثمار، والإسلام لم يقفْ في محاربة الكنز عند حد التحريم والوعيد الشديد، بل خطا خطوةً عملية لها قيمتها وأثرها في تحريكِ النقود المكنوزة، وإخراجها من مكانها لتقوم بدورها في إنعاش الاقتصاد"
[3].
ولقد أثبت الواقعُ في الفترة الراهنة بأن مشكلةَ الأمة ليست متعلقة بالمال من حيث نقصه أو عدمه - فالمال والحمد لله كثير - ولكن جوهر المشكلة هو عجزُنا أو عدم رغبتِنا في جعل ما نملِكُ في خانة (رأس مال)، والاكتفاء بجعل عَلاقتنا به منحصِرة في خانة (الثروة)، ومعنى هذا أن الاستفادة من أموال الأمة تبقى مقتصرةً على أصحاب الثروات الجامدة، إن الحل كما يقول الأستاذ مالك بن نبي: "ليس في تكديس الثروة، ولكن في تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة "البسيطة"
[4]، وذلك بتحويل معناها الاجتماعي من أموال كاسدة، إلى رأس مال متحرك، ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد"
[5].
والعمل بهذا المنهج سيجعلُنا نحقق مرادَ الله في قوله تعالى: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7].
إن استثمار الأموال وَفْقَ هذا النهج سيتيح لأفراد الأمة جميعًا المشاركةَ في تحمُّل مسؤوليات البناء والتنمية، والابتعاد عن روح الخمول والكسل، ولعل هذا مِن أهم المقاصد التي يسعى مبدأ الاستخلاف في المال إلى تحقيقها.
مبدأ الاستخلاف في المال سبيل لتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة:
إن تفعيل مبدأَ الاستخلاف في المال بالمفهوم الذي ذكرنا سالفًا، لا بد أن يؤدِّي إلى تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة، وذلك من خلال إشراك أفراد المجتمع في الانتفاع بالثروة بشكل عادلٍ؛ حتى لا تتركَّز في يد فئة قليلة، ومن أجل ذلك رغَّب الإسلام في الصدقة التطوعية، وحثَّ عليها، ووعد المتصدقين بالأجر العظيم.
قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261].
والصدقة التطوعية تأتي من أجل سدِّ الفراغ الذي قد تتركه الزكاة، في حال عدم قيامها بحاجات المحتاجين، والزكاة هي الوسيلة الشرعية التي تضمن إشراك الفقراء والمساكين في أموال الأمة، بالإضافة إلى تلبية حاجيات أخرى؛ كتشغيل العاطلين، وقضاء الديون، وإقامة المؤسسات والمشاريع المختلفة، ومحاربة اكتناز الثروة، والتشجيع على استثمارها.
كما أن الدولة الإسلامية في نطاق قيامِها بواجبها تجاه الرعية، مطالبةٌ بمراعاة أحوالهم والسهر عليها، بما يضمن الكفاية للجميع، ولو أدَّى الأمر إلى أن يتساوى الجميع في حد الكفاف، وفي هذا المعنى قال الرسول صل الله عليه وسلم: ((إن الأشعريِّينَ إذا أَرْمَلُوا في الغزوِ، أو قلَّ طعامُ عيالهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموا بينهم في إناءٍ واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم))
[6].
ويقول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني حريصٌ على ألا أدعَ حاجة إلا سدَدْتُها ما اتَّسع بعضنا لبعض، فإذا عجزنا تأسَّينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف"
[7].
إن التصور الإسلامي في مجال الأموال يسمو بالإنسان من الفردانية المقيتة، القائمة على الاحتكار والاستغلال وتقديس الثروة، إلى المشاركة في سدِّ ثغرات المجتمع؛ من خلال إشاعة روح التعاون والتضامن المفضيين إلى تحقيق الكفاية والتوزيع العادل للثروات.
التاريخ يتحدث:
لقد مرَّتِ الأمة الإسلامية بمحطات مشرقة، عكست مدى نجاعة الحل الإسلامي القائم على تطبيق مبدأ الاستخلاف في المال، ليس فقط على مستوى التوزيع العادل لمقدرات الأمة؛ بل على مستوى تنمية الإنتاج أصلًا؛ فهذا عمر بن عبدالعزيز يكتب إلى واليه عبـدالحميد - وهــو بالعـراق -: "أن أخـرِجْ للناس أُعطياتهم، فكتب إليه عبدالحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مالٌ، فكتب إليه: أنِ انظُرْ كل مَن ادَّان في غير سفهٍ ولا سرف، فاقضِ عنه، فكتب إليه واليه: إني قد قضيتُ عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مالٌ، فكتب إليه: أن انظر كلَّ بكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه وأصدقْ عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل مَن وجدت، وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه عمـر: أن انظر مَن كانت عليه جزية، فضَعُف عن أرضـه، فأسلفـه ما يقـوى بـه على عمـل أرضـه، فإنا لا نريدهـم لعـام ولا عامين"
[8].
إن وفرةَ المال بهذه الصورة في بيت مال المسلمين، واستعمالَه في سدِّ حاجات الناس الضرورية، وحتى الكمالية، بل وتخصيص جزء منه لإقراض مَن ضعُف عن إصلاح أرضه وحرثها، إن هذا كله لا يمكن أن نفهمه أو نطمح إلى تحقيقه مرة أخرى، إلا في ظل تنفيذ الإنسان لمراد الله تعالى في المال كسبًا وإنفاقًا واستثمارًا.
[1] الكشاف، محمد بن محمود الزمخشري، ج: 4 ص: 473، دار الكتاب العربي، 1986.
[2] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب في القيامة، ط/1 شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، ج/4 رقم الحديث: 2417، ص:612، وقال: هذا حديث حسن صحيح
[3] مجدي عبدالفتاح سليمان: دور الزكاة في علاج الركود الاقتصادي، مجلة الوعي الإسلامي، عدد 445/ السنة 39، رمضان1423هـ/2002م.
[4] في هذه الفترة كانت أموال الأمة قليلة؛ إذ إن هذا الكلام كتبه مالك بن نبي سنة 1948، أما الآن، فالوضع اختلف كثيرًا.
[5] شروط النهضة، مالك بن نبي، دار الفكر دمشق دون طبعة، 1986، ص 112 /113.
[6] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم، رقم الحديث:2500، دار الاعتصام، دون طبعة ولا سنة الطبع ص: 1249.
[7] تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، د محمد سهيل طقوش، ص:351، دار النفائس، الطبعة الأولى 1424هـ - 2003م.
[8] منهج الاقتصاد الإسلامي في إنتاج الثروة، أحمد لسان الحق، ج/ 1 ص: 239، دار الفرقان للنشر الحديث، الدار البيضاء، 1408هـ.