القرامطة وفتنتهم في مكّة
هذا، ولما خرج القرامطة من مكّة حاملين معهم الحجر الأسود والأموال التي غنموها من النّاس متوجّهين إلى هجر، تعقَّب "ابن محلب" أمير مكّة من قبل العبّاسيين القرامطة مع جمع من رجاله وطلب منهم ردّ الحجر الأسود إلى مكانه على أن يملّكهم جميع أموال رجاله. إلاّ أنَّ القرامطة رفضوا طلبه مما اضطرّه إلى محاربتهم حتّى قتل على أيديهم
(47). تُعدُّ فرقة "القرامطة" ـ التي وصفها التأريخ بأنّها فرقة مشاغبة ومُتمرّدة، وكانت عاملا أساسيّاً أدّى إلى مذابح جماعية، وإلى حملات إغارة على أموال المسلمين ـ فرعاً من الفرقة المعروفة بـ "الإسماعيلية" حيث ظهرت في قلب المجتمع الإسلامي، وسبّبت الكثير من المتاعب والمشاكل آنذاك بسبب أفكارها وعقائدها الخاصّة، خصوصاً في العهد العبّاسي، ممّا أدّى إلى وقوع العديد من الضحايا نتيجة انحرافاتهم الايديولوجية والمغالاة في أفكارهم. ويمكننا القول بوجود التشابه الكبير بينها وبين فرقة الخوارج المعروفة التي ظهرت في عهد الخلفاء الأمويين وإن اختلفتا من الناحية العقائدية. و"الإسماعيلية" هي فرقة من فرق الشيعة كانت تعتقد بإمامة "إسماعيل بن جعفر الصادق (ع)" وذلك بعد وفاة جعفر الصادق (ع)، وأولاد إسماعيل من بعده ثمّ انقسمت على نفسها إلى عدّة فِرَق أُخرى. وقد انبرى من الفرقة ذاتها شخصيّات فسَّر كلٌّ منهم المذهب الإسماعيلي حسب ما يَرتئيه هو ودعا إلى إمامة شخصيّة معيّنة في ذلك الزّمان. وكان "حمدان قرمط" أحد أبرز أولئك الدعاة من الإسماعيلية، والسّبب المباشر في ظهور العديد من الحوادث في حينها، فأوجد هذا فرقة مُنشعبة عن الإسماعيلية وذلك بعد وفاة أبوالخطّاب الأجدع أحد مؤسّسي فرقة الإسماعيلية، وأدخل "حمدان قرمط" تعديلات وآراء جديدة على المذهب المذكور فسمّي أتباعه بعد ذلك بالقرامطة. وتذكر المصادر لروايات أهل السنّة ـ وعلى غرارها المصادر الغربية كذلك ـ أنّ حمدان قرمط كان أحد تلاميذ عبدالله بن ميمون القدّاح، الذي له تأثيرٌ واضح على تشكيل آراء ومعتقدات حمدان قرمء وتعتبر المصادر ذاتها أنَّ عبدالله بن ميمون هذا هو أحد موالي الإمام جعفر الصادق (ع) وينسبونه إلى اليهوديّة
(1) أحياناً والدّيصانية
(2) والمجوسية من أصل إيراني
(3) أحياناً أُخرى. كما وينسبون الفاطميين "في مصر" إلى حمدان قرمط هذا
(4). هذا في حين توثّق المصادر الشيعيّة عبدالله بن ميمون، وتُسقط كل الاحتمالات ـ كما سنرى ـ التي تقول بكونه ينتمي إلى القرامطة أو الإسماعيلية. وقبل إيراد أيّ نصوص عن علماء ورجالات الشيعة حول عبدالله بن ميمون، نستدعي انتباه الأخوة القُرّاء إلى آراء بعض من الكتّاب المعروفين حول نفس الموضوع. ينقل ابن النديم عن شخص يدعى ابوعبدالله بن رزام حيث كان لهذا الأخير كتاب في الردّ على الإسماعيلية ما يلي (دون أن يؤيّد أو يُفنّد ادّعاءات ابن رزّام هذا) في البداية، كان ميمون قدّاح من أتباع أبوالخطّاب، وكان يجهر بالدعوة إلى إلوهية علي بن أبي طالب، وقد كان وأبنه عبدالله، ديصاني المذهب، ومن محلة على أطراف الأهواز، وكان ابنه عبدالله مشعوذاً وساحراً وقد ادّعى النبوّة لفترة طويلة، وفرّ إلى السلميّة بالقرب من حمص وهناك انضمّ إلى دعوته رجل يسمّى حمدان بن الأشعث الملقّب بـ (قرمط)
(5). بعد ذكر قصّة تشتّت أصحاب محمد بن إسماعيل بن جعفر، يتابع الخواجة رشيد الدين القول بأنّ (عبدالله بن ميمون القدّاح كان قد اكتسى حُلّة العابد الزاهد، وقد أقام في منطقة عسكر مكرّم، ومنها رحل إلى كوهستان عجم أهواز حيث قام بدعوة النّاس وإرسال الرسل إلى العراق والري وإصفهان وقم وهمدان)
(6). يقول الفخر الرازي في تعريف فرقة الباطنية مايلي (يروى أنّ رجلا من الأهواز يدعى عبدالله بن ميمون القدّاح وكان من الزنادقة، جاء إلى جعفر الصادق (ع)، وقد قضى أكثر وقته في خدمة ابنه إسماعيل وبعد وفاة إسماعيل أصبح في خدمة ابنه محمّد، ودعا إلى اتّباع هذا الأخير مدعيّاً بتلقّي الزندقة على يده)
(7). كما يلاح1 فإنّ عبدالله بن ميمون هذا يعرّف على أنّه مؤسّس فرقة الباطنيّة والقرامطة وعلى أنّه رجل دجّال وكذّاب، في حين هو في المصادر الشيعية أحد أصحاب الإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) المخلصين، وبأنّه أحد رواة الأحاديث الثقات. يقول النجاشي في (الرجال) كان عبدالله بن ميمون الأسود القداح أحد موالي بني مخزوم... وكان يروي عن الإمام الصادق (ع) وهو رجل ثقة، وتنسب إليه كتب مثل (مبعث النبي) و(صفة الجنّة والنّار)
(8). وحسب قول النجاشي وهو أحد علماء الرجال المعروفين، بأنّ عبدالله بن ميمون ثقة، لايبقى مجال للشك في منزلة ابن ميمون الجليلة، خاصّة بعد عِلمنا أنَّ كلّ كتب رجالاتنا لم تورد قدحاً في تعريفها لعبدالله بن ميمون، ولو كان إسماعيلياً كما قيل، لما تردّد علماء الرجال في ذكر ذلك على الإطلاق، ذلك أنّ علماءنا في الرجال يمتلكون حساسية عجيبة تجاه الأشخاص المنتمين إلى مذهب منحرف. ويقول الكشي بعد نقله حديثاً للإمام الباقر (ع) في معرض تأييده لعبدالله بن ميمون كان عبدالله بن ميمون يقول بالتزيّد (كذا)
(9). ولايعرف المقصود بكلمة "تزيّد" بوضوح، فربّما أراد معنى أنّه كان "يحبّ زيداً" في حين ذكر البعض احتمالات وتفسيرات غير منطقية لذلك ولا علاقة لها به
(10). أضف إلى ما قيل أنّ كل كتب الشيعة في شرح الملل والنحل أمثال فرق الشيعة للنوبختي والمقالات والفرق للأشعري، وخلال وصفهم للفرق الإسلامية كالإسماعيلية والقرامطة، لم يذكروا شيئاً بصدد ابن ميمون أو حتّى ثابت بن سنان وهو أحد المعاصرين لحمدان قرمء الذي ألّف كتاباًتحت عنوان "تأريخ أخبار القرامطة" فهو لم يذكر اسم عبدالله بن ميمون البتة. وعلى أي حال وطبقاً للمصادر الشيعية فليست هناك أدنى علاقة بين عبدالله بن ميمون وبين القرامطة. فالشيء المسلَّم به هو أنَّ مؤسّس فرقة القرامطة وهي فرقة متفرعة عن الإسماعيلية، هو رجل يسمّى حمدان بن الأشعث القرمطي الذي اعتزل جماعة محمّد بن إسماعيل بن جعفر بعد وفاة الأخير وأحدث فرقة متشعبة عن الإسماعيلية بعد أن أوجد آراء ومعتقدات خاصّة لهذه الفرقة. وطبقاً لما أورده ابن النديم فإن حمدان قرمط كان مشغولا بالزراعة وتربية الحيوان في قرية تسمى "قس بهرام" وكان رجلا ذكيّاً، ممّا حدا برجل عالم مثل "عبدان"، الذي صنّف كثيراً من الكتب باتّباعه وأرسل رسلا ومبلّغين إلى سواد الكوفة لنشر معتقدهم هذا
(11).
كلمة القرامطة علمنا فيما سبق أنّ كلمة القرامطة مأخوذة من لقب مؤسّسها حمدان قرمء ونريد الآن فهم معنى هذه الكلمة أكثر وما تعنيه من مضامين، والسبب الذي من أجله نُسبت هذه الكلمة إلى حمدان. لقد وردت احتمالات كثيرة بهذا الصدد، نذكر أهمّها فيما يلي: ـ يقول ابن النديم أنّ السبب في إطلاق كلمة "قرمط" على حمدان هو أنّه كان قصير القامة
(12). ـ ويقول البغدادي كان يقارب ما بين خطوه في السير أو أنّه كان يضع فواصل قليلة بين السطور في كتاباته
(13). ـ ويقول ابن منظور دونما اشارة إلى وجه تسمية القرامطة بهذا الاسم القرمطة هي المقاربة ما بين القدمين وكذلك بين السطور في الكتابة والدقّة في ذلك
(14). ـ ويقول الجرجاني قرمط هي إحدى قرى واسط
(15)، في حين يُسمّي ابن خلف الأشعري لقب حمدان بـ "قرمطويه"
(16). ـ وينقل الدكتور مشكور عن الطبري وثابت بن سنان قوله أنّ هذه الكلمة أي قرمء بمعنى كرميتي وتعني حُمرة العين، وينقل عن ابن الجوزي قوله أنَّ كرميتي تعني حدة البصر وقوته، ثمَّ يُضيف ويظهر أن هذه الكلمة مأخوذة عن اللهجة الآرامية المحلية لمدينة واسط واستعيرت منها لهذا المعنى والتي لايزال معناها مُدَلِّس (من دالس مدالسة). يقول كارل نولدرس لكلمة "قرمط" علاقة وثيقة بالأصل اليوناني "قرماطا" وتعني الحَرف. وكذا كلمة "قرمط" التي تُطلق على الخط الخاص بالنّسخ، وقد كُتبت بالألفباء السرّية القرمطية متون كثيرة ذكرت في اليمن
(17). ـ وينقل لويس ماسينيون الذي كتب عدّة تحقيقات بخصوص القرامطة، ينقل عن "ولرز" انّه يسوّي بين كلمة القرامطة وكلمة يونانيّة مشابهة لها تماماً، إلاّ أنّه يُحتمل أن تكون هذه الكلمة مشتقة عن اللغة المحليّة الآرامية لمدينة واسء أي بمعنى "مُدَلِّس". ويُطلق المصطلح "قرمط" في علم الخطوط على الخط الكتابي الذي كان يدعى بالنّسخ. وقد عثر گريفين أخيراً على خطوط قرمطية في متون وجدها بالخطّ السرّي في اليمن
(18). ـ ينقل بطروشفسكي بعد إيراده لأقوال ماسينيون، في حاشية لكتابه عن لسان "ايفانوف" قائلا إنَّ كلمة "قرمط" مأخوذة عن كلمة "قرميثة" وتعني الفلاح أو الريفيّ في اللهجة السريانية في المناطق السفلى لما بين النهرين، أي اللغة الآرامية نفسها
(19). فلو تصوّرنا أن لقب "قرمط" قد أطلق على مؤسّس فرقة القرامطة من قبل مخالفيهم ومناوئيهم، فإن أنسب معنى لذلك هو التدليس والمدلِّس بعد عِلمنا بأنّ أولئك المخالفين قد اطلقوا على عبدالله بن ميمون ـ بغضّ النظر عن صدق انتسابه إلى القرامطة ـ لقب المشعبذ والحيّال. وأمّا في حال تصوّرنا أن هذا اللقب إنّما أُطلق على حمدان قرمط من قبل مريديه ومناصريه فالمعنى الأصح لهذه الكلمة هو "الفلاح"، ذلك أن ابن النديم وكما أوضحنا سابقاً قد ذكر أن حمدان كان يشتغل بالزراعة وتربية الحيوان، مع بقاء الاحتمالات الأخرى لمعنى هذه الكلمة من أنّه كان أحمر العينين أو أنّه كان قريب الخطو في مشيه أو أنّه كان يكتب بخطّ ناعم، علماً بأنَّ هذه الأمور ثانوية وليست ذات أهميّة يُعوَّل عليها.
معتقدات القرامطة تُعدُّ الأصول والمعتقدات الأولية للقرامطة نفسها التي تعتقد بها الإسماعيلية، إلاّ أنَّ هذه الفرقة المتشعّبة عن الإسماعيلية تملك بعض العقائد الخاصّة بها، التي تميّزها عن باقي الفرق والجماعات المنتمية بدورها إلى الإسماعيلية; ولأنَّ تلك العقائد هي كلّ ما ذكرته كتب المناوئين لهذه الفرقة فلايمكن إزاء ذلك الاعتماد على صحّتها ودِقّة انتسابها إلى القرامطة. وطبقاً لمؤلّفات النوبختي وأبي خلف الأشعري، فإنّ القرامطة يقولون بإمامة محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (ع) ويُعرّفونه على أنّه الإمام القائم المهدي المذكور، بل انّهم يقولون بنبوّته ونبوّة سائر الأئمة كذلك، ويقولون إنّ رسالة النبي (صل الله عليه وآله وسلم) قد انقطعت عنه يوم الغدير وانتقلت إلى أميرالمؤمنين (ع)ثمّ انتقلت منه إلى باقي الأئمّة، وإنَّ الأئمة مع كونهم يحتفظون بمقام الإمامة فهم يمتلكون مقام الرسالة كذلك. ويُضيف هؤلاء قائلين إنَّ محمّد بن إسماعيل حيٌّ لم يَمت وهو غائب في بلاد الروم
(20). ويقول أبوالحسن الأشعري يعتقد القرامطة أنَّ "محمّد بن إسماعيل" حيٌّ وهو نفسه المهدي الذي أُخبر عن ظهوره
(21). وأمّا الشهرستاني فيقول لقد مزجَ أولئك (الذين يُعرفون في العراق بالباطنية والقرامطة والمزدكية والمعروفون في خراسان بالتعليمية والملحدة) كلامهم بكلام بعض الفلاسفة، ولهم في ذلك المؤلّفات. ويقول هؤلاء إنّ الله تعالى ليس موجوداً وليس غير موجود، وكذا فإنّه ليس عالماً وليس جاهلا وليس قادراً ولا عاجزاً. وقس على ذلك سائر صفاته تعالى! ذلك أنّ الإثبات الحقيقي يقتضي أن يكون من جهة إطلاقنا عليه شريكاً مع سائر الموجودات وهو مايُعرف بالتشبيه
(22). ويقولون كذلك وكما أنَّ الأفلاك والطبائع هما في حركة دائمة بواسطة تحريك النّفس والعقل، فإنَّ المجتمع البشري أيضاً في حركة مع الشرائع بتحريك النبيّ والوصيّ وهذا حاصلٌ وواقعٌ في كلّ زمان وعلى شكل سبعة فسبعة حتّى ينتهي ويصل إلى دورته الأخيرة ويحين وقت يوم القيامة وتُرفع التكاليف عن البشر
(23). ويُضيف أبوالحسن الملطي، بعد أن ينسب إليهم عدداً من العقائد العجيبة كقولهم بعدم وجوب الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، يُضيف قائلا وهم يُكفّرون من يخالفهم وينسبونه إلى الشرك ويحلّلون ماله ودمه، ويمكنهم أخذه أسيراً لديهم
(24). والحقّ أن ما ينسب إلى القرامطة من العقائد والآراء أكثر ممّا قلناه بكثير، وإنّما أردنا ذكر بعض تلك العقائد حتّى تكون أرضية مناسبة لبحوثنا فيما بعد.
قيام دولة القرامطة في الإحساء والبحرين يذكر المؤرخون أن القرامطة تمكّنوا من تشكيل دولة قويّة نسبياً وذلك سنة (286) في المناطق الجنوبية من الخليج الفارسي في البحرين والقطيف والإحساء، وكان يرأسهم شخص يُدعى "أبوسعيد الجنابي" آنذاك. وقد وردت أخبار مختلفة عن هذه الشخصية وهو ما كتبه المؤرّخون هنا وهناك. وأفضل ما لدينا من الأخبار هو ما رواه ابن حوقل عن سوابق ابو سعيد هذا، وكيفيّة تعرّفه على فرقة القرامطة، وتشكيل حكومة لهم في البحرين وأماكن أخرى، ونورد أدناه نصَّ العبارات التي ذكرها ابن حوقل"كان أبوسعيد بهرام الجنابي من "جنابة" وبائعاً للطحين. اعتنق معتقدات القرامطة وآمن بها وانضمَّ إلى "عبدان كاتب" زوج أُخت حمدان قرمء ثمّ بدأ بنشر هذه الدعوة في نواحي ومناطق مدينة جنابة أو "گنابة" ومناطق أخرى مثل فارس، فاستطاع الحصول على أموال كثيرة من النّاس. فكتب حمدان قرمط إلى أبوسعيد كتاباً من "كلواذا" يدعوه للمجيء والمثول لديه. ثمّ أرسله هو وعبدان كاتب إلى البحرين وأمره بدعوة النّاس هناك إلى مذهبه، مُعزّزاً بعثته بالأموال والرسائل والتوصيات الخاصّة بذلك. ولما وصل أبوسعيد إلى البحرين تزوّج هناك امرأة من بني سنبر وبدأ بنشر دعوته بين عرب تلك المنطقة فالتفَّ حوله كثيرون، واستطاع بمساعدتهم فتح مدن كثيرة في تلك الأنحاء فانضمَّ إليه عدد كبير من العشائر والقبائل إمّا من خوف ورهبة أو مودّة ورغبة
(25). ويذكر الطبري في تقرير موجز عن ذلك قائلا: في هذه السنة (286) خرج رجلٌ من القرامطة يُدعى أبوسعيد الجنابي في البحرين فاجتمع حوله جماعة من الأعراب والقرامطة... فاشتدت شوكته وقويت دعوته. فقتل كثيراً من الحضر ثمّ رحل إلى موضع يسمّى القطيف، التي تبعد عدّة منازل عن البصرة وقثل جمعاً كثيراً منهم كذلك. وقيل إنّه كان يرغب في فتح البصرة، فلمّا علم والي البصرة بنيّة القرامطة كتب إلى السلطان يخبره بذلك، فأمره السلطان بجمع الخراج والصدقات ويبني بتلك الأموال سوراً حول البصرة. فكانت مخارج هذا العمل قد وصلت إلى أربعة عشر ألف دينار. وبالفعل فقد استطاع البصريون من بناء سور حول المدينة لحمايتهم من أيّ اعتداء
(26). ويورد ابن عماد الحنبلي تفاصيل أكثر حول هذه الحادثة حيث يقول لقد بني السور المحيط بالبصرة بأمر من المعتضد العبّاسي في حين كان ابوسعيد يشتغل بالكيالة، ويقول عن لقبه إنّه كان من "جنابة" وهي إحدى قُرى الأهواز. ثمّ ينقل عن الصولي قوله أنَّ أبوسعيد كان معوزاً فقيراً يبيع الطحين. فجاء إلى البحرين وهناك بدأ ينشر دعوته فانضمَّ إليه جمعٌ ممّن بقي من الزنج واللّصوص، فاشتدت شوكته وتمكّن من دحر جيوش الخليفة مرّات عدّة آنذاك. وطبقاً لما رواه ثابت بن سنان فإن قرامطة البحرين شنّوا هجوماً على مدينة دمشق سنة (306) فقتلوا الكثير من أهالي دمشق، بل إنّهم زادوا على ذلك بحملتهم على مصر فاصطدموا مع جيش جوهر الصقلي قائد قوات المعزّ لدين الله الفاطمي، في منطقة تدعى بـ "عين الشمس" فهزموا جيش الصقلي، إلاّ أنّ جيوش الفاطميين تمكّنت بعد هذه الحملة من دحر قرامطة البحرين وطردهم من مصر. وفي ذلك ينشد حسين بن بهرام قائلا: يا مصر إن لم أسق أرضك من دم يروي ثراك فلاسقاني النيل
(27) وقد وردت الكثير من الروايات المشابهة في عدد من كتب التأريخ ولكن لامجال هنا لذكرها جميعاً، ونكتفي بذكر موجز لما أورده ابن الأثير، من أنَّ أبوسعيد الجنابي الذي كان رأس القرامطة في البحرين، لما قُتل كان يحكم الاحساء
(28) والقطيف والهجر والطائف وسائر بلاد البحرين، حيث قتله غلام له
(29). وبعد مقتل ابوسعيد، تولّى رئاسة القرامطة من بعده ابنه ابوطاهر سليمان الجنابي أحد أكثر الحكام القرامطة شغباً وصخباً، فسار الابن على ما وجد عليه أباه من السلوك والمغالاة. فامتدّت قدرته إلى معظم المناطق، وهو الذي كان يهاجم قوافل الحجّاج مراراً فيقتلهم ويسلب أموالهم، حتّى انتهى به الأمر إلى هجومه على الكعبة المقدسة واحدث فيها مقتلة مريعة، فسرق الحجر الأسود منها كما سنورد ذلك مفصّلا فيما بعد. كان أبوطاهر هذا قاسي القلب ومتهوراً. شنَّ بعد اكتمال السور حول البصرة حملة عليها فاستطاع الدخول إلى المدينة بمساعدة قواته، والسلالم التي استخدمها للعبور من على السور المحيط بالمدينة. وطبقاً لما ذكر ابن كثير فقد كان تحت امرته (1700) فارس، ولمّا تسنّى لهم الدخول إلى المدينة قاموا بمجزرة حقيقية حيث اوقعوا السيف في رقاب النّاس مدّة سبعة عشر يوماً
(30). واتّخذ ابوطاهر من "الهجر" مقراً وعاصمة لمُلكه، والتي كانت على مايذكره ياقوت مركز البحرين، وتُطلق هذه التسمية احياناً على مجموع البحرين
(31). وكان أبوطاهر يمتلك فدائيين ورجالا انتحاريين كُثراً مما ساعده على إحراز النصر في كلّ غزوة كان يقوم بها. ويُقال إنَّ "ابن أبي الساج" لما أراد المسير بجيشه المؤلّف من ثلاثين ألفاً من الجنود نحو القرامطة لمحاربتهم، وإتماماً للحجّة، أرسل إلى أبوطاهر الجنابي رسولا. فلمّا وصل الرّسول إلى أبوطاهر سأله قائلا كم عدد جنود "ابن أبي الساج"؟ فأجابه الرسول ثلاثون ألف فارس. فسخر منه أبوطاهر قائلا الحقّ أنّه لا يملك حتّى ثلاثة فرسان. ثمّ التفتَ إلى أحد فرسانه وأمره بقتل نفسه، فاستلَّ هذا خنجراً وشقَّ بطنه في الحال. فقال أبوطاهر للرسول ما الذي يستطيع "ابن أبي الساج" عمله مع جنود فدائيين كهؤلاء
(32)؟ مهما يكن من أمر فقد كان أبوطاهر مخلوقاً عجيباً، فقد أغار على المدن والمناطق المجاورة وقتل الكثير من سكّانها، ومن هذه المناطق الكوفة والبصرة والرقة والقادسية ورأس العين ونصيبين وكفر توثا والموصل وغيرها من المناطق. بل حتّى وصل به الأمر إلى شنّ حملات ضدّ دمشق وفلسطين إلاّ أنّه لم يوفَّق في ذلك، ووصل إلى حدود بغداد لكنّه طفق راجعاً
(33). وإضافة إلى ما قيل فأبوطاهر كان شاعراً مُجيداً كذلك، ويُلاحظ ممّا نُسِبَ إليه من الشعر كيف يصف طموحاته وأنّه الداعي إلى المهدي بعينه، بكل وضوح. ويقصد بالمهدي هنا بطبيعة الحال، المهدي الفاطمي الذي خرج في أفريقيا. ومن أشعاره مما يلي: أغرّكم منى رجوعي إلى هجر فعمّا قليل سوف يأتيكم الخبر إذا طلع المرّيخ من أرض بابل وقارنه كيوان فالحذر الحذر فيا ويلهم من وقعة بعد وقعة يساقون سوق الشاة للذبح والبقر سأصرف خيلي نحو مصر وبرقة إلى قيروان الترك والروم والخزر إلى أن يقول: أنا الداع للمهدي لا شكّ غيره أنا الصارم الضرغام والفارس الذكر أعمّر حتّى يأتي عيسى بن مريم فيحمد آثاري وأرضى بما أمر
(34) على كلّ فلسنا هنا بصدد ذكر جميع تفاصيل حياة أبوطاهر، ويُعلَم ممّا أوجزناه أنّ أبوطاهر كان قد شكَّل دولة قويّة في البحرين وجنوب خليج فارس وكان من الصعب مواجهته، ممّا يوضّح لنا السبب في عدم توجيه اللّوم إلى المسلمين حتّى بعد سلب وسرقة الحجر الأسود من قبل القرامطة، كما سنذكر ذلك فيما بعد. هذا وقد تناوب على سدة الحكم في البحرين بعد موت أبو طاهر سنة (332) سلسلة الجنابيين القرامطة، إلاّ أنّهم لم يملكوا نفس القدرة والسلطان السابقين.
هجوم القرامطة على مكّة وقصة الحجر الأسود لقد أدخلت الحملات الوحشية التي كان يقوم بها القرامطة على المدن القريبة والبعيدة الرّعب والهلع في نفوس المسلمين، وخصوصاً عمليات الإبادة والقتل الجماعي التي كان القرامطة يمارسونها، وبالأخصّ على قوافل الحجّ التي كانت تتعرّض دوماً لغارات وحملات من هذا النوع. فقد كان الحجّاج الذين يمرّون بمناطق يُسيطر عليها القرامطة وخصوصاً القادمين من العراق، يتعرّضون لحملاتهم الوحشية، حتّى وصل الأمر إلى أنّه في سنة 263 و316 لم يتمكن أي من الحجّاج القادمين من العراق من أداء مراسم الحجّ في هاتين السنتين
(35). وفي سنة 317 وصل الأمر إلى ذورة الخشونة والوحشية فنتجت عنه فاجعة كبرى، فقد امتنع القرامطة على غير عادتهم من مهاجمة قوافل الحجّاج القادمين من العراق باتّجاه الديار المقدّسة، فوصلت القوافل ومنها قافلة العراق بقيادة منصور الديلمي سالمة إلى مكّة دون مضايقة تذكر
(36). إلاّ أنَّ القرامطة بقيادة أبوطاهر الجنابي هاجموا الحجّاج يوم التروية في مكّة على حين غرة فقتلوا منهم جمعاً غفيراً، وليس ذلك وحسب بل هجموا على أهل مكّة وعملوا منهم مذبحة مريعة وانتهكوا حرمة وقدسية المسجد الحرام. ويذكر أنّ أبوطاهر هاجم الحجّاج وأهل مكّة على رأس (900) فارس بينما كان هو ثملا ممتشقاً حسامه على ظهر حصانه الذي تبوّل قريباً من بيت الله الحرام
(37). وينقل المؤرّخون أنَّ القرامطة قتلوا ما استطاعوا من الحجّاج وأهل مكّة، وهتكوا الحرمات ودنّسوا المقدّسات. فقتلوا ما يقارب (1700) نفس كان معظمهم متمسّكاً بأستار الكعبة
(38). وكانت سيوف القرامطة تحصد رؤوس النّاس من الطائفين والمصلّين وحتّى الذين هربوا من بطشهم إلى الوديان والجبال، فكان النّاس يصيحون عليهم أوَ تقتلون ضيوف الله؟ فكان القرامطة يجيبونهم إنَّ من يخالف أوامر الله ليس بضيف له. وقد وصل عدد الذين قُتلوا في هذه الحملة الوحشية قرابة 30 ألف انسان، ورمى القرامطة بجثث أكثر هؤلاء في بطن بئر زمزم ودُفن الكثير كذلك منهم دون أن يُغسلوا أو يكفّنوا
(39). وفي تلك الحالة التي كان القرامطة يُذبّحون فيها المسلمين ويعملون من جثثهم كومات متراكمة بعضها فوق بعض، كان أبوطاهر ينشد البيت التالي وهو يقف بقرب الكعبة: أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
(40) هذا وإضافةً إلى المقتلة العظيمة التي أحدثها القرامطة، والوحشية التي اتّبعوها مع الحجّاج، واستيلائهم على أموالهم وأموال أهل مكّة، فقد قاموا بسرقة معظم الحلي والنفائس الموجودة في الكعبة ومن جملة ما سرقوا ستار الكعبة المشرّفة، وقلعوا بابها ثمّ عمدوا إلى ميزابها لقلعه وأرسلوا واحداً منهم إلى سطح الكعبة لأجل ذلك إلاّ أنَّ المرسل لفعل ذلك سقط من على السطح وخرَّ ميّتاً في الحال. وأهم ممّا قيل فقد سرق القرامطة الحجر الأسود بعد أن قلعوه بواسطة مقلاع أو فأس وحملوه معهم إلى البحرين. وقد ورد موضوع سرقة الحجر الأسود من قبل القرامطة في كتب التأريخ جميعاً، وقد اضافت مصادر تأريخية أخرى قائلة إنَّ أبوطاهر ضَرَبَ الحجر الأسود بفأس كانت بيده وذلك في محاولة لقلعه، فانكسر الحجر ثمّ التفت إلى الجموع هناك قائلا لهم أيّها الجهلة! أنتم تقولون إنَّ كلّ من يرد البيت فهو آمن وقد رأيتم ما فعلتُ أنا إلى الآن. فتقدم إليه رجل من الحاضرين ممّن كان قد هيأ نفسه للموت فأمسك بلجام حصان أبوطاهر وأجابه قائلا إنَّ معنى ذلك ليس كما قلت بل انَّ المعنى هو أن من يدخل هذا البيت فعليكم منحه الأمان على نفسه وماله وعرضه حتّى يخرج منه. فامتعظ القرمطي وتحرك بحصانه دون أن ينبسّ ببنت شفة
(41). وذكر ابن كثير أنَّ أبوطاهر هدَّم القبّة التي كانت موضوعة على رأس بئر زمزم، وهو الذي أمر رجاله بقلع باب الكعبة ونزع ستارها الذي قطعه إرباً إرباً ووزّعه على أصحابه، ثمّ أمر أحد رجاله بالصعود إلى سطح الكعبة لقلع ميزابها فلمّا سقط الرجل من أعلى السطح ومات انصرف أبوطاهر عن قلع الميزاب، وتوجّه إلى الحجر الأسود وأصدر أوامره إلى رجاله بإخراج الحجر، فعمد أحدهم إلى فأس وبدأ يضرب الحجر به وهو يقول "أين الطيور الأبابيل، أين الحجارة من سجّيل؟" ولمّا قلعوا الحجر أخذوه ورحلوا إلى بلادهم
(42). وقد جاء في التكملة لتأريخ الطبري أنّ القرامطة سرقوا الحلي التي كان الخلفاء قد زيّنوا بها الكعبة وأخذوها معهم، ومن تلك الحلي "درّة اليتيم" التي كان وزنها أربعة عشر مثقالا من الذهب، وأفراط مارية وقرون كبش إبراهيم (ع) وعصا موسى والموزونة ذهباً، وطبق ووشيعة من الذهب وسبعة عشر قنديلا من الفضّة وثلاثة محاريب فضيّة أقصر من الإنسان بقليل كانت موضوعة في صدر البيت
(43). وقد قيل إن كثيراً من العلماء المحدثين قتلوا أثناء الهجوم الذي قام به القرامطة على الحجّاج أثناء طوافهم، من جملتهم الحافظ أبوالفضل بن حسين الجارودي وشيخ الحنفية في بغداد أبوسعيد أحمد بن حسين البردعي وأبوبكر بن عبدالله الرهاوي وعلي بن بابويه الصوفي وأبوجعفر محمّد بن خالد البردعي (والذي كان يسكن في مكّة)
(44). وذُكرَ أنّ أحد المحدّثين في ذلك الوقت أنشد بيتاً من الشعر بينما أحاطت به سيوف القرامطة: ترى المحبّين صرعى في ديارهم ** كفتية الكهف لايدرون كم لبثوا
(45) وقد ظلَّ القرامطة يرزحون في مكّة مدّة أحد عشر يوماً وقيل ستّة أيام وبرواية أخرى سبعة أيّام، ورجعوا بعدها إلى هجر مصطحبين معهم الحجر الأسود. ويقال إن أربعين بعيراً هلكوا حينما أرادوا حمل الحجر الأسود، وبقي مكانه في الكعبة خالياً فكان النّاس يمسحون أيديهم بمكانه ويتبركون به
(46). وقد حمل القرامطة الحجر الأسود إلى الإحساء، ويدلّ ذلك على أن ما ذكرته المصادر التأريخيّة من أنَّ القرامطة حملوا الحجر الأسود إلى البحرين أو هجر هو صحيح إذ إنَّ منطقة واسعة من شمال الجزيرة العربية اليوم كانت تدعى بالبحرين أو الهجر حيث تقع الإحساء في داخل هذه المنطقة كذلك.
يتبع .......