الفلسطيني الراحل رفعت صدقي النمر الذي "شرّف الثروة 1918-2007"
في يوم الخميس الحادي عشر من كانون الثاني/يناير 2007، غيب الموت وجها فلسطينيا بارزا هو القطب الاقتصادي والمصرفي الكبير، والمناضل القومي العربي البارز (رفعت صدقي النمر "أبو رامي")، عميد المرجعية الفلسطينية غير الرسمية في لبنان.
والمرحوم (رفعت صدقي النمر) من مواليد مدينة نابلس المجاهدة عام 1918. تلقى تعليمه الثانوي في كلية النجاح الوطنية بنابلس، ومن أساتذته في الكلية المناضل والاقتصادي المعروف (واصف كمال).
وقد تحدث المرحوم واصف كمال –في حوار أجري معه ونشر في كتاب في أخريات أيامه- عن بعض تلاميذه ومنهم رفعت النمر: "أثناء عملي أستاذا للتاريخ السياسي في كلية النجاح الوطنية بنابلس –بعد عودتي من بيروت ولندن حيث أكملت دراستي الجامعية- قمت بغرس الوحدة العربية في نفوس الطلاب، وعملت مع مجموعة من الإخوان وفي مقدمتهم الأستاذ أكرم زعيتر والأستاذ ممدوح السخن.. على إنشاء تشكيلات سرية في جميع أنحاء فلسطين، وبدأنا تدريب الشباب على استعمال السلاح لاستخدامه ضد سلطة الانتداب والصهيونية، وكان من بين الطلاب الذين تجاوبوا مع الدعوة كل من: رفعت صدقي النمر، ومالك المصري، وصلاح عنبتاوي، وعبد الله صلاح، ورستم ماضي ومحمد العمد وآخرون.. قاموا بأعمال فدائية ضد مراكز السلطة الانتدابية والمتعاونين معها".
هذه المنظمة السرية التي يتحدث عنها المرحوم واصف كمال، والتي تأسست في كلية النجاح الوطنية بنابلس، سوف نرى أنها اندمجت –بجهود فريد زين الدين الذي عين مديرا للكلية في تلك الفترة- في مجموعة لبنان من طلائع القوميين العرب، وتم ذلك في اجتماع مشترك، انعقد في حيفا صيف عام 1937.
وإذن فقد انخرط الطالب الشاب رفعت صدقي النمر في تلك المنظمة السرية وبالتالي في صفوف المجاهدين في ثورة 1936 عبر التشكيلات السرية لهذه الثورة التي انتشرت في أنحاء فلسطين، وتدرب على حمل السلاح لمواجهة سلطات الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية، وشارك في عملياتها الفدائية، وتم الزج به في سجون الانتداب البريطاني دون مراعاة عمره الغض.
ومن محطات نشاطه الطلابي انتخابه لرئاسة المؤتمر الطلابي العام الذي انعقد في دار العلوم الإسلامية بمدينة يافا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1936، وقد حضرت ذلك المؤتمر وفود اللجان الطلابية في جميع مدن فلسطين.
وقد ظل رفعت صدقي النمر مرتبطا بطلائع القوميين العرب الذين أسهموا في المشروع النهضوي في الثلاثينيات، وأصبح فيما بعد عضو قياديا في (الحركة) وصديقا للمؤسسين إلى أن تحورت هذه الحركة إلى (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) التي تبنت الفكر الماركسي، لكنه بقي صديقا لقادتها، كما ظل يعتز بالانتماء إلى "أمة راشدة عمر حضارتها من عمر التاريخ البشري للحضارة الإنسانية، تراثها متسامح مفتوح على العلوم والمعارف، وأرضها موطن الإرث الروحي ومهبط الوحي، و عليها أن تتم الرسالة.." –من أقوال النمر-.
أكمل رفعت النمر دراسته الجامعية في عام 1942 بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة (جامعة القاهرة فيما بعد) وعلى خطى أستاذه المناضل والاقتصادي البارز (واصف كمال)، اتجه إلى العمل الاقتصادي وشغل بين عامي 1947و1971 مناصب رفيعة في بنوك ومصارف عربية منها: البنك العربي في نابلس وبغداد وعمان، وبنك الرياض، وبنك القاهرة، في الممكلة العربية السعودية، والبنك الأهلي التجاري السعودي في سوريا ولبنان، وبنك الاتحاد العربي في لبنان، أسس وترأس إدارة بنك بيروت للتجارة، في الفترة بين عامي 1972و1997، وكان عضوا في مجلس إدارة ومحافظ فلسطين في المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا فيما بين 1975و1993، والصندوق العربي للمعونة الفنية للدول الأفريقية فيما بين 1975و1998، وعضوية المجلس التأسيسي ومحافظ فلسطين في البنك الإسلامي للتنمية بين عامي 1977و1978، إضافة إلى أعماله الاقتصادية فإن رفعت النمر كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني ما بين 1964و1993، ونائبا لرئيس الصندوق القومي الفلسطيني، وشغل منصب القائم بأعمال الصندوق مرات عدة، كما كان عضوا في مجلس أمناء المنتدى القومي العربي، وعضو الأمانة العامة في المؤتمر العربي، وعضو في المؤتمر القومي الإسلامي، وعضوا في مجلس أمناء المؤتمر الدائم لمناهضة الغزو الثقافي الصهيوني، وعضوا في مجلس أمناء مؤسسة القدس، ورئيسا للجنة مساندة الدعوى التي أقيمت ضد شارون في المحاكم البلجيكية. كما شغل النمر عضوية عدد من الجمعيات منها: دار الندوة، والنادي الثقافي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي، وصندوق العون القانوني للفلسطينيين. وكان الراحل ممثلا لفلسطين ومحافظا لها في عديد من الهيئات العربية والإسلامية –أشرنا إليها آنفا- وكانت له أياد بيضاء في عدد من المؤسسات الاجتماعية والخيرية اللبنانية والفلسطينية والعربية ولاسيما (صندوق الطلاب الفلسطينيين) و(الصندوق الخيري لأهالي عكا)، وقدم الكثير من الدعم المالي للصندوقيين لمساعدة النشء الفلسطيني والعربي على متابعة دراستهم، وكان يقول: "لاشك أن أمتنا تواجه هموما كثيرة، كما تواجه الآن واقعا صعبا وتحديات كبيرة، عليها أن ترتقي إلى مستوى القدرة على مجابهتها، وعساها أولا أن تعي قدر ذاتها.. ولاسيما أنها تخوض صراعا لا ينفعه إلى سلاح العلم والوعي والإدراك".
ولما كان يردد "أن العقل السليم في الجسم السليم" فإن عطاءه كان يشمل من منهم بحاجة للعلاج ولا تسمح لهم الحاجة للمال كي يقوموا بذلك..".
لقد تمكن أبو رامي بجهده ومثابرته على العمل الجاد من تكوين ثروة لم يضعها تحت البلاطة وينام عليها، بل شارك بها كل محتاج، كما لم ينس أن النضال في سبيل القضية يلزمه التمويل، فأجزل في سبيل تمويل هذا النضال ما قصر الكثيرون عن مثله، وقد تحدث عن هذا الجانب الدكتور أنيس الصايغ في مذكراته التي نشرت عام 2006، فذكر أن صديق عمره، رفعت صدقي النمر (رجل شرف الثروة ولم تشرفه الثروة). ومن قوله هذا اقتبسنا عنوان المقالة.
ورفعت النمر –كما يروي الدكتور صائغ- هو عميد التجمع الرباعي غير الرسمي (رفعت النمر وأحمد اليماني "أبو ماهر" ود.صلاح الدباغ، ود.أنيس الصايغ) الذي أصبح ممثلا للتجمع الفلسطيني في لبنان بعد عام 1982، إذ بعد هذا التاريخ ألغت الحكومة اللبنانية التمثيل لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وأغلقت مكتبها، وأصبحت الفصائل الفلسطينية في لبنان تمثل الأمر الواقع وتعتبر نفسها الممثل الوحيد للفلسطينيين، وانغمست بالعمل السياسي في حين انحدرت أوضاع الفلسطينيين وخاصة في المخيمات نحو مزيد من الحرمان والبؤس والتقهقر في مجالات الطب والتعليم والتطبيب، وحرمة العمل والتنقل. ولمعالجة هذه الأوضاع قام (التجمع الرباعي) الذي أصبح مثلا للممارسات البعيدة عن الأهواء والمصالح الخاصة، التي تجمع بين أفرادها عرى الصداقة والتطوع للمصلحة العامة لشرائح من شعبنا لا تجدد من يلاحق قضاياه الملحة.
ويضيف الدكتور أنيس صايغ: عميد هذا التجمع رفعت صدقي النمر رجل شرف الثروة ولم تشرفه الثروة، أنشأ صندوقا للتنمية الاجتماعية بين الفلسطينيين في لبنان وعهد إلى زملائه الثلاثة بتقديم المشورة ليضمن سلامة صرف المساعدات، وأسجل هنا بادرة كريمة للسيد النمر بأنه قدم إليّ منذ عشر سنوات شقة يملكها في بيروت لاستخدامها في أعمالي الكتابية ونشاطاتي لخدمة التجمع الفلسطيني في لبنان.
مؤلفاته:والراحل الكبير رفعت صدقي النمر كان مُقلّاً في مجال التأليف والكتابة، فقد ترك ثلاثة كتب هي: (صفحات من حياتي في السياسة والثقافة وبين الناس) وكتاب (في المصارف والاقتصاد، كلمات ورسائل ومراجعات) في جزأين.
في الكتاب الأول –صدر عن دار العلم للملايين عام 2002 في 455 صفحة –يقدم المؤلف الوجه الآخر لتجربته خارج عالم المصارف والاقتصاد، ويفيء جوانب من عمله في خضم النضال القومي العربي والوطني الفلسطيني، ومدى تعلقه بشؤون السياسة والثقافة.
ومن أقواله عن الكيان الصهيوني: "إن هذا الكيان وإن بدا اليوم قائما قويا، فهو لا محالة راحل، طال أم قصر الزمن.. سيكون هذا يوما تاريخيا، قد لا أكون شاهدا ولكنه آت".
وقد رحل أبو رامي قبل أن يتحقق رحيل الكيان الصهيوني، ودفن في بيروت التي اختارها منفى إجباريا أغمض فيه عينيه للمرة الأخيرة في الحادي عشر من كانون الثاني/يناير 2007.