التاريخ الشفوي الفلسطيني، بين الحقيقة الغائبة والواقع المزيف
إعداد: مايك جورج سلمان
رئيس جمعية تنظيم وحماية الأسرة الفلسطينية
فرع بيت لحم
مقدمة
تكمن أهمية التاريخ الشـفوي في أنه يعيد التوازن إلى عملية كتابة التاريخ من خلال الاهتمام بذاكرة وأفعال الفئات والطبقات المسـحوقة والمهمشـة. فنحن نعلم بأن القوي المنتصر يدون التاريخ وفقا لوجهة نظره ونسج خياله ويعمل على تسجيل الأحداث التاريخية بطريقة تخدم مصالحه وبالتالي يتحول الخيال إلى حقيقة وتصبح الأكذوبة واقعا مسلما به.
ومن هنا برزت ضرورة التأريخ الشفهي وأهميته، لأن الاهتمام بهذا التاريخ المنثور وجمعه وتدوينه يساهم في تسجيل الأحداث حسب واقعها الفعلي، مما يكفل توثيق هذه الأحداث وأرشفتها والحفاظ عليها لتستفيد منها الأجيال المستقبلية، وتعتمد كمصدر موثوق للباحثين والمؤرخين.
ادوات استخدمها الفلسطينيون في حياتهم اليومية
ورغم ذلك لا تزال الكتابة في مجال التاريخ الشفوي على أهميته غائبة عن المشهد الوطني الفلسطيني الشامل، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن من لا سجلَّ له لا تاريخ له، فإن ذلك يعني إخلاء الساحة للعابثين ليدوِّنوا الأحداث بطريقة تخدم مصالحهم. وعلى الرغم من توافر بعض المبادرات الفردية في ميادين الإعلام ومراكز الأبحاث وبعض المؤسسات المعنية في هذا المجال، إلاّ أن هذا المجهود كان ولا يزال فرديا ووفقا للإمكانيات المحدودة المتوفرة لديها جميعا،وبدون أي تنسيق يذكر فيما بينها. فقد سعت غالبية هذه الأطراف إلى كتابة التاريخ السياسي والسير الذاتية والأمثال الشعبية... الخ. غير أن هذه المبادرات افتقرت في معظم الأحيان إلى المنهجية العلمية والنشاط المؤسسي الذي يضمن الانطلاق في مجال التاريخ الشفهي الفلسطيني بصورة متسلسلة شمولية سليمة.
وفي الوقت الحاضر تسعى كثير من المؤسسات من المجتمع المدني والجامعات الفلسطينية إلى تقصي الحقائق ومتابعتها من خلال إسناد النظرية العلمية لها، غير أن نجاح جهودها وتطوير أدواتها يعتمد على مدى توفر الدعم المادي والمعنوي والشرعية في العمل.
التاريخ الشفوي والوثائق التاريخية
ورغم أن التاريخ الشفوي ضروري، لكنه لا يغني عن الوثائق المكتوبة، حيث لا يمكن اعتبار التاريخ الشفوي أو الشهادة الشفوية بحد ذاتها تاريخا، وإنما هي صور حية توضح مدى المصداقية في كثير من الأحداث المدونة في الكتب والمراجع التاريخية.
وتظهر أهمية الشهادة الشفوية عند غياب الوثائق المتصلة بالحدث أو المعلومة أو عند تفسير الحدث من قبل شخص أو أشخاص عاصروه أو ساهموا في صناعته أو كان لهم دور في القيام به. فعند غياب الوثائق عن الحدث أو عندما لا تعطي الوثيقة الجواب الشافي،فإن لمن الضروري جمع شهادات عدد من الأشخاص الذين شاركوا فيه أو عاصروه، كي نتمكن من إلقاء الضوء على الكثير من الإيضاحات لدى تفسيرنا لهذا الحدث.
ورغم ذلك تبقى الشهادة الشفوية شهادة ضعيفة لا ترقى إلى مستوى الوثيقة المكتوبة لأنها تعتمد كليا على الذاكرة، والذاكرة لا يمكن الاعتماد عليها كليا لما يعتريها من تآكل وغموض واختلاط في الصور والأحداث. ولكن حتى نضمن الحصول على شهادة قوية تُعتمد لدى صناع القرار والمؤرخين والباحثين، يجب علينا تأكيد هذه الشـهادة من أكثر من مصدر، على أن تتوفر أيضا لدى الراوي عند إجراء المقابلة معه الأمور الأسـاسـية التالية:
حرية التعبير.
الحماية القانونية.
الجرأة في قول الحقيقة وتوضيح وجهة النظر.
أن تكون شهادته دقيقة وحيَّة مع التأكد من عاصر الحدث أو انخراط فيه.
كما أن على الباحث أن يمتلك المهارات اللازمة في إنجاح العملية وهي :
1-إتقان لهجة الشاهد أو الراوي المحلية.
2- أن يكون لدى الباحث مخزون من المعلومات والمعرفة واللباقة في التعامل.
3- أن تتوفر لدى الباحث المهارات التقنية والأسلوب المناسب في كيفية توجيه الأسئلة بطريقة لا تستفز الشاهد أو الراوي.
استخدام التقنيات الحديثة
يرجع الخوف من أن الرواية الشفوية لا يمكن الاعتماد عليها، لما قد يعتريها من الخطأ الناتج عن التحريف والنسيان. غير أن التقدم التكنولوجي وتطور التقنيات الحديثة التي تستخدم في إجراء المقابلات وتخزين المعلومات وتوثيقها، ساهم كثيرا في تطور مصادر التاريخ الشفوي وتنامي المصداقية فيه. حيث إن العصر الذي نعيشه اليوم هو عصر العقلية التاريخية، والرواية المدونة وحدها لا تكفي، ومن هنا لا بد من استخدام التقنيات الحديثة في حفظ الروايات الشفوية لأنها تزود المؤرخين بمصادر جديدة. ورغم أن الشهادة المسجلة لم تحظى لغاية الآن بالأهمية المطلوبة في تسجيل تاريخنا الفلسطيني المعاصر،غير أننا نجد في الوقت ذاته أن العديد من دول العالم المتحضر أولت الكثير من الاهتمام بذلك حيث تمكنت من استخدام التقنيات الحديثة في تكوين مكتبات متحركة لخدمة التاريخ الشفوي.
ومن هنا فإن الواجب يحتم علينا كفلسطينيين بأن نضع منهجية قادرة على التعامل مع فيض المعلومات الغزيرة المتدفقة عبر الوسائط الإلكترونية التي تجمع بين الشفهية والكتابة والصور، والتي أصبحت من المصادر الجديدة لمعرفة الحقائق التاريخية وتدوينها وتوثيقها، خاصة بعد أن ساهمت العولمة في إتاحة الفرصة للجميع الحصول عليها بسهولة وبدون رقيب في غالب الأحيان.
دور المؤسسات الإعلامية
وحول دور مؤسسات الإعلام ومراكز الأبحاث في موضوع التأريخ الشفوي فإن التاريخ المعاصر فيه الكثير من الاهتمام بالروايات الشفوية من قبل البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وكذلك البرامج التي تتحدث عن التاريخ مثل برنامج "شاهد على العصر" الذي يعرض في قناة الجزيرة الفضائية. لدى أصبحت روايات الكثيرين ممن كانوا جزءا من صناعة التاريخ أو جزءا من المشهد فيه مصادر لا يمكن دحضها بسهولة، وبالتالي فإن الرواية الشفوية اكتسبت مع التطور التقني المتاح لوسائل الإعلام مصداقية أكبر. وعلى الرغم من ذلك كله علينا توخي الحذر والتمعن لأن هذه الشهادة الشفوية قد تكون في كثير من الأحيان هي المصدر الوحيد للمعلومة أو الحدث التاريخي، فيصعب علينا بالتالي إجراء المقارنات الضرورية اللازمة. وهذا يعيدنا إلى نقطة الانطلاق الأولى ويتركنا ندور في حلقة مفرغة يهيمن عليها شعور من الشك وغياب الثقة وانعدام الدقة.
وأما على صعيد محطات التلفزيون والراديو المحلية فهي في فلسطين حديثة المنشأ نسبيا ولم يكن لدينا في السابق الاهتمام الكافي بالتأريخ الشفوي، وعلى الرغم من ذلك فقد بادرت الإذاعة والتلفزيون الفلسطيني مؤخرا إلى تبني برامج خاصة تتعلق بهذا المضمار، إلا أن نشاطها لا يزال محدودا وفقا للإمكانيات المتوفرة ولا يزال جزء كبير من هذه البرامج غير مستكمل بعد.
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن قضيتنا الفلسطينية التي تمتد جذورها إلى نهاية القرن التاسع عشر، فإن العديد ممن عاصروها وعايشوا الأحداث في كافة مراحلها عبر أجيال متتالية قد أهملوا في سرد أحداثها وتأريخها، ومع وفاة أجيال عديدة من معاصري تلك الأحداث وغياب نظام التأريخ والأرشفة وانعدام وجود المكتبات الوطنية، فقد كانت الساحة خالية أمام عمالقة الإعلام وخبراء السياسة الصهاينة للعبث في الحقائق التاريخية وتشويهها أمام الدول الغربية خاصة والمجتمع الدولي عامة، حيث استطاعوا بمكرهم أن يحوِّلوا قضيتنا العادلة من قضية شعب مظلوم يسعى نحو نيل حريته واستقلاله إلى قضية فئة عرقية من المتعصبين والإرهابيين اللذين يسعون إلى القضاء على دولة إسرائيل ومسحها عن الخريطة الدولية، هذه الدولة البريئة والمسالمة والتي تعتبر من وجهة نظرهم الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط.
لدى وجب علينا الاهتمام بالتاريخ الشفوي الفلسطيني بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من معلومات ووقائع تاريخية، وتدوينها وتوثيقها، وعمل تصحيح شامل على كل ما كتب حتى الآن من قبل بعض المؤرخين العاملين لصالح الإعلام الصهيوني ونقده. وهذا يحتاج إلى شهادة الأشخاص اللذين عاصروا تلك الأحداث التاريخية عسانا نتمكن من إحياء الحقائق التي تم طمسها، والتأكيد على هذه المعلومات من عدة مصادر، وإجراء مقابلات مع العديد من الأشخاص وذلك لفضح الحقائق التاريخية التي شوهتها الجهات المعادية، وإثبات أن جزء كبير مما كُتب حول تاريخ القضية الفلسطينية لغاية الآن غير دقيق وينافي واقع الأمر وحقيقته. وعلينا توخي الحيطة والحذر في هذا المجال من الهواة وغير المتخصصين والمندسين والمستعجلين الذين قد يسجلون شهادات شفوية تضر بتاريخ قضيتنا الفلسطينية خدمة لأهداف وأغراض تلك الجهات.
دور الجامعات الفلسطينية
وهنا يأتي دور أقسام التاريخ في الجامعات الفلسطينية والمتخصصين الحريصين على التوثيق الصحيح إلى وضع مساقات خاصة ودراسات متكاملة تتضمن التعريف والشروط والقواعد العلمية التي على الباحث أن يلتزم بها عند عمل أي مقابلة. وهذا بدوره يساعد المؤرخين الرسميين أن يولوا الأهمية إلى التأريخ الشفوي كمصدر للتأكد من حقيقة الأحداث التاريخية وتوثيقها ومطابقتها مع المتداول منها في كتب التاريخ، حيث أن ثقافة الورق المكتوب تعني الإيمان والتصديق بكل ما هو مدون ومكتوب على الورق بغض النظر عن كونه حقيقة مشوهة أم لا. غير أن الواقع والحقيقة المجردة تقول بأن الشهادة الحية من الأجيال المعاصرة لتلك الأحداث التاريخية هي الكفيل الوحيد بتقييم الكثير من المعلومات المضللة وتصحيحها. وقد يرجع سبب تأخرنا بعض الشيء في الاهتمام بتاريخنا الشفوي في هذا الوطن العزيز فلسطين إلى عدم وجود وطن قومي مستقل نحكمه بأنفسنا وبدون وصاية خارجية.
التاريخ الشفوي الفلسطيني، بين الحقيقة الغائبة والواقع المزيف
إعداد: مايك جورج سلمان
رئيس جمعية تنظيم وحماية الأسرة الفلسطينية
فرع بيت لحم
مقدمة
تكمن أهمية التاريخ الشـفوي في أنه يعيد التوازن إلى عملية كتابة التاريخ من خلال الاهتمام بذاكرة وأفعال الفئات والطبقات المسـحوقة والمهمشـة. فنحن نعلم بأن القوي المنتصر يدون التاريخ وفقا لوجهة نظره ونسج خياله ويعمل على تسجيل الأحداث التاريخية بطريقة تخدم مصالحه وبالتالي يتحول الخيال إلى حقيقة وتصبح الأكذوبة واقعا مسلما به.
ومن هنا برزت ضرورة التأريخ الشفهي وأهميته، لأن الاهتمام بهذا التاريخ المنثور وجمعه وتدوينه يساهم في تسجيل الأحداث حسب واقعها الفعلي، مما يكفل توثيق هذه الأحداث وأرشفتها والحفاظ عليها لتستفيد منها الأجيال المستقبلية، وتعتمد كمصدر موثوق للباحثين والمؤرخين.
ادوات استخدمها الفلسطينيون في حياتهم اليومية
ورغم ذلك لا تزال الكتابة في مجال التاريخ الشفوي على أهميته غائبة عن المشهد الوطني الفلسطيني الشامل، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن من لا سجلَّ له لا تاريخ له، فإن ذلك يعني إخلاء الساحة للعابثين ليدوِّنوا الأحداث بطريقة تخدم مصالحهم. وعلى الرغم من توافر بعض المبادرات الفردية في ميادين الإعلام ومراكز الأبحاث وبعض المؤسسات المعنية في هذا المجال، إلاّ أن هذا المجهود كان ولا يزال فرديا ووفقا للإمكانيات المحدودة المتوفرة لديها جميعا،وبدون أي تنسيق يذكر فيما بينها. فقد سعت غالبية هذه الأطراف إلى كتابة التاريخ السياسي والسير الذاتية والأمثال الشعبية... الخ. غير أن هذه المبادرات افتقرت في معظم الأحيان إلى المنهجية العلمية والنشاط المؤسسي الذي يضمن الانطلاق في مجال التاريخ الشفهي الفلسطيني بصورة متسلسلة شمولية سليمة.
وفي الوقت الحاضر تسعى كثير من المؤسسات من المجتمع المدني والجامعات الفلسطينية إلى تقصي الحقائق ومتابعتها من خلال إسناد النظرية العلمية لها، غير أن نجاح جهودها وتطوير أدواتها يعتمد على مدى توفر الدعم المادي والمعنوي والشرعية في العمل.
التاريخ الشفوي والوثائق التاريخية
ورغم أن التاريخ الشفوي ضروري، لكنه لا يغني عن الوثائق المكتوبة، حيث لا يمكن اعتبار التاريخ الشفوي أو الشهادة الشفوية بحد ذاتها تاريخا، وإنما هي صور حية توضح مدى المصداقية في كثير من الأحداث المدونة في الكتب والمراجع التاريخية.
وتظهر أهمية الشهادة الشفوية عند غياب الوثائق المتصلة بالحدث أو المعلومة أو عند تفسير الحدث من قبل شخص أو أشخاص عاصروه أو ساهموا في صناعته أو كان لهم دور في القيام به. فعند غياب الوثائق عن الحدث أو عندما لا تعطي الوثيقة الجواب الشافي،فإن لمن الضروري جمع شهادات عدد من الأشخاص الذين شاركوا فيه أو عاصروه، كي نتمكن من إلقاء الضوء على الكثير من الإيضاحات لدى تفسيرنا لهذا الحدث.
ورغم ذلك تبقى الشهادة الشفوية شهادة ضعيفة لا ترقى إلى مستوى الوثيقة المكتوبة لأنها تعتمد كليا على الذاكرة، والذاكرة لا يمكن الاعتماد عليها كليا لما يعتريها من تآكل وغموض واختلاط في الصور والأحداث. ولكن حتى نضمن الحصول على شهادة قوية تُعتمد لدى صناع القرار والمؤرخين والباحثين، يجب علينا تأكيد هذه الشـهادة من أكثر من مصدر، على أن تتوفر أيضا لدى الراوي عند إجراء المقابلة معه الأمور الأسـاسـية التالية:
حرية التعبير.
الحماية القانونية.
الجرأة في قول الحقيقة وتوضيح وجهة النظر.
أن تكون شهادته دقيقة وحيَّة مع التأكد من عاصر الحدث أو انخراط فيه.
كما أن على الباحث أن يمتلك المهارات اللازمة في إنجاح العملية وهي :
1-إتقان لهجة الشاهد أو الراوي المحلية.
2- أن يكون لدى الباحث مخزون من المعلومات والمعرفة واللباقة في التعامل.
3- أن تتوفر لدى الباحث المهارات التقنية والأسلوب المناسب في كيفية توجيه الأسئلة بطريقة لا تستفز الشاهد أو الراوي.
استخدام التقنيات الحديثة
يرجع الخوف من أن الرواية الشفوية لا يمكن الاعتماد عليها، لما قد يعتريها من الخطأ الناتج عن التحريف والنسيان. غير أن التقدم التكنولوجي وتطور التقنيات الحديثة التي تستخدم في إجراء المقابلات وتخزين المعلومات وتوثيقها، ساهم كثيرا في تطور مصادر التاريخ الشفوي وتنامي المصداقية فيه. حيث إن العصر الذي نعيشه اليوم هو عصر العقلية التاريخية، والرواية المدونة وحدها لا تكفي، ومن هنا لا بد من استخدام التقنيات الحديثة في حفظ الروايات الشفوية لأنها تزود المؤرخين بمصادر جديدة. ورغم أن الشهادة المسجلة لم تحظى لغاية الآن بالأهمية المطلوبة في تسجيل تاريخنا الفلسطيني المعاصر،غير أننا نجد في الوقت ذاته أن العديد من دول العالم المتحضر أولت الكثير من الاهتمام بذلك حيث تمكنت من استخدام التقنيات الحديثة في تكوين مكتبات متحركة لخدمة التاريخ الشفوي.
ومن هنا فإن الواجب يحتم علينا كفلسطينيين بأن نضع منهجية قادرة على التعامل مع فيض المعلومات الغزيرة المتدفقة عبر الوسائط الإلكترونية التي تجمع بين الشفهية والكتابة والصور، والتي أصبحت من المصادر الجديدة لمعرفة الحقائق التاريخية وتدوينها وتوثيقها، خاصة بعد أن ساهمت العولمة في إتاحة الفرصة للجميع الحصول عليها بسهولة وبدون رقيب في غالب الأحيان.
دور المؤسسات الإعلامية
وحول دور مؤسسات الإعلام ومراكز الأبحاث في موضوع التأريخ الشفوي فإن التاريخ المعاصر فيه الكثير من الاهتمام بالروايات الشفوية من قبل البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وكذلك البرامج التي تتحدث عن التاريخ مثل برنامج "شاهد على العصر" الذي يعرض في قناة الجزيرة الفضائية. لدى أصبحت روايات الكثيرين ممن كانوا جزءا من صناعة التاريخ أو جزءا من المشهد فيه مصادر لا يمكن دحضها بسهولة، وبالتالي فإن الرواية الشفوية اكتسبت مع التطور التقني المتاح لوسائل الإعلام مصداقية أكبر. وعلى الرغم من ذلك كله علينا توخي الحذر والتمعن لأن هذه الشهادة الشفوية قد تكون في كثير من الأحيان هي المصدر الوحيد للمعلومة أو الحدث التاريخي، فيصعب علينا بالتالي إجراء المقارنات الضرورية اللازمة. وهذا يعيدنا إلى نقطة الانطلاق الأولى ويتركنا ندور في حلقة مفرغة يهيمن عليها شعور من الشك وغياب الثقة وانعدام الدقة.
وأما على صعيد محطات التلفزيون والراديو المحلية فهي في فلسطين حديثة المنشأ نسبيا ولم يكن لدينا في السابق الاهتمام الكافي بالتأريخ الشفوي، وعلى الرغم من ذلك فقد بادرت الإذاعة والتلفزيون الفلسطيني مؤخرا إلى تبني برامج خاصة تتعلق بهذا المضمار، إلا أن نشاطها لا يزال محدودا وفقا للإمكانيات المتوفرة ولا يزال جزء كبير من هذه البرامج غير مستكمل بعد.
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن قضيتنا الفلسطينية التي تمتد جذورها إلى نهاية القرن التاسع عشر، فإن العديد ممن عاصروها وعايشوا الأحداث في كافة مراحلها عبر أجيال متتالية قد أهملوا في سرد أحداثها وتأريخها، ومع وفاة أجيال عديدة من معاصري تلك الأحداث وغياب نظام التأريخ والأرشفة وانعدام وجود المكتبات الوطنية، فقد كانت الساحة خالية أمام عمالقة الإعلام وخبراء السياسة الصهاينة للعبث في الحقائق التاريخية وتشويهها أمام الدول الغربية خاصة والمجتمع الدولي عامة، حيث استطاعوا بمكرهم أن يحوِّلوا قضيتنا العادلة من قضية شعب مظلوم يسعى نحو نيل حريته واستقلاله إلى قضية فئة عرقية من المتعصبين والإرهابيين اللذين يسعون إلى القضاء على دولة إسرائيل ومسحها عن الخريطة الدولية، هذه الدولة البريئة والمسالمة والتي تعتبر من وجهة نظرهم الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط.
لدى وجب علينا الاهتمام بالتاريخ الشفوي الفلسطيني بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من معلومات ووقائع تاريخية، وتدوينها وتوثيقها، وعمل تصحيح شامل على كل ما كتب حتى الآن من قبل بعض المؤرخين العاملين لصالح الإعلام الصهيوني ونقده. وهذا يحتاج إلى شهادة الأشخاص اللذين عاصروا تلك الأحداث التاريخية عسانا نتمكن من إحياء الحقائق التي تم طمسها، والتأكيد على هذه المعلومات من عدة مصادر، وإجراء مقابلات مع العديد من الأشخاص وذلك لفضح الحقائق التاريخية التي شوهتها الجهات المعادية، وإثبات أن جزء كبير مما كُتب حول تاريخ القضية الفلسطينية لغاية الآن غير دقيق وينافي واقع الأمر وحقيقته. وعلينا توخي الحيطة والحذر في هذا المجال من الهواة وغير المتخصصين والمندسين والمستعجلين الذين قد يسجلون شهادات شفوية تضر بتاريخ قضيتنا الفلسطينية خدمة لأهداف وأغراض تلك الجهات.
دور الجامعات الفلسطينية
وهنا يأتي دور أقسام التاريخ في الجامعات الفلسطينية والمتخصصين الحريصين على التوثيق الصحيح إلى وضع مساقات خاصة ودراسات متكاملة تتضمن التعريف والشروط والقواعد العلمية التي على الباحث أن يلتزم بها عند عمل أي مقابلة. وهذا بدوره يساعد المؤرخين الرسميين أن يولوا الأهمية إلى التأريخ الشفوي كمصدر للتأكد من حقيقة الأحداث التاريخية وتوثيقها ومطابقتها مع المتداول منها في كتب التاريخ، حيث أن ثقافة الورق المكتوب تعني الإيمان والتصديق بكل ما هو مدون ومكتوب على الورق بغض النظر عن كونه حقيقة مشوهة أم لا. غير أن الواقع والحقيقة المجردة تقول بأن الشهادة الحية من الأجيال المعاصرة لتلك الأحداث التاريخية هي الكفيل الوحيد بتقييم الكثير من المعلومات المضللة وتصحيحها. وقد يرجع سبب تأخرنا بعض الشيء في الاهتمام بتاريخنا الشفوي في هذا الوطن العزيز فلسطين إلى عدم وجود وطن قومي مستقل نحكمه بأنفسنا وبدون وصاية خارجية.
وأخيرا فإن من الممكن إنقاذ ما تبقى من معلومات تاريخية وتراث وفلكلور شعبي وذلك بجمع ما يمكن جمعه من تلك المعلومات وتبويبها وأرشفتها وتوثيقها كي يستفيد منها المؤرخين والباحثين عسى أن نتمكن من إعادة التوازن إلى عملية كتابة التاريخ مستندين على معلومات مختلف الفئات والطبقات الفلسطينية في الوطن والشـتات، وتجارب الناس العاديين والفئات المهمشة، وخبرات الشخصيات المقصاة عن الحيز السياسي والاجتماعي العام. مع حرصنا على تأكيد هذه المعلومات من عدة مصادر لتكتسب مصداقية وشرعية أكبر أمام المجتمعين العربي والدولي، وبالتالي إلى فرض التعامل معها وتداولها، وحفظها لتستفيد منها الأجيال الفلسطينية عبر المستقبل.
وأخيرا فإن من الممكن إنقاذ ما تبقى من معلومات تاريخية وتراث وفلكلور شعبي وذلك بجمع ما يمكن جمعه من تلك المعلومات وتبويبها وأرشفتها وتوثيقها كي يستفيد منها المؤرخين والباحثين عسى أن نتمكن من إعادة التوازن إلى عملية كتابة التاريخ مستندين على معلومات مختلف الفئات والطبقات الفلسطينية في الوطن والشـتات، وتجارب الناس العاديين والفئات المهمشة، وخبرات الشخصيات المقصاة عن الحيز السياسي والاجتماعي العام. مع حرصنا على تأكيد هذه المعلومات من عدة مصادر لتكتسب مصداقية وشرعية أكبر أمام المجتمعين العربي والدولي، وبالتالي إلى فرض التعامل معها وتداولها، وحفظها لتستفيد منها الأجيال الفلسطينية عبر المستقبل.