أصول الفقه منطق المسلمين
"محمد سعيد" القاضي
إن علم أصول الفقه هو من أجلّ العلوم التي صاغها المسلمون وحرروها، فهو يعد الأساس الأول للإسلام، والقانون العام لوضع الأحكام عند المسلمين، بل لولا هذا العلم لانقطع نظمُ الإسلام وبطلت الشرائع والأحكام، كيف والقرآن الكريم والسنة النبوية لم ترد بجميع الأحكام بل لا يعقل أن ترد بجميعها فإن الوقائع لا تتوقف وهي متجددة بتجدد حركة البشر فلا توقف لها عند حد.
قال ابن خلدون في مقدمته :"اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدة، وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف".
والله تعالى حفظ هذا الدين بحفظ قواعده وأصوله، وجعله خاتمة الأديان وصالح لكل زمان، وهذا لا يتأتى إلا إن كان يعالج كل قضية من قضايا الواقع والمستقبل، وكيف ستحل هذه القضايا والوقائع وهو لم يرد بالأحكام التفصيلة لكل قضية وواقعة، فكان لا بد من أصول تبنى عليها قواعد هذا الدين وتكون المرجع للمسلمين في كل وقت وحين.
قال ابن خلدون :"إن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه، لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسوها بما ثبت، وألحقوها بما نص عليه، بشروط في ذلك الإلحاق، تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين، حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد".
فكان هذا العلم الذي يعد القانون العام لكل حكم من أحكام هذا الدين، إليه يفزع المجتهدون، وإليه يُرْجَعُ في معرفة التكاليف والقوانين، قال ابن خلدون :"ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني، يفيدنا العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهذا هو أصول الفقه. وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى".
وهذا العلم بالنسبة للمسلمين هو قانونهم كما أشرنا بل هو منطقهم كما المنطق الأرسطي بالنسبة لليونان، فهو قانون تعصم مراعته الذهن من الخطأ في أحكام الله تعالى واستنباطها، ولا أدل على ذلك مما قاله الإمام الفخر الرازي في كتابه مناقب الإمام الشافعي :"اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة (أرسطاطاليس) الحكيم إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، ذلك أن الناس كانوا قبل أرسطاطاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن لم يكن عندهم قانون مخلّص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلي: قلما أفلح، فلما رأى أرسطاطاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة، واستخرج علم المنطق ووضع للخلق بسببه قانونا كليا يُرجَع إليه في معرفة تركيب الحدود والبراهين.
وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارا وكان اعتمادهم على مجرد الطبع، فاستخرج الخليل علم العروض، فكان ذلك قانوناً كلياً في معرفة مصالح الشعر ومفاسده".
ثم أضاف الفخر رحمه الله قائلاً :"فكذلك هاهنا، الناس كانوا قبل الإمام الشافعي رضي الله عنه، يتكلمون في مسائل الفقه ويعترضون ويستدلون، لكن ما كان لهم قانون كلي يُرجَع إليه في معرفة الدلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي رحمة الله عليه، أصول الفقه ووضع للخلق قانونا كليا يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع، كنسبة أرسطو إلى علم العقل".
وقد نقلنا كلام الفخر بطوله لأنه مفيد وقلما تجد من نبه عليه، وبه يتضح أهمية علم الأصول وأنه المنطق الإسلامي وأنه القاعدة والأساس لعلوم المسلمين في فهم كتاب الله وسنة رسوله، ولم توجد أمة من الأمم صاغت علما كهذا العلم في ضبط كتابها المنزل، فالله أختص هذه الأمة بهذا العلم لأنها خاتمة الأمم وكتابها خاتم الكتب ورسولها خاتم الرسل، ولأن هذا الدين محفوظ من الله وهو صالح لكل زمان ومكان ولا يكون كذلك إلا بهذا العلم.
وقد قال الحجة الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في كتابه المستصفى في أهمية هذا العلم ما نصه :"أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطُحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، حيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد، الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد".
ونحن اليوم نسمع أصواتا هنا وهناك إما رافضة لعلم الأصول بالكلية وبدعوى التجديد وأخرى رافضة لبعض مباحثه، فمن أراد التجديد من الحداثيين وأتباعهم هو في الحقيقة لا يريد إلا هدم هذا الدين، لأنه إذا زال الضابط في فهم كتاب الله وسنة رسوله قال من شاء ما شاء، وذهب العقل إلى أبعد آفاقه في الفهم السقيم الذي لا يستقيم مع السياق ولا مع اللغة ولا مع أصول هذا الدين وما هو معلوم منه بالضرورة، ولذلك نجدهم يكثرون الكلام حول علم الأصول.
فتارة هو تحجير على العقل وتارة هو مبتدع من قبل العلماء لكي يحتكروا الخطاب الديني، وليت شعري أين الاحتكار عند من يقول لكل من أراد الاجتهاد هو ذا الباب أمامك ولكن تحقق بالعلم وترسّم برسومه كي تفهم كلام الله تعالى وإلا فلا يحق لكل واحد علم أم لم يعلم الخوض في كلام لا يفهمه.
فالعقل السليم يرفض قول العاميّ الجاهل في الطب بمسألة طبية، فلو أن إنسانا عاميّا جاهلا بالطب قال لك علاج مرضك كذا ولا تستمع لقول الطبيب بإن علاجه كذا لما أقمت لقوله أي ميزان، وقس على ذلك سائر العلوم كالهندسة والفلك والكيمياء والأحياء وغير ذلك، فأنت لا تقبل فيها إلا قول العالم الدارس لهذا العلم، فكذلك علم الشرع فله أصول وقواعد فلا يتكلم فيه إلا من يفهم تلك الأصول والقواعد ويفهم لغة التنزيل، فكيف يتكلم بالقرآن من لا يستطيع أن يعرب سطرا منه ولا أن يفهم مطلقه ومقيده وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه إلى غير ذلك!
وأصوات أخرى ممن ينتسب إلى العلم وأهله يرفض أيضا أبوابا من أصول الفقه كالقياس والإجماع بل إن الغالب عليهم رفض الإجماع وما هدفهم من ذلك إلا إسقاط الأحكام الشرعية وفتح العنان لكل واحد بالاجتهاد بما وقع عليه الإجماع، والأصل أن يتهم الإنسان عقله إذا خالف نظره نظر كل العقلاء أو غالبهم!
يقول الإمام الشاطبي في موافقاته :"وأتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة، وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس، إلا أنه شذوذ"، ويقصد بأصول الأدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فلم يخالف في هذه الأصول إلا الشذاذ ونحن في عصر كثر فيه الشذوذ.
ولا ننسى أن نشير إلى أن هنالك قوم لا ينكرون أصول الفقه ولكنهم لا يفهمونه، وفي واقعهم عند الاجتهاد والفتوى لا ينظرون إلى الأصول أبداً، فنرى منهم العجب العجاب ونرى منهم تبديعهم للمسلمين وتضليلهم لخلق الله أجمعين، وهؤلاء وطائفة أخرى منهجها التيسير لمجرد التيسير لا بحثا عن الحق نجدهم يضطربون في الفتوى بسبب عدم نظرهم في علم الأصول.
وبهذا البيان يتضح أهمية علم أصول الفقه، وما تكلمنا به في هذا المقال إلا بسبب ما نرى من شذوذ في الفتوى وهجوم على استنباط الأحكام من الجهال، وطعن في علم الأصول أو في بعض مسائله، وكل هذا ما أنتج لنا سوى التكفير للمسلمين والقتل وسفك الدماء بغير حق والتجاسر على حرمات الله تعالى، وندعوا علماء الأمة إلى تبيين هذا العلم ونشره، وندعو المفكرين إلى النظر فيه والدفاع عنه لأنه دفاع عن الدين وعن كتاب الله وسنة نبيه، وهو جهاد في حفظ الدين.
وأخيرا نذكر بعض كتب الأصول وهي أهم الكتب عبر التاريخ لنري القارئ كيف بذل علماء الإسلام جهودا جبارة في فهم وتدوين وتنقيح هذا العلم وننقل كلام الإمام الشاطبي في ذلك مع تصرف بالزياد والحذف قال :"كان من أحسن ما كتب في علم الأصول على طريقة المتكلمون، كتاب البرهان لإمام الحرمين الجويني، والمستصفى للغزالي، وهما من الأشعرية.
وكتاب العمد للقاضي عبد الجبار، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة. وكانت هذه الكتب الأربعة، قواعد هذا الفن وأركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب الرازي في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام.
واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج. فابن الخطيب الرازي أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأما كتاب المحصول، فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل، وتاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل.
واختصرهما الإمام البيضاوي في كتاب المنهاج. وقد أعتنى العلماء بهذا الكتاب فشرحه كثير منهم ومن أهم هذه الشروح كتاب الإبهاج للإمام السبكي وكتاب نهاية السول للإمام الإسنوي وشرح للإمام للأصفهاني وغيرهم كثير.
وأما كتاب الإحكام للإمام الآمدي، فلخصه أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير، ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه؛ منها رفع الحاجب عن ابن الحاجب للإمام السبكي ومنها شرح للإمام للأصفهاني وأهم هذه الشروح شرح الإمام العضد وعليه حاشية للإمام التفتزاني وحاشية أخرى للسيد الشريف الجرجاني.
ثم جاء الإمام السبكي رضي الله عنه وألف كتابا بديعا ما زال العلماء يعكفون على دراسته وشرحه وتأليف الشروح عليه والحواشي وهو كتاب (جمع الجوامع) الذي قال فيه أنه جمعه من زهاء مائة مصنف.
وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات وشروحها وحواشيها.
وأما طريقة الحنفية وتسمى بطريقة الفقهاء فكتبوا فيها كثيراً، وكان من أحسن ما كتبه المتقدمون فيها تأليف أبي زيد الدبّوسي، وأحسن ما كتبه المتأخرون فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم، وهو مستوعِب. وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب الأحكام وكتاب البزدوي في الطريقتين، وسمى كتابه بالبدائع، فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثاً. وأولع كثير من علماء العجم بشرحه. والحال على ذلك لهذا العهد" انتهى كلام الشاطبي.