الحرم الإبراهيمي في الخليل حكاية تاريخ أقدم مكان مقدس مع الاستيطان
هناك من يعتقد أن التهجير الفلسطيني من مدنهم وقراهم توقف عام 1948 أي بعد تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي لكن الحقيقة أنه مستمر ولم يتوقف الإبراهيمي الذي يعتبر جزءا أصيلا من مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية في فلسطين أحد هذه الأماكن والمواقع التي تستهدف بشكل يومي.
ورغم أن المسجد الإبراهيمي لا يحتل مساحة كبيرة من الاهتمام أسوة بما يجري في المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس إلا أنه مستهدف وبشدة. وفي عام 2021 تكثفت الجهود الاستيطانية التي تعمل «بتأن وروية ونفس طويل» حسب ما يرى سكان المدينة الذين يشهدون على عملية كبيرة تهويدية تمتد على عشرات السنين.
قبل شهر تقريبا اقتحم الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتصوغ، الحرم الإبراهيمي تحت حراسة مشددة من قوات الجيش الإسرائيلي وهناك غير أداء الصلاة أضاء شموع الشمعدان الضخم على أصوات غناء بالعبرية.
وفي عام 2019 تضاعفت جهود اليمين الإسرائيلي على الأرض في بناء حي يهودي وسط مدينة الخليل، فقد كان اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس دولة الاحتلال رؤوفين ريفلين، الحرم الإبراهيمي في أيلول/سبتمبر من نفس العام بداية لمرحلة جديدة من تهويد المدينة والاستحواذ على المسجد.
ويومها قال نتنياهو بعجرفته المعهودة إنه «لن ينجح أحد في طردنا من هذا المكان، وسنبقى في الخليل إلى الأبد».
والبقاء إلى الأبد لا يعني البقاء وترك الأمور على حالها كما يظن البعض من التصريح، لكن الأمر يعني المزيد من إجراءات التهويد حيث قامت الحكومة الإسرائيلية بأعمال تجريف وحفر في ساحات المسجد الإبراهيمي، بهدف تركيب مصعد كهربائي وإنشاء ممر/ طريق سياحي هدفه الأساسي تثبيت نزع صلاحيات وزارة الأوقاف وبلدية الخليل في إدارة المكان.
فما قصة هذا المكان؟ وكيف وصل الحضور الاستيطاني في هذه المدينة إلى ما وصل إليه رغم كونها يفترض أن تكون واقعة في منطقة تحمل التصنيف «أ» أي للفلسطينيين السيطرة الإدارية والأمنية على المكان؟
للقادم لرؤية المسجد الإبراهيمي من زاويته الغربية عليه أن يصعد عددا كبيرا من الدرجات المحاطة بأشجار الزيتون الصغيرة وكثيفة الأوراق، الصعود عبر الدرجات العريضة يوفر اقترابا أخاذا لهذا المكان الديني، فمع كل درجة يصعدها الزائر تزداد هيبة المكان وكأنك تقترب من السماء ويصبح متفردا بالمساحة الكبيرة التي يقع عليها مع ما يحيطه من جدار عظيم مبني من حجارة ضخمة يصل طول بعضها سبعة أمتار.
وترجع أساسات المكان المهيب لعهد هيرودس الأول في فترة حكمه للمدينة ما بين القرنين (7 – 37 ق.م).
أما تاريخ المكان بصفته مسجدا إبراهيميا فيعود إلى الفتح الإسلامي لبلاد الشام بعد عام 634 م، وسمي بذلك نسبة إلى النبي إبراهيم «خليل الرحمن» وهو يعتبر أقدم بناء مقدس مستخدم حتى اليوم من دون انقطاع تقريبا، كما يعتبر رابع الأماكن المقدسة عند المسلمين بعد الحرمين المكي والمدني والمسجد الأقصى، والثاني في فلسطين.
ويقال إن المسجد بني فوق مغارة دفن فيها كل من: النبي إبراهيم وزوجته سارة، وولدهما إسحاق وولده يعقوب وزوجتيهما رفقة وليئة. وتذكر بعض الروايات أن الأنبياء آدم ونوح وسام ويوسف مدفونون هناك أيضا.
تسلسل زمني
وضع أساسات المكان هيرودس الأدومي في فترة حكمه للمدينة، ومن ثم حوله الرومان لكنيسة هدمت لاحقا على يد الفرس، وبعد ذلك تحول إلى مسجد في بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام. أما في عهد الدولة الأموية، فقد حظي المسجد بعناية الأمويين، فقاموا بأعمال البناء، فسقفوا المسجد، ووضعت قبابا لمدافن الأنبياء، وبنوا الشواهد فوق الأضرحة، وأخذت الأبنية تتسع حول المسجد.
وبحسب المعلومات التي توثقها صفحة «تراث فلسطين» فقد استمر اهتمام الخلفاء في المسجد الإبراهيمي، في العهد العباسي، حيث فتح باب في السور الشمالي الشرقي بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف، وتم تركيب باب حديدي له، وزين المسجد وفرش بالسجاجيد، وأدخل على عمارته إصلاحا كبيرا، وهو ما تكثف في زمن الدولة الفاطمية عام 972 ميلادية حيث تطورت العمارة، وتوسع نشاط المسجد حيث ألحق مبناه بالقباب.
وفي فترة الغزو الصليبي تعرض المكان للنهب والتحصين حيث بنيت قلعة حصينة بجانبه حملت اسم المسجد «القديس أبراهام» ثم تحول إلى كنيسة حملت نفس الاسم، إلى حين قيام القائد صلاح الدين الأيوبي بإعادة مدن فلسطين كلها إلى حاضنة المسلمين بعد معركة حطين عام 1187 حيث عاد إلى وضعه بصفته مسجدا، وهو ما تضاعف مع عهد الدولة العثمانية والانتداب البريطاني، والحكم الأردني.
المجزرة تاريخ فاصل
وقعت مدينة الخليل تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران/يونيو عام 1967 ومنذ تلك اللحظة أصبح المسجد هدفا للسياسات الاستيطانية من أجل تحويله إلى معبد يهودي. وعد منتصف رمضان 25 شباط/ فبراير 1994 يوما مهما في تاريخ المسجد بعد أن دخل الإرهابي الصهيوني باروخ غولدشتاين المسجد أثناء صلاة المسلمين صلاة الفجر، حاملا معه بندقية آلية وعددا من الذخائر المجهزة، وما لبث أن فتح النار على المصلين.
وكان من نتائج المجزرة أن استشهد 29 فلسطينيا، وأصيب أكثر من 150 آخرين بجروح. وبفعل الاحتجاجات على تلك الجريمة سقط 60 فلسطينيا وأغلق المسجد لستة أشهر بهدف التحقيق في المجزرة، حيث شكلت لجنة لتقصي الحقائق باسم «لجنة شمغار» والتي خرجت بتقريرها بعد 4 أشهر بإدانة عامة للمجزرة وبرأت الحكومة والجيش، والأخطر تقسيم الحرم الإبراهيمي بين المسلمين واليهود.
وحول الاحتلال الجزء الأكبر من المسجد إلى كنيس يهودي فأصبح أكثر من 60 في المئة من مساحته لليهود، والباقي للمسلمين، وقامت بفصل هذين الجزئين عن بعضهما بحواجز وبوابات حديدية محكمة ووضعت فيها ثكنات عسكرية للمراقبة.
وفي أعقاب توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال عام 1993 وقع عام 1997 اتفاق لاحق بشأن الخليل حيث قسّمها بروتوكول الخليل إلى منطقتين (H1) وتشكل نحو 80 في المئة من مساحة المدينة، وتتولى فيه السلطة الفلسطينية مسؤولياتها، و(H2) وتحتفظ فيها إسرائيل بجميع الصلاحيات والمسؤوليات المتعلقة بالأمن، وفيها المسجد الإبراهيمي والبلدة القديمة.
وهو ما منح السلطات الإسرائيلية إمكانية إقامة 22 حاجزا حول المسجد، منها 6 حواجز تعيق دخول المصلين إليه.
وتنتشر في قلب الخليل ومحيط المسجد الإبراهيمي (نحو كيلومتر مربع) ثماني بؤر استيطانية، منها ثلاث بؤر قيد الإنشاء، وخمس بؤر يقطنها حوالي 700 مستوطن، وفق معطيات تجمع شباب ضد الاستيطان المحلي.
ويقيم في البلدة القديمة، نحو 400 مستوطن بشكل دائم، بالإضافة إلى 300 يتعلمون في مدرسة دينية.
أما عدد الفلسطينيين فيبلغ حوالي 7 آلاف نسمة. وفي عام 2010 ضم المسجد الإبراهيمي ضمن قائمة التراث اليهودي، وأنها ستشمل موقع المسجد في الخطة الوطنية لحماية وإعادة تأهيل مواقع التراث، ما أثار احتجاجات من الأمم المتحدة والحكومات العربية. وصوتت «يونسكو» لاحقا بأغلبية أعضائها باعتبار المسجد الإبراهيمي جزاء أصيلا من التراث الفلسطيني الإنساني، وهو ما تمخض عام 2017 عن إدراج لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة «يونسكو» البلدة القديمة في الخليل على لائحة التراث العالمي.
وحسب المعطيات المتوفرة لعام 2020 فإن دولة لاحتلال الإسرائيلية منعت رفع الأذان من مسجد الحرم الإبراهيمي 599 مرة. فيما تقسيم المسجد حسب الرغبة الإسرائيلية جعل غرفة الأذان الخاصة بالمسجد في القسم المقتطع للمستوطنين، وبناء على ذلك يتطلب رفع الآذان فيها وصول المؤذن عبر حواجز وجنود إسرائيليين. وهو الأمر الذي يعزز من قدرتهم الكاملة على السيطرة على المكان.
ويبقى الجهد الفلسطيني في مواجهة التمدد الاستيطاني على المسجد والبلدة القديمة بحسب نشطاء تحدثت معهم «القدس العربي» غير كاف، فقد عملت السلطة الفلسطينية على إدراج البلدة القديمة على قائمة التراث العالمي، لكنها لم تقم بالعمل على تنفيذ ما يتطلبه هذا الوضع، حيث تقتصر الأنشطة على بعض النشاطات الشعبية والتوثيق للانتهاكات اليومية وترميم لبعض المحلات التجارية والمباني السكنية، ونقل بعض مكاتب الوزارات الفرعية إليها، من دون أن تكون هناك جهود تشجع على إعادة السكان للبلدة القديمة من خلال إعادة النشاط الاقتصادي إليها، فالمكان برمته يعاني من قرار رسمي فلسطيني، والاعتراف بسيطرة إسرائيلية على المكان
المشكلة الأكبر كانت في اعتراف السلطة بأن المنطقة ستكون تحت السيطرة الإسرائيلية ضمن اتفاق بروتكول الخليل، وهي كارثة تدفع المدينة ثمنها رغم مرور 24 سنة على ذلك وما يخافه الأهالي أن تقود تلك الخسائر إلى فقدان المسجد الإبراهيمي والبلدة القديمة أيضا.