تصورات مشتركة قوامها اللغة العربية والإسلام: فارق الهامش بين العرب والترك والفرس
سعيد يقطين
أثارتني مفاوضات أستانا (كازاخستان) التي شاركت فيها موسكو وطهران وأنقرة حول سوريا، وتساءلت عن غياب العرب في هذه المفاوضات رغم كون العرب معنيين، ربما أكثر من غيرهم من الأمم بما يجري في سوريا، ليس لأسباب تاريخية وجغرافية وحضارية وثقافية فقط، بل لأن ما يهم الروس والترك والفرس في سوريا، يعني العرب أكثر من غيرهم جيوسياسيا واقتصاديا. غاب العرب في هذه المفاوضات، وفي أهم المنعطفات التاريخية التي تهم مصيرهم ظلوا أبدا غائبين. العرب غائبون، ومتغيبون، ولذلك فهم مغيبون. فما هي أسباب هذا الغياب والتغيب والتغييب؟ لماذا صارت إيران وتركيا تحتلان الآن المركز، في مثل هذه المفاوضات، وقد عانيتا معا من التهميش على الصعيد العالمي؟ ولماذا لم يفلح العرب في أن يتحولوا إلى مركز، رغم «مركزية» وجودهم في العالم الحديث؟ وظلوا أبدا على الهامش، رغم الموقع الأساسي الذي يحتلونه على المستوى العالمي؟
شكل الفرس والترك في التاريخ، منذ انتشار الإسلام، جزءا من الثقافة العربية. ولعب كل منهما دورا هاما في التاريخ العربي الإسلامي. كان التفاعل والتمازج قويا بين الأجناس الثلاثة في لحظات كثيرة من التاريخ، ويبدو ذلك على مستويات عديدة نلحظ فيها مساهمتهم جميعا في تشكيل تصورات مشتركة قوامها اللغة العربية والإسلام. فاللغة العربية الكتابية ظلت اللغة السائدة، وكذلك الحرف العربي قبل أن تصبح اللغة التركية لاتينية الحرف، بينما ظلت الفارسية تكتب بحروف عربية إلى اليوم. كما أن الإسلام بمختلف مذاهبه ساهم فيه علماء من العرب والفرس والترك. صحيح نجد للفرس خصوصية في التاريخ العربي الإسلامي، وخاصة في العصر العباسي حيث تم التعويل عليهم لتأسيس الدولة، ومع التطور صار التشيع المذهب الذي ينتصرون له، وبه يتميزون عن باقي المسلمين. كما نجح الأتراك في القضاء على المماليك، وامتد نفوذهم مع الخلافة العثمانية ليصل إلى الحدود المغربية، وظلوا يفرضون سلطتهم حتى مجيء الاستعمار الذي قوض الخلافة، وقسم العرب إلى دول وشعوب متنافرة ومتناقضة.
حاول العرب والترك والفرس في العصر الحديث أن يتفاعلوا مع العصر الحديث، فكانت محاولات تأسيس الدولة الوطنية في تركيا مع أتاتورك، ومع مصدق وجمال عبد الناصر. ومع التطور حصلت الانقلابات في العديد من الأقطار العربية، وتشكلت جمهوريات تدعي الديمقراطية والوحدة والاشتراكية، في الوقت الذي نجحت فيه إيران في بناء «جمهورية إسلامية» أثارت السؤال عالميا حول مستقبل إيران، ومنذ مشروعها النووي صارت بؤرة للعين العالمية. ظلت العلمانية أساس الدولة التركية إلى أن جاء حزب العدالة والتنمية ليحول تركيا من دولة تستعطف الغرب للدخول في الاتحاد الأوروبي إلى دولة قوية اقتصاديا واجتماعيا، ورغم محاولات زعزعة استقرارها تثبت باستمرار أنها تتطلع إلى المستقبل بمعنويات مرتفعة وثقة في النفس.
لكن العرب، عندما نقارنهم بالفرس والترك نجدهم غائبين ومغيبين ومتغيبين. جاء الربيع العربي ليكون بداية تحول نحو الدولة الوطنية التي لا مكان فيها للطائفية ولا للعرقية. دول لكل الشعب الذي يحلم بالديمقراطية ويتطلع للعيش الكريم. وها هي الحروب ما تزال مستعرة بعد مرور أكثر من ست سنوات، وهم عاجزون عن وضع حد للحروب والاقتتال المجاني. وها سوريا العربية ـ الإسلامية يتفاوض لتحقيق الهدنة فيها روس وترك وفرس.
مهما كان موقفنا من إيران وتركيا، سياسيا ودينيا، نجد فيها انتخابات نزيهة، وتطلعا نحو المستقبل رغم الإكراهات والمراغمات التي نشترك فيها معها. نجد الصناعات الإيرانية، رغم الحصار الذي فرض عليها منذ سنوات كثيرة، في تطور، ونجد اقتصادياتها حاضرة في مختلف البلاد العربية. بل إننا نجدها تغزو العالم العربي سينمائيا. وها هي تخترق، دينيا، أقطارا عربية لم تكن تعرف شيئا عن الشيعة، ويصبح لها متشيعون في المغرب العربي. ويمكن قول الشيء نفسه عن تركيا، وعن اقتصادها. لقد باتت تركيا ومنتجاتها المختلفة تغزو الأسواق العربية، ومستثمروها في كل البلاد والبقاع، وكذلك مدارسها التعليمية الخاصة. كما أن مسلسلاتها صار العربي يتابعها لعدة شهور مدبلجة باللغة العربية الفصحى حينا، وبالدارجات العربية المحلية أحيانا أخرى. بل إن المحلات التجارية عندنا صارت تحمل عناوين المسلسلات، وحريم السلطان في مختلف البيئات. ووصل الأمر إلى حد تسمية أبنائنا الجدد بأسماء أبطال تلك المسلسلات.
لماذا وصل الفرس والترك إلى ما وصلوا إليه وبقينا نتعثر في المشي، ونحن لا نعرف أين نسير؟ والأدهى من ذلك والأنكى، أن الصورة التي صارت للعرب تختزل في «القاعدة»، في مرحلة، وفي «داعش» مرة أخرى. وصار العرب المسلمون الذين يفرخون الإرهاب. ورغم كون كل الدول العربية منخرطة في حربها ضد الإرهاب فتهمة الإرهاب بهم لاصقة، وعليهم عالقة. لقد صار المتخيل العالمي يمثل العرب بأنهم هم السنة، وسنتهم لا علاقة بعلمانية سنة الأكراد. وشيعة الفرس لا علاقة لهم بالإسلام الإرهابي. هذه هي الصورة التي يروجها الإعلام الغربي والأمريكي. ومشاركة العرب في حربهم ضد الإرهاب لن يعفيهم من ظلال تلك الصورة المكونة عنهم.
الفرس والترك لكل منهما دولته وحدوده، وهو يتصرف وفق ما تمليه عليه الدولة وحدودها ومطامح شعوبها. لكن العرب، رغم كل التاريخ الحديث لم يستوعبوا ضرورة التكتل للدفاع عن وجودهم ومصيرهم. ظل العرب عدة دول تتنافس فيما بينها وتتصارع على الحدود (المغرب والجزائر مثلا). بل إن منهم من يساهم في فرض المزيد من تقزيم الوطن العربي. وها هي الطوائف والأعراق لا تبغي غير المزيد من التقسيم، أو فرض هيمنتها على ما عداها. إذا كانت سنوات الخمسينيات تطالب بالوحدة العربية، ها هي الوحدة تحارب الآن ممن كان يدافع عنها وصارت الوحدة سبة «قومجية» ومتخلفة، وباتت الدعوة إلى العرقيات الضيقة، والطائفية المقيتة التي تلغي غيرها، نزعات ثورية وعلمانية وعقلانية.
كيف يمكن أن يكون للعرب موقع في المفاوضات وفي العصر، وهم على هذه الدرجة من التفكك والانقسام؟ أعدم الديكتاتور القومجي البعثي في العراق، فقلنا سيبني العراقيون دولة قوية تتجاوز تركات النظام البائد، وسيصبح العراق بكل مكوناته وأطيافه فضاء للتعايش الديمقراطي ويقدم نموذجا ديمقراطيا تتعايش فيه كل القوميات والطوائف على قدم المساواة. فلم نجد رغم مرور أكثر من عقد من الزمان غير ديكتاتوريين وفاسدين ومجرمين وقتلة. لم نجد سوى الثأر والتقتيل والتهجير والتدمير. وماذا نقول عن سوريا، واليمن… واللائحة طويلة طول البلاد العربية؟
العرب عدة دول، ولم يفلحوا في توحيد تصوراتهم للأخطار التي تحيط بهم. أنى للعرب أن يتوحدوا، وهم عاجزون عن توحيد شعوبهم داخل الحدود التي رسمها لهم الاستعمار؟ كيف يمكن لمن يحارب شعبه أن يجعله يتوحد مع غيره؟ لماذا وصل الاتحاد الأوروبي إلى ما وصل إليه لو لم تتوحد كل دولة مع نفسها أولا. أنى لجامعة الدول العربية أن تكون جامعة للعرب، وهم متفرقون داخليا؟
الفرق بين العرب والفرس والترك هو أن العرب، حكومات وشعوبا، غير قادرين على توحيد أنفسهم لمواجهة الفقر والبطالة والتخلف، وغير قادرين على أن يكونوا ديمقراطيين مع أنفسهم. حين نكون ديمقراطيين مع أنفسنا لا نفكر بالقبيلة والطائفة والحزب، لأننا نكون وطنيين، يهمنا الوطن الذي يكون فوق الجميع. في غياب ذلك، يمكن للفرس والترك والروس والأمريكان التدخل في قضايانا لأننا عاجزون على أن نكون أنفسنا.