جربنا «فحول العرب» فخيبوا ظننا
علي الصالح
كنت في القطار في طريقي إلى عملي في لندن التي تبعد عن مدينتي حوالي 90 كيلومترا، جلست على مقعد على مقربة من ثلاث سيدات متقدمات في السن نوعا ما. وصل إلى مسمعي اسم بيت لحم وقلما تسمع أسماء مدن فلسطينية تتردد في قطار في بريطانيا.
أثار اسم بيت لحم انتباهي، كما أثار فضولي، فاصغيت السمع جيدا. وراحت إحداهن التي فهمت أنها في رحلة إلى لندن مع صديقاتها للاحتفال بعيد ميلادها، تقرأ من هاتفها الجوال خبرا عن الفنان التشكيلي البريطاني بانكسي، ووجوده في بيت لحم ورسوماته في فندق شيده على مقربة من حصار الفصل العنصري.
وتطور الحديث بين السيدات الثلاث، فطرحت إحداهن وهي الأكبر سنا كما يبدو، تساؤلا، مفاده «كيف يمكن لشعب ذاق مرارة الاضطهاد والقتل والحرق على ايدي النازيين في المانيا، أن يمارس اضطهاده وقمعه ضد شعب آخر؟». وانقطع النقاش عندما حضرت 3 نساء اخريات ومعهن كعكة صغيرة واكواب من الشاي والقهوة، وقطعن الكعكة واكلنها، ونحن أو على الأقل أنا اتفرج.
نادرا ما تسمع أو تتوقع مثل هذ الحديث الذي يثلج الصدور في قطار يقطع شمال بريطانيا وحتى لندن جنوبا. ويعود ذلك إلى التقدم التكنولوجي الذي يزودك بالاخبار حيث تواجدت وفي لحظة الحدث نفسها.
وهذا ينقلنا إلى موضوع بانكسي الفنان البريطاني التشكيلي الذي يطلق عليه «الشبح»، لأنه ومذ بدأ نشاطه الفني في رسم الجداريات في محطات القطارات وتحت الجسور، منذ تسعينيات القرن الماضي، لم يكشف عن هويته الحقيقية، فبانكسي ظل على مدى ايام عديدة حديث الساعة وعنوانا رئيسيا في الصحف العالمية، بعد افتتاحه فندقا متاخما لجدار الفصل العنصري في مدينة بيت لحم باسم «وولد اوف هوتيل» اي الفندق المحاط بالجدار.
وباختصار فقد صمم هذا الفندق على نحو تطل فيه كل نافذة من نوافذ غرفه التسع على جدار الفصل، وخصص إحدى الغرف لتكون على شكل غرفة في قاعدة عسكرية. وتزينت قاعات الفندق وغرفه وممراته باعمال بانكسي الفنية التي تحمل في ثناياها رسائل سياسية. ويذكر بانكسي الزائر للفندق بوعد بلفور للحركة الصهيونية باغتصاب فلسطين، في ذكراه المئوية التي ستحتفل بها الحكومة البريطانية دون خجل أو حياء. ومن أين يأتي ذلك وليس هناك من يجرؤ من «فحول العرب» على مثل هذه الخطوة التي تتطلب بعض الشجاعة وهي معدومة عند «فحولنا»، المنغمسون في مشاكلهم، والكثير منهم يبحث عن أنجع الطرق للتصالح مع وليد ذاك الوعد.
نعود إلى بانكسي وأعماله، وفي بهو الفندق يستقبل الزائر تمثال سير جيمس بلفور وزير الخارجية البريطانية سيئ الذكر، وصاحب صاحب الوعد المشؤوم، جالسا على مكتبه الخاص وخلفه ساعة «بيغ بن» اللندنية. وبالضغط على زر موجود على المكتب تتحرك يده ويوقع رسالته الى اللورد اليهودي روتشيلد. وشارك في الافتتاح عبر شريط مسجل المغني البريطاني المثلي سير إلتون جون.. وهو موضع الخلاف مع بعض القراء.
لن أدخل في مزيد من التفاصيل فكثير هو ما كتب عنه وكثير تلك الفيديوهات التي تداولتها مواقع التوصل الاجتماعي. لكن لا بد من الاشارة إلى أن وجود بانكسي وأمثاله من الفنانين على صعيد الرسم أو الغناء أو التمثيل أو الاخراج، إلى جانب القضية الفلسطينية يعزز من حركة المقاطعة «BDS» ويزيد من عزلة دولة الاحتلال، ويضعها على طريق جنوب افريقيا العنصرية. فبمثل هذا التأييد الدولي وبمثل هذه الرموز الفنية وغيرها، تتسع رقعة المقاطعة وهذا غاية المراد. فهذه الاسماء تحظى بشعبية قياسية، وكلمة منها في قضية ما يكون لها وقع الزلزال.
الحرب لا تخاض بالسلاح العسكري فقط، وهو عند العرب لا يستخدم الا ضد بعضهم بعضا. كما لا تخاض على جبهة واحدة، فكل الجبهات يجب أن تكون مفتوحة وهي مشروعة. لهذا يجب ألا نقلل من شأن فلان أو علان بسبب ميوله الجنسية أو الفكرية أو الدينية أو الطائفية أو العرقية، فهذه أمور شخصية بحتة ولا تغير من الواقع شيئا، ولا تقلل من تأثير تلك الشخصية العامة، خاصة في الجبهات المعنية. وأذكر هنا على وجه الخصوص سير إلتون جون المغني البريطاني الذي افتتح حفل الفندق بأغنية وكلمات تأييد ودعم للشعب الفلسطيني، قال فيها مخاطبا جمهور الحضور «كنت أتمنى لو أنني بينكم في هذه الليلة». وأضاف إنه «لمن دواعي سروري العظيم أن اغني في فلسطين هذا المساء.. والرجاء أن تعلموا انكم لستم وحدكم في هذا العالم.. وانكم لستم منسيين».
وثارت ثائرة بعض القراء وليس جميعهم، وسأسمح لنفسي بالاختلاف معهم.. فقال أحدهم «ماذا ينفع الفلسطينيين رجل شاذ متزوج من آخر شاذ مثله». وقال آخر «والله إذ شاذ بيساعد في تحرير فلسطين فالافضل تكون فلسطين محتلة. إذا يبغي يساعد الفلسطينيين ليش ما يعلن أن وعد بلفور كان اقذر لعبة لعبتها بلاده من بين الألعاب القذرة اللي تعودنا عليها من الانكليز».
في المقابل هناك من رد عليهم القول «على الأقل تصريحه أحسن من الآلاف من اشباه الرجال العرب، الذين يملكون المليارات والنفط ويتآمرون على فلسطين». وأضاف اخر مصيبا «شخصيا لا أرى فائدة من معرفة ميوله الجنسية. الأمر شخصي يهمه هو فحسب. فإن استطاع فعل خير، فمرحبا، مع العلم أن جمهوره الدولي واسع وواسع جدا». ودافع ثالث بالقول «نشكر كل من ساهم ويساهم في تأييده للفلسطينيين، أيا كان موقعه. شخصية مشهورة ولها وزن إعلامي أن تقف هذا الموقف نحن ممتنون لها ولا ننسى أن الحياة الشخصية ملك خاص الإنسان.
إذا كنا سنرفض دعم إلتون جون بسبب ميوله الجنسية، فهل نرفض دعم المخرج اليهودي البريطاني كين لوتخ الذي يقود دعوات مقاطعة اسرائيل بسبب دينه اليهودي، أو نتجاهل دعم الفنان المغني بينك فلويد الذي يتبنى حركة مقاطعة اسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها «BDS» لأنه مسيحي، أو لا نقبل تأييد الفنان ريتشارد غير لأنه اعتنق البوذية، أو نرفض وقوف دوف حنين النائب في القائمة العربية المشتركة لأنه شيوعي، أو نقول لستيفين هوكينغ أشهر عالم فيزيائي بريطاني، شاكرين أفضالك فنحن لسنا بحاجة لدعم شخص من أمثالك من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو نطلب من كورنل ويست الفيلسوف الامريكي وأحد كبار أنصار حركة المقاطعة، أن يتوقف عن دعمنا لأنه أسود البشرة.
بمثل هذه العقليات نصنع الاعداء، وننفر المؤيدين ونحن بأمس الحاجة اليهم، بمثل هذه العقليات سنجد أنفسنا، كما يقول المثل «مصٓلْعين» لا صديق ولا رفيق ولا حليف. لكن بمثل تلك الشخصيات وامثالها نخيف اسرائيل ونقض مضاجعها ونجعلها تتخذ قرارات وتسن قوانين وتقدم على تصرفات تفضح زيفها وتزيد عزلتها ولف الحبل حول عنقها. فافعال الانصار من هؤلاء، دفعت اسرائيل دفعا نحو سن قانون غبي سيزيد حسب وسائل إعلامها من عزلتها. إنه قانون منع أنصار حركة المقاطعة والداعين إليها، من دخول أراضيها. وكما قال كورنويل وست معلقا إنه قانون سيزيد من انتصارات «BDS». وقال الممثل ريتشارد غير، يبدو أن اسرائيل ضلت الطريق وتسير نحو الابرتهايد.
وهناك أيضا اكثر من مئة عالم في الدراسات اليهودية يعارضون بشدة القانون ويهددون بوقف الزيارات لاسرائيل احتجاجا عليه. كما أن اليهود الليبراليين الامريكيين يحذرون في عريضة من أن يدفع هذا القانون الناس نحو «BDS».
وأخيرا أن أي صوت داعم للقضية الفلسطينية مكسب نحرص عليه ونتمسك به بقوة، بعد أن خيب ظننا «فحول العرب» في كل المحافل، والنتيجة وعلى مدار قرن تقريبا، كما ترون، ولا حاجة للتوضيح.. فهمكم كاف.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»