ماذا وراء الأزمة التركية الهولندية؟
تعددت الآراء والقراءات للمشهد المتأزم الآخذ بالتصاعد بين تركيا وهولندا على خلفية منع وزراء أتراك من التواصل مع الجالية التركية في هولندا وما تبعه من ردود فعل تركية غاضبة وصلت إلى حد وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لسلوك الحكومة الهولندية بالنازي.
فبين من يرى أن كل الأزمة المحتدمة ما هي إلا تعبير عن سعي من الطرفين لجني مكاسب وثمار سريعة لحراكات انتخابية مرتقبة، يسعى كل طرف فيها إلى تجيير الأزمة لصالح مصالحه، وبين من يرى فيها تجليا للصراع بين الغرب المسيحي والشرق المسلم الذي استعادت قيادته تركيا، ورأي آخر يستعيد التاريخ العثماني وخشية أوروبا من عودة ذلك العهد قويا بقيادة "السلطان أردوغان" كما يحلو للغرب تسميته، أو الخشية من عودة مياه العلاقات التركية الروسية إلى مجاريها وخشية أوروبا من انعكاسات ذلك.
تركيا رأس العالم الإسلامي
المفكر محمّد مختار الشنقيطي يرى أن المشهد واضح ولا لبس فيه فقدرُ تركيا أن تكون رأسا في العالم الإسلامي، لا ذنبا في العالم المسيحي.
وأكد الشنقيطي في تغريدة له على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" أن كل شيء يعود إلى أصله: "عادت تركيا قائدة للعالم الإسلامي، وعادت أوربا عدوة لتركيا وللمسلمين، وعادت إيران متواطئة مع أوربا ضد الأمة الإسلامية"، على حد تعبيره.
وتساءل المفكر العربي: هل تركيا هي الرضيع الذي تربى في قصر الفرعون الغربي، فأعده الله لمهمة خاصة تقضي على جبروت الفرعون وتكبره على عباد الله؟
استعادة التاريخ العثماني
الكاتب حلمي الأسمر ينظر للمشهد من زاوية أخرى يؤكد فيها أن ما يفشل به العالم المناهض لأردوغان في الانقلاب العسكري على تركيا، يحاول أن ينجح به بطرق أخرى، تحت عنوان سخيف لا ينطلي إلا على الأغبياء: المحافظة على الديمقراطية، التي لم يكن يعترف بها الاتحاد الأوروبي بأنها موجودة أصلا، على حد وصفه.
ويؤكد الأسمر في مقالة له بصحيفة "الدستور" أن القصة ليست «رمانة» بل هي قلوب مليانة، ولمن لا يصدق هذا الكلام، بوسعه أن يرصد آلاف الحوادث المرئية واللامرئية، التي تحاول أن تشيطن أردوغان وتركيا وديمقراطيتها، والسبب أكبر من ذلك النفس الإسلامي الذي بالكاد تجده في الخطاب السياسي الإسلامي، بل هو أعمق وأخطر وابعد بكثير، فتركيا هي وريثة الامبراطورية العثمانية التي كانت شمسها لا تغيب لا عن أوروبا ولا عن أجزاء كبيرة من العالم القديم.
وشدد الكاتب على ضرورة استعادة التاريخ لفهم الحاضر، قائلا: "كي تفهم الحاضر لا بد من عودة بين حين وآخر إلى التاريخ، حينما منعت هولندا طائرة وزير خارجية تركيا من الهبوط في أراضيها، ورد اردوغان بالمثل وهو ما لم يعهده الرجل الأبيض من حاكم مسلم، قيل أن اردوغان تسرع برد فعله".
ويستدرك بالقول: "ولكن ثمة واقعة تاريخية لا بد من استذكارها هنا، كي نفهم سر هجمة أوروبا، وليس هولندا على اردوغان، الذي يعتبر سليمان القانوني مثله الأعلى، هذا الخليفة العثماني العملاق كان له قصة لم ندرسها في كتب التاريخ مع حكام هولندا، إذ حين هدد الإسبان بالعدوان على هولندا، بعثوا يستنجدون بجيش السلطان سليمان، فرد عليهم أن ظرف الدولة لا يسمح بإرسال جنود عثمانيين لحماية هولندا من الإسبان، وبدلا من هذا، اقترح أن يرسل بضع عشرات من بزات الجنود العثمانيين، كي يرتديها جنود هولندا، وبهذا يخشى الإسبان من الاعتداء على هولندا، وهذا ما تم، ونجت هولندا من الاعتداء الإسباني نحو ثلاثين عاما، أو أقل لا اذكر، والإسبان يخشون أن يعتدوا على هولندا، لظنهم أن من يحميها جنود آل عثمان، لا بزاتهم العسكرية!".
وختم الأسمر حديثه بالقول: "أعتقد أن أردوغان وهو يبدي رغبته في عدم رؤية سفير هولندا في اسطنبول، لم يكن ينسى تلك الواقعة، وكذا هو الأمر بالنسبة لهولندا وأوروبا كلها التي كانت ترتعد من جنود الإمبراطورية، وخير لهم أن يستبقوا الأمر، فيبذلوا كل ما في وسعهم لإبقاء تركيا في حالة ضعف وتحت شعور من عدم الأمان، كي لا يكتمل مشروع هذا البلد في أن يعود لاحتلال المكان اللائق به في خارطة الدول العظمى!".
أردوغان والغرب "النازي"
أما الكاتب فهد الخيطان فله وجهة نظر أخرى ترى أن الرئيس التركي أردوغان أخطأ في استعداء العالم الخارجي عبر إطلاق أوصاف النازية على ألمانيا وهولندا.
وقال الخيطان في مقالة له بصحيفة الغد إنه في المعارك السياسية والانتخابية، عادة ما يستخدم الساسة كل ما لديهم من أسلحة للفوز. لكن أردوغان تجاوز معركته الداخلية لعداء قاتل مع العالم الخارجي، بلغ حد إهانة ملايين البشر. ألا يعرف أردوغان أن وصف الألمان بالنازيين إهانة أخلاقية لا يحتملها الضمير الإنساني؟!
وأكد الخيطان على أن الأسوأ من ذلك كله أن أردوغان وفي معركته "المضمونة" لكسب التأييد للتعديلات الدستورية، استعاد خطاب الكراهية مع الغرب، وحقبة الاستعمار التي طوتها هولندا وألمانيا وسواهما من الدول الأوروبية.
الخوف من التقارب الروسي التركي
من جهته يرى الكاتب صالح القلاب أن العذر الذي يسوقه الألمان والهولنديون، لمنع الاستفتاء الذي يريده الرئيس التركي بالنسبة للجالية التركية، التي يقال أن عدد منتسبيها قد تجاوز الخمسة ملايين، هو أن ما يطلبه أردوغان ويسعى إليه سيحوله إلى «ديكتاتور» حجة غير مقنعة على الإطلاق طالما أن المواطن الأوروبي حرٌّ وباستطاعته أن يصوت كما يشاء وأن يعبر عن ميوله بكل حرية وكما يريد!!.
وشدد القلاب في مقالة له بصحيفة الرأي على أنَّ وراء كل هذا التردي في العلاقات بين تركيا وبين هاتين الدولتين الأوروبيتين هو كل هذا التقارب المتسارع بين الأتراك والروس الذي لا شك أن الأوروبيين يخشون من انعكاسه على دول أوروبا الشرقية التي يبدو أنها لم تصدق حتى الآن أن حلف وارسو قد انهار وأن الإتحاد السوفياتي لم يعد له وجود وأن كل ما تعيشه الآن هو مجرد حلم وردي في ليلة مقمرة !!.
الأطراف المستفيدة من الأزمة
وفي هذا السياق ترى مجلة "دير شبيغل" الألمانية أن الأزمة التي اندلعت بين تركيا وهولندا، ما هي إلا معركة انتخابية حيث يمكن لكل طرف الاستفادة من الخطاب التصعيدي فيها لحصد الدعم الشعبي في معاركه الانتخابية القادمة.
وتؤكد المجلة على أن هولندا ستشهد يوم الأربعاء انتخابات برلمانية، وسط أجواء مشحونة ضد المهاجرين والمسلمين، فيما تستعد تركيا لإقامة استفتاء حول التعديلات الدستورية وسط علاقة متوترة مع أوروبا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة.
وشددت المجلة على أن كلا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته، والمرشح في الانتخابات البرلمانية الهولندية خيرت فيلدرز، قد يكونون من أكبر المستفيدين من الأزمة التي اندلعت مؤخرا بين البلدين، حيث يستعد كل منهم لخوض معارك انتخابية.
وختمت المجلة بالقول: "ما الذي تغير في هولندا التي لطالما كانت أرضا للتسامح والتقاء الحضارات المختلفة، ما جعلها دولة قوية". وأكدت على أنه يبقى السؤال المطروح هو كيف يمكن لبعض السياسيين المتطرفين على غرار فيلدرز وضع كل هذه التقاليد الديمقراطية على المحك عبر تبني برنامج شعبوي متطرف؟