امرأةٌ في الغربة
لو كانت الغربة لحناً، لكانت أكثر الألحان شجناً، وألماً، حباً وأملاً، ولابتدأ منذ عصر أول المنفيين عن بلاده، وما انتهى إلا بانتهاء الزمن، ولاستطال صفُّ عازفيه حتى غطى الأفق، ولارتعشت معه قلوب وذرفت عيون لا حصر لها ولا عد، لكنها مقطوعة يعزفها القلب وحده.. وما أشبه الغربة في القلب بتكوين موسيقي، يدندنها على أوتاره متماهياً مع هذا العالم أو منقطعاً عنه، في كل قطعة منها لوحة من شعوره، وهزة من ارتجافه، وضجة من نبضه، وغصة من مرارته! وما أرهف هذا القلب لو كان لامرأة! تستشعر الجمال كميزان حسّاس، وتجذبها المشاعر كفراشةِ ضوء، يلمسها الحزن كصعقة كهرباء، وتستفزّها الدموع كمنديلٍ حريريّ.
ليست الغربة بالنسبة لي -كامرأة- أحدَ أوجاع هذه الحياة، بقدر ما هي فكرة معقدة التركيب، متعددة المراحل، لها في كل جزء درسٌ أو دروس، تجعل منها المعلمةَ الأكثر خبرة في هذه الدنيا، معلمةً رؤوماً أحياناً، قاسيةً أحياناً أخرى، حكيمةً مرّة، وعقيمةً مرّات! حينما كنتُ صغيرة، تفتّحت على أرضٍ غريبة، لا يتكلم فيها الناس كوالدَيّ، ولا يرتدون كجدتي، ولا ينظرون إلينا كما ينظرون لبعضهم، فتفتّح برعم الغربة معي قريناً ينمو ويكبر، ويتطور، منذ التصق بنا مصطلح "المغتربين" في أول يوم على مقاعد الدراسة، وجمعنا شتاتنا في المدرسة في "شلة" واحدة تتخذ ظل زيتونة في ساحة المدرسة مقراً لها، نلملم ضعفنا ليقوّينا، ونلملم حبات الزيتون ندقها ونأكلها مباشرة لتمدنا بشيء من رائحة الأرض، وطعم الوطن!
منذ أن بدأنا نحاول تكوين الصورة المبعثرة في عقولنا، من أحاديث الأهل، وقصاصات الرسائل، وحكايات الجدة، وصور العائلة، ورائحة الزعتر في هدايا الأقارب المرسَلة مع القادمين، كما نحاول تكوين أجزاء لعبة "puzzle" معقدة التركيب، تُحمّسُنا أحياناً وتُحبِطُنا أخرى، تُفرِحنا مرة، وتُتعِبنا مرات.. وحين اكتملت الصورة، كانت في أبهى حلة، وأروع تكوين، انتشينا بها حتى صارت حديثنا للجميع من حولنا، وحفظنا تفاصيلها وكررناها حكايات حب، حتى اشتقنا لأناس وأماكن وأشياء لم نعرفها قط.. تمكّن منا الوطن كما تمكنت الغربة، كانت تمدُّه بالقوة والكمال والبهاء، وتمدنا بالأمل والتباهي والانتظار..
"حين نرجع للوطن سنجد فيه أجمل من كل ما رأينا، سننعم ونأمن، ونحلم" بهذه الكلمات كبرت أكثر، وطار قلبي فرحاً لكنه لم يكن تأهّب لحقيقة صادمة: أن يرجع للوطن فيرى فيه من الغربة أكثر مما رأى خارجه! صار الوطن طيراً مذبوحاً، أعطونا منه ذيلاً، وحِفنة من ريش، وأوهمونا أننا سنحلق لا محالة حين يُبْعث الطير فيطير! وقلت لأمي: لو أنهم أعطونا الجناح، لتمكنا من إيقاظه من موته، لِمَ لمْ يعطونا الجناح يا أمي؟! صمتت أمي، وتكلّمت دموعُها، لم أفهم منها الكثير لكن الأيام المتتابعة والدموع المتتالية كانت كفيلة بالشرح..
فزعت إلى مساحات الغربة في القلب، أحتمي بها من وطن غريب، فقد بنيت فيها هناك وطناً جميلاً، لم تضِع فيه دماءُ الشهداء هدراً، ولا مات المهجَّرون في منافيهم، ولا ابتلع القدسَ جدار، صرنا غرباء في الوطن، وظلت الغربة لنا وطناً! نضجت، وبدأت أفهم أن الحياة لغز، ونضجت الغربة فيَّ، فأصبحت أعمق، كانت غربة الطفولة حلُماً، وغربةُ الصبا وطناً، أما غربةُ النضج فهي الحمل الثقيل!
عندما تغترب فاهماً واعياً تشعر أن الوطن بداخلك غريب أينما حملته، لا وجود له إلا في قلبك، ولا تراه سوى في عيون أبنائه المتجمعين ليكونوا وطناً لبعضهم البعض، وفي عقول الثوار المنفيين، وفي ترانيم المتجمهرين في المناسبات الوطنية، وفي شعارات السّاسة قُبيل الانتخابات، وفي شفقة الإنسانيين من سكان هذا العالم.. صار الوطن أصعب، لكنه صار أجمل، صار أثقل لكنْ أغلى، صار أبعد لكنْ أطهر..
في الغربة يتمدد الوطن فينا فيستولي على كل مساحات الروح، ويتجلى كأنه قاب قوسين أو أدنى، ونحمله على أكتافنا كوفيةَ فخر، وعلى رؤوسنا عَلَمَ عزة، في الغربة ينتفي الإحساس بقسوة الوطن، ويختفي الشعور بظلم الأرض، ويتبدد الاعتقاد بِجُور البلاد، فتظل عزيزةً، ويظل أهلُها كراماً.. يستولي علينا هذا الإحساس الجميل، فتأخذنا نشوة المناضل، ونُدمن غربتَنا الجميلة، التي تدفعنا لحب وطن خلقَتْه فينا، وزرعَتْنا فيه، وحمَّلتنا إياه أمانةً لا تسقط، وحقاً لا يُلغى، وذاكرةً لا تُمحى، وحقيقةً تأبى الإخفاء..
تكتمِلُ الغربة اليوم في حياة ملايين النساء-ممن لا يشكّل لهن الاحتفال بيوم المرأة كبيرَ قيمة- تكتمل وجعاً، وقلقاً، وخبرة، وعذاباً، فامرأةٌ فقدتِ الوطن فقدت إحدى قوائم روحها، خاصةً لو كانت تعيش غربة أخرى داخل نفسها، حين لا يكون لها أحد ممن حولها وطناً، لكنها أيضاً فقدت بها كثيراً من خوفها، وضعفها، ومحدوديّتها، وتصالحت مع مربّيتها القاسية، لتشاركها مهنتَها في تعليمِ الأجيال والعالم أن كلَ أيام الدنيا احتفاءً بها لا تنفعها، فإن كل ما تريدُه هو يوم واحد في حضنِ وطن جميل كالذي علمتْهُ إياها غربتُها.