[size=32] [/size]أوراق الثلـج
· قصة: نايف النوايسة
لا تلتفتْ خلفَكَ.. هيا.. اركضْ.. اركضا.. اركضا.
أضواءُ السيارة تختفي تدريجيا.. والطريق تبتلعها سُدُف الظلمة، وكيفما تلفّتما لا بد من الركض إلى الأمام.. ليس من خيار.. أنتما وحدكما هنا.. لا سماء ولا نجوم، والأرض تقول شيئا ما.. اركضا..
الريحُ تحفكما، والنجوم التي تزيح نقاب الغيم بين حين وآخر تطلّ عليكما.. تغمز وتُؤشر وربما تصرخ، ولكن.. أنتما غارقان في بحر لجّيٍّ من الهواجس، والأفق الغربي يتدانى ويتباعد منكما حسب هجمات الريح المتوحشة..
وأنا بيّضتُ بياضي، وضيعتُ أسماء الأشياء بين يديّ.. والأرضُ والسماء التقتا على أمر قد قُدِر.. هيا أركضا..
++++
يلتفتُ عبد الحميد صوب دايج: أين أنت؟ فيندسّ في أذنه صوت متكسر: أنا تائه في هذا الليل الأبيض، وأنت؟ عبد الحميد يلهث: أنا غارق في ثوب الليل البارد، هاتِ يدك يا دايج.. يحاول دايج، ويحاول عبد الحميد.. تلتحم يداهما.. وكتلتان من اللحم باردتان.. قدمان باردتان.. عينان حائمتان حائرتان..أنفان وأكفّان..
الريح وحش أسطوري توحشتْ حين انفلتتْ من مخابيها الغربية.. والثلج ضبع هذا الليل الثقيل اندفع ببياضها المرعب، وأحاط بالكائنات من كل الجهات.. ويذرذر بألوانه البيضاء الباردة على وجهيهما فيركضان.. كل حبة ثلج تجأر: اركضا، اركضا خلفي، فيركضان.. الأفق الغربي يتباعد أمامهما ثم يختفي.. تختفي كل الأشياء إلا الثلج.. إلاّ الثلج ربا وامتدّ كالزمان.. وينادي: هيا اركضا..
++++
اركضا.. هيا يا سماءُ مدّي بساطي إلى أبعد مدى.. فهذان ضيفان عندي الليلة.. شقّا صمت الليل وطلْق الطبيعة، وأباحا لنفسيهما بياضي.. هيّا يا شهود الليل قيدوا على أوراقي اسميهما.. سيرحلان معي ولن يريا الأفق الغربي.. من تيه الشقاء جاءا.. وقذفتهما سفن الموت إلى شواطئي ومضت.. ركبا أمواج الرجاء، فتصعّدوا، ولكن جسمي الأبيض ملأ الآفاق وسدّ الفِجاج، ولا طريق إلاّ من بين أصابعي.
هيا يا ريح التفّي على قدميهما واربطيهما بأمراس البرد حتى تتكسر أمواج الرجاء أمامهما.. فأضمهما بعد ذلك إلى صدري وأُخبئهما في حضني إلى الأبد.
++++
اقتربنا يا عبد الحميد؟
مِن؟
القرية!
أية قرية؟ آه القرية.. إني لا أراها يا دايج.
أين نحن إذن؟
كانت الطريق خلفنا..
وماذا أمامنا يا عبد الحميد؟
الثلج، فقط الثلج ..
يا عبد الحميد، الثلج يملؤنا..
الثلج يغلبنا يا دايج.. أنا تعبت
لا خيار لنا، هنا، إلاّ المشي..
لا خيار لي إلاّ الجلوس..
إذا جلسنا متنا يا عبد الحميد..
"ويرتمي عبد الحميد ويسترخي "
"ويرتمي بجواره دايج "
أنت تحتضر يا عبد الحميد.. أنت تموووووووت
لا، لا يا دايج، لا تت ر ك نـــي أموووووو....
عبد الحميد يا عبد الحميد لا تمت يا عبد الحميد.. عبد الحميييييييد
++++
دايج يُعفّر وجهه بالثلج ويبكي ثلجا ويبصق ثلجاً.. يرفع يديه بوجه الريح والصمت، وينادي، ويُنادي، وينادي.. ويلطم وجهه بحجارة اختلطت بالثلج..
السماء محايدة..الأرض مختبئة تحت الثلج..
الريح تحوم غير آبهة..
الثلج ضبع لا ترحم..
ينفجر دايج باكياً، لكن لا دموع..
++++
قَبّلْـهُ يا دايج على جبينه..
قَبّلْـهُ ثم ادفنه جيداً وصلِ عليه، واقرأ عليه ما شئتَ من القرآن..
الثلج يقهقه ببرودة: أنا الكفن والقبر.. أنا السيد هنا.. أنا الليل الضّاج بالوحشة، أنا الوحشة الضالعة بالصمت، أنا الصمت الصارخ بالموت.. أنا الموت الأبيض يا دايج، افعلْ ما شئت فأنا بالمرصاد..
++++
هيا يا دايج.. اركضْ... لا يفيدُك الانتظار والبكاء.. انظر إلى الأفق الغربي والحقْه.. تعلّقْ به.. ارتمِ عليه.. تمددْ بين يديه.. ويقعُ دايج.. عيناه شاخصتان.. يداه ممتدتان إلى الأفق الغربي..
نجمتان لامعتان تطلاّن فجأة من بين الغيم.. من بنات نعش هما، فيسمع دايج المعيد.. ينخلع قلبه من مكانه.. دموعه تحفرُ في وجهه حكايةً جديدة على ورق الثلج.. يشم رائحة دخان.. يسمع نباح كلب، فيصيخ السمعَ أكثر، ولعل وعسى على لسانه وردتان تموتان بسرعة، الأضواء تنصبّ في عينيه، لكن ضبع الثلج تسوطه بذنبها البارد.. يُطبق الظلام على عينيه.. ويصرخ: يا عبد الحميد أنا قريبٌ منك لن أتركَك.. انتظرني.. هذه يدي ممدودة فامددْ يدك..
++++
سطران على ورق الثلج يعلنهما النهار.. نهارات تمر.. يختفي الثلج من أرصفة العيون.. الشمس تسحبُ الأعشاب على حذر من شقوق الأرض، وتلتف حول الجسمين الممددين.. تتفرج على العيون الذابلة والفمين الملتويين، والأيدي المزرقّة.. تركض السحالي والفراشات فوق خصلات الشعر المتطايرة.. الذباب الأزرق بيرقٌ للموت يحوم فوق بقايا زبدٍ ناشف حول الشفاه..
كلابٌ تأتي ثم تنبح وتهرب.. ذئابٌ حامت ولم تجرأ على الاقتراب..
موتٌ مهيب..
الأرض حضن دافئ.. أمٌ رءوم.. والسماء لحافٌ ضافٍ يجللهما بالندى والضباب وبكاء النجوم..
لم تطلْ هذه الرحلة الصامتة ما بين سفن الرجاء التي تلقفها الثلج، وشواطئ الأحباب التي قذفها الأفق الغربي ذات شمس.. وتُولد من اللهفة والألم على هذه الشواطئ سيول من قلوب حزينة.. جابت السهول والمخابئ..
++++ يعودان إلى أمهما الأرض وعلى فم كل واحد منهما نداء صامت دفن معهما..
الشاهدان على قبريهما خط فاصل بين عالمين، ونحن لا نملك إلاّ الدموع.