لماذا تختلف اللهجات العربية؟
اللهجات العربية؛ تلك التي لا تخفى عن كل شعوب المنطقة العربية كيف تَكُون؟ فلكل منطقة طريقة ولهجة خاصة في الحديث، تختلف داخل البلد العربي الواحد؛ ومنها لبلدانٍ أخرى. كمثال بسيط وبدائي قبل الخوض في تفاصيل هذا الاختلاف.
في مصر مثلاً، تختلف اللهجة المصرية الصريحة في منطقة الدلتا، عن تلك التي في سيناء والعريش، عنها في محافظة الإسكندرية ومرسى مطروح، اختلافاً تاماً عن الصعيد.
وتختلف لهجة اللغة العربية الصريحة في دول سوريا، لبنان، عنها في العراق، عن تلك التي في اليمن، و الخليج العربي، اختلافاً تاماً في المغرب العربي؛ إذن ما السّر في ذلك؟ لماذا لم تنشأ لهجة عربية موحّدة وصريحة شاملة لكل تلك المنطقة “العربية”؟ الإجابة في الآتي..
البداية
تعريف اللهجة في الاصطلاح؛ هي مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة؛ ضمن بيئة أوسع وأشمل تضم عدّة لهجات، لكل منها خصائصها، لكن يَشْتَرِك في الصفات اللغوية لكل بيئة؛ جميعُ أفرادها.
فالصفات التي تتميز بها اللهجة؛ تنحصر في طبيعة الأصوات، وكيفية صدورها، و الذي يفرّق بين لهجة وأخرى؛ هو بعض الاختلاف الصوتي في أغلب الأحيان. كما أنها تتميز بالقليل من الصفات التي ترجع إلى بنية الكلمة نفسها ونسجها، أو معاني الكلمات.
وأيضاً، تَشْتَرك جميع اللهجات في مجموعة من الصفات اللغوية، والعادات الكلامية التي تؤلف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات.
أما البيئة الشاملة تلك التي تتألف من عدّة لهجات، هي البيئة التي اصطلح أو أُجْمَع على تسميتها بـ”اللغة”؛ فالعلاقة بين اللغة واللهجة، هي العلاقة بين العام والخاص. فاللغة تشمل في العادة عدة لهجات، لكل منها ما يميزها.
كيف تتكون اللهجات، وكيف تختلف؟
بشكلٍ عام، تتكون اللهجات وتختلف بسبب عاملين رئيسيين أولهما؛ هو الانعزال بين بيئات المجتمع الواحد.
فالانعزال يكون بسبب التضاريس الجغرافية من جبال، وأنهار، وصحارٍ، وانعزال آخر بسبب اختلاف الظروف الاجتماعية داخل مُجتمع لغة واحدة. هذا الانعزال مهما كان نوعه؛ هو العامل الذي يفصل أبناء الشعب الواحد، ويُقلل الاحتكاك فيما بينهم.
بالتالي؛ نتيجة لذلك تتكون مَجاميع_جمع مجموعة_ صغيرة من البيئات اللغوية المنعزلة؛ والمختلفة، التي في العادة تتطور تطوراً مستقلاً بعد قرن أو اثنين، و يُباعد الانعزال بين صفات تلك البيئات اللغوية، و يُشعِّبها إلى لهجات متميزة.
العامل الآخر؛ هو الصراع اللغوي نتيجة غزو أو هِجرات إلى بيئات معمورة.
قد يغزو شعب ما من الشعوب أرضاً يتكلم أهلُها لغة خاصة بهم، فيقوم صراع عنيف بين اللغة الأم؛ واللغة الغازية. بالتالي؛ تكون النتيجة الحتمية إما القضاء على إحدى اللغتين قضاءً قد يكون تاماً، أو إيجاد وإنشاء لغة جديدة مُشتقة تجمع بين اللغتين “الغازية والمغزوة”.
مثال الصراع اللغوي؛ حين غَزا العرب جهات كثيرة متعددة اللغات في المنطقة؛ استطاعت اللغة العربية الانتصار على اللغة الأم وحلّت محلها. فقضت اللغة العربية على الآرامية في العراق والشام، وعلى القبطية في مصر، وعلى البربرية في بلاد المغرب، وعلى الفارسية في بعض بقاع مملكة فارس القديمة.
اللهجة القديمة؛ وعناصر اللهجات العربية وقبائلها
رَوَى الأُدباء ومختصّو اللغة العربية القُدماء، أن اللهجات العربية لها صفات خاصة؛ نُسب بعضاً منها إلى قبائل معينة، والبعض الآخر اكتفى بالإشارة إلى أن تلك الصفات كانت مما تقوله العرب في بيئتهم القَبَلية.
هنا؛ نظرة سريعة إلى عناصر أو صفات اللهجات العربية القديمة.
قبل البدء في الحديث عن الصفات، لابد من الإشارة لأشهر القبائل التي اختلفت فيها صفات اللهجات العربية، و هم ثلاث قبائل؛ تميم، وهذيل، وطيء.
فقبيلة تميم أو بنو تميم؛ قبيلة من قبائل خندف أو العرب الإلياسية؛ وهم مجموعة من القبائل العربية تُعرف باسم مضر الحمراء. بنو تميم قبائل عربية تسكن في موطنها الأصلي، في الدهناء وشمال إقليم نجد واليمامة في السعودية، كما تتواجد في العراق والكويت وقطر والبحرين.
قبيلة هذيل؛ إحدى قبائل خندف العرب أيضاً، تسكن في الحجاز غرب شبه الجزيرة العربية.
قبيلة طيء؛ سكنت شمال شبه الجزيرة العربية، وتنتشر كذلك في الجزء الشمالي من الجزيرة الفُراتية من محافظة الحَسَكة السورية، إلى حدود أراضي نينوى الشرقية.
صفات اللهجة العربية القديمة تتلخص في الآتي..
ما يتعلق بالإعراب
يقول النُحاة “مختصّي علم النحو”، أن هناك خلاف إعرابي نُسب إلى قبائل مُعينة وقيل أنه لهجتهم، وما تستطيع ألسِنَتهم قوله. هذه الأمثلة توضح ذلك ..
#قبيلة بني تميم؛ لهجتهم تَنْصب تمييز “كَمْ” الخبرية مفرداً، أمّا لهجة غيرهم توجب جَرِّه و تجيز إفراده “جعله مُفرد” وجمعه. فيقولون : كَمْ دِرْهماً أنفقت؟ .. أما غيرهم يقولون : كَمْ دِرْهمٍ أنفقت؟ #بنو أسد يصرفون مالا ينصرف “الذي لا يُصرَف إعرابياً”، و يقع منهم ذلك فيما علة منعه الوصفية، وزيادة الألف والنون؛ فيقولون: لستُ بسكرانٍ. مايتعلق بالناحية الصوتية
هناك قبائل عربية عاشت في صحراء شبه الجزيرة العربية مُنعزلة، أدى ذلك لأن تأخذ طابعاً صوتياً خاصاً بهم، وقبائل أخرى مُتحضّرة عاشت في بيئة حضرية بالقرب من المُدن. بالتالي؛ أصبح لكلٍ من تلك القبائل المختلفة صفات صوتية خاصة بها.
عوامل التطور وعوامل الجمود
يرى المحدثّون في اللهجات، أن عوامل مثل التطوّر، والجمود أو الاستقرار؛ لهما تأثير على اختلاف اللهجات، فحين نستعرض بيئات القبائل العربية وفق أقوال هؤلاء المحدثّين، نرى أن هناك تشابه بين ما يقولون أنها بيئات بدائية، وبين حياة القبائل البدوية التي لا تستقر على حال. على سبيل المثال ما يلي ..
#القبائل البدوية كثيرة الترحال، وتلجأ لغيرها في أمور التجارة، فيتبدل الحال من الجنوب الصخري إلى الشمال الرملي، بالإضافة لوجود جيران جُدد ذو لهجات ونطق خاصٍ للكلمات يخالفهم. بالتالي؛ يترك ذلك أثره عليهم، وصدى في نمو الأطفال منهم تحديداً. #أمّا الحضر؛ برغم استقرارهم، هناك عوامل من الممكن أن تساعدهم على تطور لغتهم، مثل قبولهم للعناصر الأجنبية التي تنزح إليهم، واتصالهم بكل جديد يطرأ على الحياة الإنسانية؛ كالاختراعات الجديدة، والتجارة الأجنبية التي تُحتِّم على كِلاَ الطرفين الاستعارة والإعارة في ألفاظ اللغة وأساليبها. صفات اللهجة بشكلٍ عام بين البدو والحضر
الميل للإمالة
طبيعة الإمالة من الناحية الصوتية، هي المرحلة الثانية من الصوت المركب الذي يسميه المحدّثون “Diphthong”، وقد تكون الإمالة إلى الكسر، والضم. وقد وقفت القبائل البدوية عند تلك الإمالة؛ ولم تتطور إلى الإمالة بالفتح كما هي عند الحجازيين مثلاً “قبائل الحجاز”.
في الأمثلة الآتية؛ تختلف الإمالة بين البدو والحجازيين .. فالحجازيون يستخدمون الإمالة بالياء أو “الكسر” بدلاً من الواو أو “الضّم”؛ والبدو العكس.
# بعض من فزارة وهم من قبيلة غطفان؛ تلك القبيلة التي عاشت بالقرب من الحجاز، وربما تأثرت بما يشاع فيها، فيقولون: “كسايان” بدلاً من “كساوان”.
#قبيلة طيء أو قبيلة تميم؛ وكلاهما من البدو، أثّرت الضّم في أقوالهم، فيقولون : “حَوث” بدلاً من “حيث”. #قبيلة هذيل أو ربما قبيلة عُقَيل، يقولون: “اللذون” بدلاً من “الذين”، وهذه اللغة ربما تكون أقرب لقبيلة عُقَيل لأنها بعيدة عن البيئة الحجازية، وتأثرت بلغة قبيلة بني تميم. وعلى ذلك؛ هناك شاهد من بيت شعر يقول أحدهم: نحن اللذون صبحوا الصباحا .. يوم النخيل غارة ملحاحا. السرعة في النطق
لا شك أن الحياة البدوية القريبة للهدوء، يجعل الفرد يخلد للسكينة والهدوء، فحياته مليئة بالتراخي والكسل، حتى في النطق. فتميل القبائل البدوية إلى السرعة في النطق، و تلمس أيسر السُبل، فتدغم الأصوات بعضها في بعض. ومن أمثلة ذلك؛
#بعضاً من بنو تميم كانوا يقولون: “محّم” بدلاً من “معهم”. #قبائل عربية أخرى كانت تقول: “اجدمعوا” بدلاً من ” اجتمعوا “.. و”الجعبة” بدلاً من “الكعبة”. لهجات متناثرة
رُوي لنا؛ أن هناك لهجات متناثرة كانت في شبه الجزيرة العربية منسوبة إلى جهات مُعينة، وأخرى لا يُعرف لها أساس، وتعتبر مجهولة النسب على حد قول أحد الرواة. الأمثلة الآتية توضح تلك اللهجات ..
#قبائل كانت تستخدم “الكسر” لحرف المضارعة في الفعل الثلاثي؛ وقيل على لسان أبو عمرو: وتِعْلَم بالكسر لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وعامة سالعرب. أما أهل الحجاز، وقوم من أعجاز هوازن وأزد السراة وبعض هذيل؛ كانوا يقولونها “تَعْلَمْ” بالفتح. #أحد الرُّواة نَسب إلى قبيلة حِمْيَّر أنهم كانوا يقلبون “لام” التعريف إلى “ميم”، مثل قول الرسول صل الله عليه وسلم مخاطباً تلك القبيلة: ليس من أمبر أمصيام في أمسفر، بدلاً من “ليس من البر الصيام في السفر”، فسميت تلك اللهجة طمطمانية حِمْيَّر. #قبائل مثل سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، والأنصار كانوا يقلبون العين إلى نون؛ فيقولون “أنْطَى” بدلاً من “أعطى”، فسميت تلك اللهجة بالاستنطاء. #أيضاً لهجة حضرموت التي لا زالت إلى الآن؛ يقلبون “الكاف” إلى “شِين” مُطلقة؛ فيقولون: “لَبَّيْشَ اللهمَّ لَبَّيْشَ” بدلاً من “لبيك اللهم لبيك”، و يقولون: “عليش” بدلاً من “عليك”، وسميت هذه اللهجة الكَشْكَشْة. اللهجات الحديثة
اللهجة الحديثة وفقاً لمؤرخين ونُحّاة، تمثّلت تلك اللهجات الحديثة في اللهجة المِصرية؛ لا سيما النموذجية منها_ليس شرط أن تكون لهجة فُصحى صحيحة_، تلك التي تسمى اللهجة القاهرية، التي احتفظت ببعض الصفات القديمة بالرغم من اختلاف نطق بعض كلماتها. بعض تلك الصفات تمثلت في الآتي..
الناحية الصوتية
فقدت اللهجة المصرية بعضاً من الأصوات العربية القديمة مثل “الثاء، والذال والظاء، والقاف”؛ واستبدلت بالترتيب هكذا “التاء، و لدال، والضاد، والهمزة أو الجيم”.
أيضاً مالت إلى الاستفال في لغة الكلام المصرية. ومعنى الاستفال أي “عند النطق بحروف الكلام؛ ينخفض اللسان إلى قاع الفم، ويقل التجويف الفمي، ولا يصعد الصوت إلى الجزء العلوي من الفم، بل ينحدر إلى خارج الفم، ويكون صوتاً نحيلاً “؛ فتُنْطق “الصاد”.. “سيناً”، “والطاء” .. “تاء”، و”الضاد” .. “دال”، و”الظاء”.. “زاي” مخففة؛ مثال ذلك ..
#يقولون: “سَكع” فلاناً قلماً، بدلاً من “صقع”، و أيضاً قولهم: “مَدْغ” بدلاً من “مَضْغ”. لعبت ظاهرة الـ “Dissimilation”، دوراً في لهجة كلامنا واللغة العربية الفصحى أيضاً، وتلك الظاهرة عبارة عن أن الناس تخلصوا من إدغام المتماثلين؛ بقلب أحدهما إلى أحد الأصوات “المتوسطة” الشبيهة بأصوات اللين “الميم واللام والنون والراء وربما العين”. على سبيل المثال؛
#الفعل “تفحّس” بمعنى تكبّر وتعظم، ينطق في لهجة كلامنا “تفنحص”. #أيضاً “كبّل” .. “كعبل”. وزيدت على تلك الأصوات؛ بنية الكلمات، مثل “شرمط الورق” جاءت من الفعل “شَرَط”. وأيضاَ “طمس الكتابة” جاءت من الفعل “طَلَسْ”. الناحية الدلالية
في العادة يرفض الناس المعاني الحديثة، ويسموها معان “مولّدة”؛ وينكرون عليها فصاحتها، لا لسبب سوى أن الزمن قد تطوّر وجاء ما سمّاه الرواة “عصر الاحتجاج”. مثل هذه الكلمات؛ أبقت العربية على معانيها القديمة واحتفظت بها، ومع ذلك تلاشاها الأُدباء واعتبروها من اللهجة العامية. مثال ذلك؛
#كلمة “خش” بمعنى “دخل”.. و”مقشة” بمعنى “مكنسة”. أيضاً لعب المجاز دوراً كبيراً في تطور المعاني العامية؛ مثال ذلك؛
#كلمة “الهَمَج” التي كانت تعني البعوض، أصبحت تستخدم بمعنى “فوضويين”. #أيضاً كلمة “شَنَب” التي كانت تعني بريق الأسنان؛ أصبحت مُرادفة و تستخدم لكلمة “شَارِب”. وجه آخر من أوجه الاختلاف؛ حرف “الذال” الذي تطور في اللهجات الحديثة إلى “الدال”، فأصبح يُستخدم في كلمات عدّة منها من أبقت عليه، ومنها من أبدلته بـ “الدال”. مثال ذلك؛ في كلمة “هاذول” المُشتقة من اسم الإشارة “هؤلاء”، كان للعرب القدماء يستخدمون كلمة “هاذول” للخطاب، و”هؤلاء” للكتابات الأدبية. وهنا يتضح امتداد اللهجات القديمة؛ للحديثة مع تغيير شكلها، لكنها أبقت نفس المعنى.
أمثلة لنطق كلمة “هاذول” في بقاع مختلفة.
#في شرق الأردن، وبلاد الشام كلمة “هَاذُول”، وفي العراق “ذُول، ذولا”.. في مصر “دول، دولا”.. السودان “ديل”..وفي اليمن والمغرب العربي “هاذَولْ”. أخيراً.. هناك أمثلة كثيرة لا تحصى في اختلاف اللهجات العربية؛ وأمثلة للهجات بأسماء عديدة، نشأت وانحدرت من لهجات لقبائل عربية قديمة متباينة، فلم تكن القبائل التي نزحت إلى بيئات مثل العراق والشام أو مصر؛ موحدة اللهجة.
أيضاً اللهجات المتباينة؛ تلك التي وفدت من شبه الجزيرة العربية، غزت لهجات في بيئات يتكلم أهلها غير العربية مثل “القبطية والبربرية”، وانتصروا عليها كما أسلفتُ سابقاً.
يتضح من ذلك أننا ربما جميعاً قد نكون مشتركين في لهجة عربية موحدة مُتقاربة؛ تمثلت في ثلاثة قبائل عاشت مُهاجرة، ونازحة، انحدرت من وفي شبه الجزيرة العربية والشام، وتأثرت بظروفها، فنشأت اللهجة المصرية، الشامية، العراقية، المغرب العربي.. وغيرها.
ويُمكن أن تنشأ لهجات عربية أخرى مُنحدرة من ظروفنا الحالية أيضاً، فلا زال هناك بضع قبائل ومجتمعات مُنعزلة عن وجودنا المعاصر، وتتحدث لهجات عتيقة وغير مفهومة في كثيرٍ من الأحيان؛ التي ربما تتحول إلى لهجات عربية جديدة في المستقبل البعيد.. لما لا ؟
المصدر: اقتباسات وأمثلة توضيحية من كتاب “في اللهجة العربية” للدكتور إبراهيم أنيس.
(أراجيك)