الضوابط الشرعية للتعامل بعد الطلاقإن في الإسلام وشريعته إقامةً للحياة الأسرية على قاعدة العدل والمعاملة بالإحسان وتحريم الظلم والعدوان.
التصرفات السيئة التي تحدث بعد الطلاق
ألا وإن من الظواهر السيئة والصور القبيحة: ما يحدث من التصرفات بعد الافتراق ومن السلوكيات بعد الطلاق ما لا يقره الشرع القويم، ولا يرضاه الطبع السليم ولا الخلق الكريم يقول -جل وعلا-: ﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: 237] جاء في التفسير: "أن من مضامين هذه القاعدة الحث على التعاطف والتراحم، والترغيب في المعروف والفضل، والتعامل بالإحسان والصلة والشفقة".
وهناك تصرفات تحدث بعد الطلاق هي من الظلم المبين ومن العدوان العظيم الذي حذَّر منه رب العالمين؛ عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صل الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل- أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا"
إنها أفعال تحدث بعد الطلاق من الزوجين تتضمن السعي إلى الإضرار بالآخر، وإلحاق الأذية به والحرص على إعناته، وإلحاق المشقة به، وذلك أمر محرم في شرع الله -جل وعلا- وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول ربنا -جل وعلا-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب: 58] ويقول - سبحانه-: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، وفي الحديث المشهور عن النبي -صل الله عليه وسلم-: "لا ضررَ ولا ضرار"، وفي لفظ: "من ضارَّ ضار الله به، ومن شاقَّ شق الله عليه".
ولهذا؛ فمن الأصول الفقهية المعتبرة قاعدةُ منع التعسف في استعمال الحق، يقول الشاطبي - رحمه الله-: "الأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به وإيلامه"، ويقول العلماء: "إن الله -جل وعلا- حينما قال: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: 237] ختم هذه الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 237].
وهذا يجري مجرى التهديد بما قد يحدثه أحد الزوجين بالآخر من ضرر بعد الطلاق، أو إهمال في واجب عليه، أو أداء حق مترتب عليه، بل الذي ينبغي في الإسلام أن يكون الإنسان عادلاً في تعامله مع كل أحد؛ فكيف بمن سبق أن ربط بينهما رباطٌ عظيم وهو الزواج الشابط فحينئذ عليهما أن يكون التعامل مندرجاً إما بالعدل والإنصاف الواجب، وهو أخذ الواجب وإعطاؤه، وإما أن يكون التعامل بالفضل والإحسان -وهذه مرتبة أعلى- وهي إعطاء ما ليس بواجب من التسامح في الحقوق والغض مما في النفس، والحرص على المعاملة بالأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة.
من صور الظلم والعدوان بعد الطلاق
إذا تقررت تلك القواعد المثلى والأصول العظمى التي تضبط التعامل بعد الطلاق في حكم الإسلام، فإن هناك صوراً من الظلم الحاصل والعدوان الواقع في هذه المسائل. تشهد بذلك أروقة المحاكم ويشهد بذلك ما يشاع من أخبار صادقة في أوساط المجتمع وذلك في صور شتى:
منها: مطل بعض الأزواج بحقوق المطلقة بالحقوق المقررة -في القرآن الكريم والسنة المطهرة- من بذل مؤخر الصداق، أو المطل ببذل الواجب في الطلاق قبل الدخول والخلوة -وهو نصف الصداق- وربنا -جل وعلا- يقول في ذلك: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء:4].
وكذا مما لا يجوز التهرب منه ما هو واجب للمطلقة الرجعية من عدم جواز إخراجها من مسكنه ما دامت في العدة، أو من بذل نفقة العدة لها، يقول -سبحانه-: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق:1].
وكذا مما لا يجوز المطل به -وهو في الصور الواقعة- عدم بذل النفقة للمطلقة البائن متى كانت حاملاً حتى تضع .. والبائن هي التي لا يجوز لها أن يراجعها إلا بعقد جديد إذا كانت البينونة صغرى، أو بعد نكاح من آخر إذا كانت البينونة كبرى، يقول -جل وعلا-: ﴿وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6]
ومن صور الظلم الواقعة بعد الطلاق تهربُ بعض الآباء ومَطْلهم عن الالتزام بالنفقة للأولاد؛ خاصة الذين تحت حضانة والدتهم المطلقة، تلك النفقة الواجبة بصريح نصوص الشريعة وإجماع الأمة، وكذا يلحق بذلك إهمالُ الأب في مراعاة تعليم أولاده أو رعايتهم الصحية، ونقص الإشراف والاهتمام ما داموا تحت حضانة والدتهم؛ فضلاً عن إسداء العطف إليهم وهم ينتظرون ذلك من أبيهم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ ومسئولٌ عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته" واسمعوا لهذا الحديث العظيم من المصطفى -صل الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثماً أن يُضيِّع مَنْ يقوت" صححه النووي.
رعاية الأبناء بعد الطلاق مسؤولية الأبوين
إن الواجب على الرجل والمرأة -بعد أن قدر الله جل وعلا لحكمة وانفصل أحدهما عن الآخر- أن يحرصا على المأوى الدافيء والملجأ الآمن للأولاد، وأن يحرصا على غرس الحب والسكينة والهدوء والطمأنينة في نفوس أبنائهم.
على الأب والأم -بعد أن وقع الطلاق المكروه- أن يتعاونا على المصالح المشتركة في غرس التربية الحسنة، وأن يكمل أحدهما وظيفة الآخر، ويوجد حواراً أسريا مشتركاً لحل المشكلات وحسم كل الخلافات لتحقيق الأمن النفسي والأمان الاجتماعي للأولاد في توافق وتفاهم من الوالدين على أساليب التنشئة السليمة لينمو الأطفال نمواً سليماً، ولا يحصل ذلك إلا بالتعاون والاحترام المتبادل بين الوالدين.
ولهذا فإن من الصور السيئة التي تقع بعد الفرقة: حرمانَ الأم من حقها الأصليِّ الذي قرره شرع الإسلام في حضانة صغارها؛ روى عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره: أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "يا رسول الله، إن ابني هذا كان له بطني وعاءً، وحجري له حِواءً، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال -صل الله عليه وسلم-: "أنت أحقُّ به ما لم تنكحي" والحديث صحيح عند أهل العلم.
واسمعوا لتطبيق الصحابة -رضي الله عنهم- ما سطَّره النبي -صل الله عليه وسلم- من توجيه، روى سعيد في مصنفه أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حكم على عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- بعاصم لأم أمه، حكم على عمر بعاصم لأمه أم عاصم، وقال: " ريحها وشمها ولطفها خيرٌ له منك"، ورواه عبد الرزاق بلفظ: "هي أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأرأف، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج".
ألا وإن أعظم جُرماً -من حرمان الأم من حقها في الحضانة- ما يفعله بعض الآباء القساة فيحرمها من الحضانة، ثم يعلو ذلك قبحاً بمنعها من الزيارة مطلقاً، ومن رؤية أولادها البتة، وقد قال صل الله عليه وسلم -وهو الرحيم المشفق-: "لا تُولَّه والدة عن ولدها" حسنه السيوطي.
وقال: "من فرَّق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته"
ويلحق بذلك -أيها المسلمون- منعُ الأمِّ الأولاد -إذا كانوا تحت حضانتها- من زيارة والدهم؛ فذلك أمر لا يجوز في حكم الإسلام لأن فيه إغراءً بالعقوق، ودفعاً إلى قطيعة الرحم، وذلك كبيرة من كبائر الدين.
ومن صور الظلم التي تُمارس بعد الطلاق: ما يقع من أحد الوالدين من النَّيْل من عِرض الآخر وشتمه، والاستهزاء به والانتقاص من قدره على مسمع من الآباء؛ الأب يشتم عند أولاده أمهم، والأم تشتم والدهم عند أولاده؛ فذلك مما يجرح كرامة ومشاعر الأبناء ويؤذيهم نفسياً -وإن لم يتكلموا بذلك- وذلك من الظلم المبين من أوجه متعددة.
الرفق في تربية الأبناء
من صور الظلم ما يقع من بعض الآباء، حينما ينتقم من الأم المطلقة عن طريق تعذيب الأولاد جسدياً؛ بالضرب ونحوه، أو معنوياً؛ وذلك بالتكلم عليهم بالألفاظ النابية والعبارات البشعة مما يسمى اليوم بالعنف الأسري، وهو محرم شرعاً وعقلاً وعرفاً. وسواء كان ذلك مباشرة من الأب أو بإذن ورضىً منه كما يقع من بعض زوجات الآباء؛ فليتق الله كلُّ من أغواه الشيطان وركن إلى العدوان ونسي الرحمة والإحسان؛ فمهما بلغ الحق مبلغه، ومهما اندفن في النفس ضغينة على الآخر؛ فما ذنب الطفل البريء؟! وربنا -جل وعلا- يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [فاطر: 18]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يجني جان إلا على نفسه"، أين هؤلاء من قوله -صل الله عليه وسلم-: " ليس منا من لم يرحمْ صغيرنا، ولا يوقر كبيرنا"
أين قسوة هؤلاء من توجيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، قالت عائشة: "قدم ناس من الأعراب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "أتقبلون صبيانكم؟ فقال: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله -صل الله عليه وسلم-: "أوَأملكُ لكم شيئاً إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟"
وفي حديثٍ عن أبي هريرة قال: "قبَّل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله -صل الله عليه وسلم- فقال: من لا يَرْحمْ لا يُرحمْ"
أيها الآباء تذكروا توجيه النبي -صل الله عليه وسلم- حينما قال: "ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يُبْغض الفاحشَ البذيء"
فعليكم بالرفق والرأفة واللين؛ إن الله رفيق يحب الرفق، يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "فإن قيل: إذا كان الصبي لا يصلحه إلا الضربُ المبرح أي الموجع، فهل يجوز ضربه تحصيلاً لمصلحة تأديبه؟ قلنا؛ أي قال العز بن عبد السلام في الجواب عن ذلك: "لا يجوز ذلك، بل لا يجوز أن يضربه ضرباً مبرحاً؛ لأن الضرب الذي لا يبرح مفسدة، وإنما جاز لكونه وسيلةً إلى مصلحة التأديب، فإذا لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف كما يسقط الضرب الشديد؛ لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد" انتهى.
فاتقوا الله أيها المؤمنون والتزموا بتلك التوجيهات والآداب تفلحوا وتفوزوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
إفشاء الأسرار بعد الطلاق
من الصور المحرمة ما يحصل بعد الطلاق من إفشاء سر أحد الزوجين ونشره وإذاعته بين الناس؛ مما يكون فيه إضرارٌ بالآخر وأذيته، قال العلماء: "يحرم على كل مطلق إفشاءُ السر إذا كان فيه إضرار وأذية، وما يكون فيه غضاضة عليه".
وروى مسلم -رحمه الله- عن النبي -صل الله عليه وسلم- أنه قال: "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها"وفي رواية: "من أشر الناس".
قال معاوية -رضي الله عنه وأرضاه-: "إفشاء السر خيانة"، وقال الحسن: "إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك، فكيف بإفشاء سر من ربطتك به علاقة شرعية وجمعتكما كلمة الله؟".
قال أحد السلف: "من أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطبائع السليمة كلها".
ومن الصور المحرمة -عباد الله-: أن يفتري أحد الزوجين على الآخر الكذب ويختلق عليه ما لا يصح من قول أو فعل أو وصف ليشين به الآخر ويعيبه به، قال -تعالى-: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 105].