قصة عشق الشيخ رضوان والشجر دائمة الخضرة
وديع عواودة
الناصرة ـ «القدس العربي»: هذه قصة حب حقيقية لا تعرف الكلل والملل فتتجدد كل صباح والحبيبة تمد الحبيب بالطاقة للمزيد من الوفاء والتواصل في مسيرة عطاء دائمة الخضرة. والحديث عن الحاج رضوان سعيد أبو يوسف (92 عاما) من قرية كفركنا داخل أراضي الـ48 وهو مزارع مخضرم، مشواره الحميم مع الأشجار عمره نحو 65 عاما وأقربها لقلبه الزيتون والتين والرمان.
وإذا كان يوم الأرض بالنسبة للفلسطينيين ذكرى وطنية عزيزة تحل مرة كل عام في الثلاثين من آذار/مارس فإنها لدى الحاج رضوان قصة عشق تبدأ كل يوم مع خيوط الشمس الأولى. في الشهر الماضي احتفل أبناء وأحفاد الحاج رضوان بعيد ميلاده الثاني والتسعين، لكنه ما لبث أن سارع للعودة إلى مزرعته. داخل دفيئاته الزراعية يقضي أبو يوسف أمتع أوقاته ويحتفل كل يوم بميلاد غرسة زيتون جديدة. هو الذي قاتل في الحرب العالمية الثانية ضد النازيين سوية مع الجنود البريطانيين وفي جعبته ذكريات منها يفضل التوقف عند مسيرته مع الأرض الممتدة على ثلثي عمره ويعتبرها قصة حب لم تطفئها الشيخوخة أو الرتابة، وقد بدأت في مثل هذه الأيام قبل حوالي سبعين عاما. بعد نكبة 1948 عمل في أماكن شتى لإعالة أسرته المكونة من 14 فردا، حتى استقر به المقام عام 1953 بزراعة الكروم وتربية الأشتال. في ذاكرته الفذة يستذكر أنه تعلم مع بعض أصدقائه في مدينة صفد كيف ينبتون غرسة الزيتون من بذرة الثمرة البرية بسرعة. وأحدثت هذه الطريقة انقلابا في عالم زراعة الزيتون، فقبل ذلك كان الفلاحون يضطرون للبحث عن أشجار الزيتون البرية لزرعها في بساتينهم وتثمر بعد سنوات كثيرة. بعد ذلك بادر أبو يوسف لبناء «مشتل الرضوان» وفيه ينتج عشرات آلاف من أغراس الزيتون وسائر الأشجار سنويا. ويؤكد باعتزاز أنه أسهم في انتشار مئات كروم الزيتون في ربوع الجليل، وتعمير مساحات واسعة من أرض البور بأكثر من نصف مليون غرسة زيتون حتى الآن. طيلة الحديث معه يعمل على «أنسنة» الزيتون كأنها الأم والابنة، منبها لكونها شجرة مباركة ترضى بالقليل وتوفر الحياة وتعين الفلسطيني على الصمود والبقاء، بالزيت والزيتون والخشب. الحاج رضوان الذي يتمتع بقسط واسع من الثقافة، وكان أحد مؤسسي حركة الأرض في خمسينيات القرن الماضي، يقول بود إن محمود درويش بالكاد قد أنصف القول حينما كتب في قصيدته «لو يذكر الزيتون غارسه/لصار الزيت دمعا»، لأن الزيتون في رأيه «صديق وفي للإنسان». ويشكل الزيتون وزيته عنصرا دائما في طعام أبي يوسف كل يوم، لكنه يقول إن تربية أشجارها لا تقل متعة عن تناول أثمارها. موضحا أنه يعامل الشتلات معاملة بناته، ويتابع وشارات السرور ترتسم على محياه: «أدخل المشتل في الصباح أخاطبها بالسلام عليكم، وأكاد أسمعها ترد بتحية أحسن منها حينما أطفئ عطشها يوميا، ويملؤني القلق حينما أتأخر عن سقايتها». ويبقى يعامل شجرة الزيتون برفق، فينهى عن ضربها بالهراوات عند القطاف لأن ذلك «يوجعني كأنني أنا الذي أتعرض للعصي». بالطبع تبلغ سعادته ذروتها مع حلول القطاف في الخريف، يبتهج لرؤية كروم الجليل مثمرة ويتغزل بها بكتابة الأشعار.
التقينا الحاج رضوان عدة مرات ولاحظنا أنه يواظب خلال عمله على سماع الفنانة الراحلة أم كلثوم عند الظهيرة. عن ذلك يقول إن مهنة زراعة الأغراس والأشجار مهنة شريفة توفر العيش الكريم والسكينة النفسية، وتملأ قلبه بالسعادة لدرجة أنها تبعث به النشوة والطرب. ويتابع مبتسما «داخل المزرعة يزداد حبي لكوكب الشرق، أحب الأصوات على قلبي». وتخطفه أم كلثوم لمصر فيقول -مستغربا انتشار الفقر فيها-انه لو كان مصريا لملأ أراضيها بمزارع الجوافة والمانغو وسائر الأشجار مستفيدا من مياه النيل وحول أرض الكنانة لواحة خضراء من الدلتا حتى بلاد النوب. ويحل التين في المنزلة الثانية لديه، فهي شجرة مطيعة ترد الجميل وتقدم أولى ثمارها (الدافور) بعد عام من زراعتها، وفي العام الرابع تؤتي أكلها ثمرا ناضجا بما لا يحصى من الصنوف. ويلي التين الرمان، معتبرا أن المليسي ملك الرمان من ناحية المذاق والفوائد الغذائية والصحية.