ما وراء تدهور العلاقات السودانية المصرية، وأين ستصل!
لندن د. أسامة الأشقر - قدس برس
لم تكن العلاقات السودانية المصرية يومًا صافيةً، ولم تكن التصريحات التجميلية تستطيع أن تخفي الحماوة المكتومة تحت الرماد، لأن أساس العلاقة لا يقوم على أساس الاعتراف بالتكافؤ، بل على اعتبار السودان تابعة لمصر في كل شيء، وأنها في جيبه الأصغر وفق تعبيرات بعض الإعلاميين المصريين؛ وهناك تفاصيل كثيرة في هذا المجال تحتاج بسطًا في غير هذا الموضع؛ لكننا إذا قلّصنا مساحة النظر في نمط العلاقة السودانية المصرية منذ ثورة الإنقاذ الوطني نهاية ثمانينات القرن الفائت بقيادة الرئيس عمر البشير وبإسناد من حليفه القوي الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية السودانية آنذاك فإننا سنجد أن نمط العلاقة يؤشر دائمًا إلى هبوط مستمر لا يكاد يرتفع مؤشِّره صعودًا.
فهذه الثورة التي ظنها الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أولَ الأمر قريبةً منه فبادر للاعتراف بها لم تلبث عن أن كشفت عن توجهها الإسلامي فبادر إلى استعدائها والعمل على إسقاطها، وكان السودان آنذاك في خضمّ حرب أهلية شرسة يكاد التمرد الجنوبي فيها يصل إلى أطراف الخرطوم، وكان يعاني من أزمة أمنية، وأزمة سياسية، وأزمة اقتصادية طاحنة حيث تكاد تخلو حساباته المصرفية من أي مخزون مالي وسط تراكم للديون الأجنبية عليه، وضعف حاد في الصادر، واعتماد شبه تام على المساعدات الأجنبية، وانهيار في البنى التحتية.
كان الموقف المصري يتردد بين موقفين استراتيجيين فهو من ناحية يعدّ السودان عمقًا استراتيجيًا مصريًا يحمي حدود مصر الجنوبية ويدافع عن مصالحها المائية نيابة عنها، أما الموقف الثاني فهو يستند إلى رفض قاطع لجوار دولة تتخذ شعارات إسلامية في إدارة شؤون الدولة فيها، أو اتخاذها مسارًا مستقلًا عن السياسة المصرية؛ وكان القرار الاستراتيجي المصري قد اتُخذ بالانحياز إلى الموقف الثاني فقررت مصر العمل على إسقاط نظام الإنقاذ ودعم الحركات الانفصالية عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا، وفتح مكاتب رسمية لفصائل التمرد في القاهرة تنسق أعمال الدعاية المضادة والعلاقات الدولية والإقليمية وخطوط الدعم الأجنبي.
واستغل النظام المصريّ موقف السودان المؤيد للعراق ورفض التدخل الأجنبي عقب الغزو العراقي للكويت مطلع التسعينيات ليؤلِّب دول الخليج على السودان أكثر، حتى بات النظام المصريّ وصيًّا على العلاقات السودانية الخليجية بحيث كانت مصر مدخلًا للعلاقة مع السودان لاسيما مع دول الخليج المؤثرة، وتم اعتماد سياسة ثابتة في التعامل مع السودان لمدة طويلة تعتمد على الشعار: سقف العلاقات الخليجية السودانية هو سقف العلاقات المصرية السودانية.
ثم زادت العلاقات توترًا عقب الاتهام المصري السريع للسودان باستهداف الرئيس المصري في إثيوبيا ومحاولة اغتياله، وهنا تطور الموقف المصري بشكل حاد ليتبنى قرارات قاسية تستدعي التدخل الأجنبي في السودان وتعمل على حصاره واتهامه بالإرهاب وتسريع وتيرة الأزمات بغرض تسريع انهيار نظام الإنقاذ وإسقاط شعبيته، وسبق ذلك استغلال النظام المصري لاستنفار القوات السودانية الرسمية والشعبية في حرب الجنوب حيث فوجئ السودانيون بدخول القوات المصرية إلى مثلث حلايب وشلاتين في شمال شرق السودان في ذروة انشغال الجيش السوداني بحرب الجنوب مما عدّه السودانيون طعنة غادرة في الظهر.
لم تكتف السياسة المصرية بالمواقف بل عملت على إدانة السودان في جميع المحافل الدولية، وحرمان السودان من أي مساعدات ومنح دولية أو قروض ميسرة من المنظمات الدولية، ورصدت الجهات السودانية المختلفة الكثير من النشاطات المصرية التي تستهدف السودان بالتعاون مع الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي وبعض دول حوض النيل كإثيوبيا ويوعندا وكينيا، ولكن الجانب الأبرز في التحريض كان في مشاركة مصر الفاعلة في إدانة السودان بالإرهاب وما خلّفه ذلك من آثار حادة في مستويات العيش كافة، وتشديد وطأة الحصار.
وكثيرًا ما تقدمت السودان بشكاوى للدول العربية بشأن التدخل المصري في الشأن السوداني عبر منظومة المخابرات المصرية النشطة التي تعدّ الأكثر عراقة في الساحة السودانية بعد المخابرات الإثيوبية والأمريكية وفق ما يقوله مراقبون؛ وامتدّ هذا التدخل إلى تقديم عتاد عسكري وذخيرة حية للمتمردين من إنتاج المصانع الحربية المصرية تمكن الجيش السوداني وقوات الدفاع الشعبي من اغتنام الكثير منها في العمليات الدائرة في الجنوب.
وعندما كانت المفاوضات تنعقد لتحديد مصير الجنوب كان الموقف المصري غريبًا شاذًا فهو من ناحية يرفض انفصال الجنوب ويعدّه مؤامرة تستهدف مصر فقد كان من ناحية أخرى يدعم الانفصاليين في الجنوب بقوة ويحرّض على الشمال بقوة أيضًا، ويضعف مواقفه، ويحمّلُ الكثير من المحللين السودانيين مصر مسؤولية المساعدة على انفصال الجنوب وتكريس الفصل.
ولم يعمل النظام المصري على توطيد العلاقة الاستراتيجية مع السودان حتى على المستوى الشعبي فقد رفض النظام تمديد خط سكك حديدية بين البلدين رغم قرب محطات سكة الحديد في البلدين من الحدود بحجة اختلاف مقاسات خطوط النقل، ولم يتم اتخاذ محطات نقل وسيطة، بل رفض النظام في مصر افتتاح معابر برية بين البلدين إلا بعد سقوط الرئيس محمد مرسي لحاجة النظام المصري حينها إلى شرعيات عربية ودولية للاعتراف بانقلابه، ويتداول المعنيون بملف العلاقة بين البلدين معلومات بشأن ضغط أجهزة أمنية مصرية على الرئيس مرسي ألا يسارع بفتح معبر أرقين أو معبر أشكيت الحدودي لأن النظام في السودان سيسقط قريبًا، وأن افتتاح هذا المعبر سيفسر على أنه دعم لنظام الرئيس عمر البشير وهو في حالة انهيار كما كانت تزعم تلك الأجهزة.
ولم يكف الإعلام المصري الرسمي وشبه الرسمي والدراما المصرية عن التحريض على السودان وتنويع أشكال التحريض عليه، حتى وصل إلى مستويات شديدة من الابتذال في الألفاظ، وعنصرية مبالغ بها ضد درجات لونية بعينها ثم السخرية من الامتدادات الحضارية السودانية ومعالمها، بل وصل الأمر إلى عدم الاعتراف بوجود بلد اسمه السودان، وأنه حظيرة جنوبية لمصر، دون أن تتخذ الحكومة المصرية أو رئاسة الجمهورية نفوذها لوقف مسلسل التحريض والإهانة مما أكد الانطباع بأن ذلك حملة رسمية منظمة ومقصودة.
ولم يكن النيل الذي هو مفتاح العلاقات الاستراتيجية بين دولة المصبّ "مصر" ودولة المعبر "السودان" أن يفتح بوابة جيدة في العلاقات رغم حرص السودان طويلًا على تلبية الاحتياجات المائية المصرية والاستجابة الاستراتيجية الدائمة لما تطلبه مصر في هذا الملف بدءًا من اتفاقية تقاسم مياه النيل، إلى بناء خزانات تخدم المصالح المائية المصرية فحسب كخزان جبل أولياء جنوبي الخرطوم، مرورًا بالتخلي عن مدينة كاملة في شمال السودان هي حلفا القديمة ومعها نحو ثلاثين قرية منتصف الستينيات لصالح بناء السد العالي، وابتلاع بحيرة "ناصر" الصناعية لكثير من الأراضي السودانية الخصبة على امتداد مجرى النيل الضيق لنحو 150 كلم هو طول امتداد بحيرة خزان السد العالي داخل الأراضي السودانية، وما ترتب على ذلك من غرق حضارة نوبية عريقة تحت الماء ما زال السودانيون يبكونها.
ورغم شدة الضغوط المصرية في التسعينات على نظام الإنقاذ في السودان فلم يحاول السوداونيون الضغط على مصر من خلال ملف المياه رغم كثرة الدعوات الصادرة عن خبراء في السياسة والاستراتجيات لاستخدام ملف المياه لتنفيس الضغوط المصرية الهائلة على السودان نظرًا لاعتبارات المصلحة السودانية العامة المتمثلة في عدم استعداء مصر أكثر، والخشية على مصير مئات آلاف السودانيين في مصر وربما أكثر، وعدم فتح جبهات عسكرية جديدة، والخشية من وضع مصر لثقلها في ملف عزل السودان عربيًا بشكل نهائي واعتبارها دولة مارقة لاسيما أن السودان محاصر ومأزوم وليس لديه أوراق جاهزة ليلعب بها أنذاك في تلك المنطقة الحساسة... بل حاول نظام الإنقاذ استرضاء مصر وترغيبها بكل أشكال الترغيب المتاحة فمنحَ مصر الأراضي الزراعية المجانية وفتح لها باب الاستثمار والعمل بلا شروط ولا سقوف، والتزم بتطبيق اتفاقية الحريات الأربعة من طرف واحد.
جاء سد النهضة في لحظة فارقة بدأت تتحدد فيه استراتيجية سودانية جديدة تجاه مصر، فقد اتجهت الاستراتيجية السودانية بعيدًا عن مصر التي رأت فيها خصمًا دائمًا لا يمكن اعتباره عمقًا استراتيجيًا ولا يمكن الوصول معه إلى تفاهمات استراتيجية محلية أو إقليمية أو دولية، وتعمقت الخلافات في الملفات كافة: في ليبيا وأثيوبيا وفلسطين وحوض النيل واليمن وسوريا وإيران...، فأعلن السودان في آخر ولاية وزير الخارجية الأسبق علي كرتي أن السودان ليس عمقًا لأحد، وأن مصالح السودان هي التي تحكم استراتيجيته، ثم ظهر الاتجاه السوداني نحو الخصم التاريخي القديم في إثيوبيا التي كانت تبحث عن مصالحها الاقتصادية بعد أن تحولت إلى دولة داخلية محصورة بفقدانها سواحل إرتريا وتعذر الوصول إلى تفاهم إثيوبي إرتري أو صومالي، فأدرك الإثيوبيون حاجتهم للسودان وإطلالته البحرية على البحر الأحمر وعلاقاته الوطيدة مع القبائل الحدودية، وأدرك السودانيون حاجتهم لإثيوبيا المنفتحة اقتصاديًا والنشطة سياسيًا ودبلوماسيًا، واستطاع الفريقان الوصول إلى تفاهمات استراتيجيات أمّنت الوصول إلى ولادة مشروع سد النهضة الذي تأسس على الاستثمار في المساقط المائية الكبرى وتوليد طاقة كهربائية هائلة تستفيد منها دول حوض النيل وتنمّي فيها اقتصادياتها المنهكة.
كان المشروع الإثيوبي فرصة للسودانيين لتطبيق نموذج استراتيجي فعال وناجح ينبني على المصالح المشتركة بعيدًا عن التوترات التاريخية والافتعالات السياسية المرهقة مع احترام خصوصيات كل دولة وبناء منظومة تدخّل إيجابية فعالة، فبهذا المشروع تستفيد ولايات السودان المحاذية للحدود الإثيوبية من كهرباء دائمة وشبه مجانية، وتستفيد الولايات الأخرى من كهرباء رخيصة، كما أن السهول الزراعية الواسعة في السودان ستتأثر إيجابًا بإمدادٍ مائي ثابت لا يتأثر بعلو الفيضان ولا بانخفاض مستوى النيل مما سيزيد الرقعة الزراعية التي ستقوم على مشروعات آمنة غير مهددة بالفيضان أو العطش، وهو ما سيؤدي إلى استقرار سكاني ومعيشي في منطقة شديدة الفقر، وتتحول المنطقة إلى منطقة جذب استثماري اقتصادي بدل الواقع الاقتصادي الطارد فيها رغم خصوبة الأراضي الموجودة فيها، كما ستزيد فاعلية الخزانات والسدود المائية في السودان وستقلّ كمية الطمي الهائلة التي تنحجز وراء جدران السدود والتي تكلف السودان ميزانيات كبيرة لإزالتها؛ كما ستتراجع أخطار فيضانات النيل على مدن وقرى كثيرة على امتداد شواطئه وضفافه وجزره... كما ستنشط الحركة التجارية بين إثيوبيا التي يزيد تعداد سكانها عن 100 مليون نسمة ولاسيما في المناطق الحدودية التي يصعب التواصل بينها وبين القلب الإثيوبي نتيجة وجودها في سفوح مرتفعات شاهقة غير معبدة الطرق مما يجعل أهلها في حالة التحام مصالح مع الجار السوداني.
ونظرًا لهذا التطور في الرؤية الاستراتيجية السودانية فمن المتوقع أن يزداد التوتر إذا غيّر السودان موضعه من مربع الوساطة بين مصر وإثيوبيا إلى مربع التحالف أو التقارب مع إثيوبيا ودعم اتفاقية عنتيبي التي تزيد حصة شركاء النيل العشرة على حساب الحصة المصرية التي تبلغ 68 في المائة من مياه النيل لاسيما أن القناعة السودانية تزداد بأن مصر عبء كبير عليها ولم يكن إضافة لها على مدى عقود طويلة، وأنها لم تكن يوماً جزءاً من حل مشكلات السودان بل كانت دومًا طرفًا في تعقيدها.
وسيتحصّن السودان بعلاقاته الجديدة مع دول الخليج التي باتت تنظر إليها كصديق قوي يمكن أن تصل معه إلى مربع العلاقة الاسترتيجية وربما التحالف الكامل لاسيما بعد تصفية علاقاته تمامًا مع إيران، وانخراطه العسكري والسياسي الكامل في التحالف العربي في اليمن، وتجاوب الإدارة الأمريكية مع السودان في ملف الحصار الاقتصادي ورفع الحصار جزئيًا عن السودان بانتظار الرفع الكامل للعقوبات، فيما يتحرك الحوار الوطني السوداني بقوة إلى الأمام، ويزداد الضغط على فصائل التمرد الباقية لتنخرط في مسيرة السلام؛ ويستخدم السودان في سبيل تطوير علاقاته الكثير من المعطيات والمغريات الاقتصاديات المعتمده على مواره الضخمة الزراعية والحيوانية والمائية والمعدنية والسياحية... إضافة إلى إمكانية الاستفادة من مركزية الحضور السوداني أمنيًا وسياسيًا في شرق إفريقيا وتأثيره البالغ في عدد من دول المنطقة.
إن تطور الموقف السوداني داخليًا وتحسن علاقاته الخارجية، وتموضعاته الجديدة من شأنه أن يهذب السلوك السياسي المصري تجاه السودان، ويعيد ترتيب العلاقة وفق قاعدتي المصلحة والاحترام.