طبخة السلام الاقتصادي ونار التحالف الإقليمي
ماجد الشيخ
تواصل الإدارة الأميركية الجديدة، محاولتها النفاذ إلى قلب المشهد الشرق أوسطي عبر البحث عن سبل ممكنة للبدء بفكفكة تشابكات المشهد العربي، والاقدام على اقتراح صفقات هنا أو هناك، لإيجاد حل تسووي عبر مفاوضات أو غيرها، لقضية الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الوطن الفلسطيني. ولكن قبل ذلك، هناك مساع أميركية لعقد مؤتمر إقليمي أو دولي بمشاركة إقليمية عربية، وبالطبع إسرائيلية وفلسطينية في واشنطن، مقدمة لقيام "تحالف إقليمي" يساند أو يساعد الإدارة الأميركية على إدارة أزمات المنطقة، في محاولة للتوصل إلى إيجاد قواسم تسوية مشتركة بين الأطراف المعنية للأزمة السورية والعراقية، وفي شأن القضية الفلسطينية.
في الشأن الفلسطيني، يقوم الجهد الأميركي الراهن، انطلاقا من قاعدة تجريب ما سبق تجريبه من قبل طوال العقدين المنصرمين، من دون فائدة تذكر للفلسطينيين، برغم عدد الجولات التفاوضية الهائلة المتوقفة منذ ثلاث سنوات، في حين لم يتوقف الاستيطان في تقطيع أوصال الضفة الغربية والقدس.
ويبدو أن القمة العربية التي عقدت في عمان مؤخرا، لم تغلق الباب أمام الحلم الإسرائيلي الدائم باستبعاد التفاوض مع ممثلين للكيانية الفلسطينية كهوية وطنية، وذلك عبر الالتفاف على ذلك بالاستعاضة عن التفاوض المباشر مع الطرف الفلسطيني لوحده، وإشراك أطراف إقليمية ودولية، لا تنحاز جميعها بالضرورة إلى جانب الحقوق الفلسطينية الثابتة، وإقرارا بالهوية الوطنية المعبرة عن تلك الحقوق؛ وها هي إدارة ترامب تمضي نحو تكرار ما سبق لنتنياهو أن أفشله على الدوام، لضمان استفراده بالطرف الفلسطيني، وبالتالي إفشال أي حل ممكن لإقامة دولة أو شبه دولة للفلسطينيين على جزء من أرضهم التاريخية.
لقد قادت حماسة ترامب للتوسط لـ "سلام" في المنطقة، ليس إلى استجلاء معطيات الوضع من كل جوانبه، فقد كان يكفيه أن يستطيع جمع عدد من "اللاعبين الإقليميين" للقول أنه يحاول بدوره وفي عجلة من أمره، أن يضع أسس عقد قمة إقليمية للإيحاء بقيام تقارب إقليمي بين الإسرائيليين والعرب، قد تفسح في المجال لقيام جولة أو جولات من التفاوض، كما يأمل صهر الرئيس وكبير المستشارين جاريد كوشنير، ومبعوثه إلى المنطقة جيسون غرينبلات، في ظل تهديدات مندوبة الإدارة في الأمم المتحدة نيكي هالي لكل من يتطاول على إسرائيل وسياستها الاستيطانية، ويحاول المساس بحصانتها في المنظمة الدولية.
واستمرارا لمسلسل الأحلام الترامبية، فقد ذكر أن ترامب طلب من نتنياهو إعداد حزمة تسهيلات من قبيل تقديم تنازلات للفلسطينيين لتحسين الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وقطاع غزة، على أن يظهر تأثير هذه الخطوات على الفور. وبالفعل وبحسب ما نقلت صحيفة (هآرتس) يوم الأحد التاسع من إبريل/نيسان الجاري، فقد شدد نتنياهو خلال جلسة الكابينيت على نية الرئيس الأميركي التوصل إلى صفقة تسوية سياسية في المنطقة، وأنه بصدد الدفع بمبادرته علنا، وقال للوزراء إنه لا يعلم تحديدًا ما هي الخطوات التي سيتخذها ترامب، لكن "يجب على إسرائيل أن تظهر نيتها الإيجابية، وأن لا تتصرف كمن يريد إفشال المسعى الأميركي".
من جانبه أشار نتنياهو إلى أنه سيوافق على الطلب الأميركي، وأنه سيقوم بخطوات من شأنها التأثير إيجابيًا على الاقتصاد الفلسطيني، من دون أن يذكر ما هي تلك الخطوات، لكن الوزراء ألمحوا إلى أن إحدى هذه الخطوات قد تكون السماح للفلسطينيين بالبناء في منطقة "ج"، التي تسيطر عليها إسرائيل عسكريًا بشكل كامل. بينما زعم نتنياهو إنه سيفرض قيودًا على البناء في البؤر الاستيطانية غير القانونية، وأحد هذه القيود هي منع بناء أو إنشاء أي بيت جديد في هذه البؤر، والإبقاء على ما هو قائم.
أما الفلسطينيون، فهم لا يعلقون آمالا على ما تسوق له إسرائيل في الشأن الاقتصادي، برغم مرور عدة سنوات على طرح نتنياهو نفسه لمقترحات "سلام اقتصادي" لم يجر تنفيذ أي منها مطلقا، في وقت بدا يومها ويبدو اليوم أن مثل هذا السلام المزعوم، لا يتضمن تسوية معقولة ومقبولة من جانب الفلسطينيين، طالما إنها تبتعد عن إمكانية قيام دولة مستقلة أو حتى شبه دولة، تحتوي طموحات شعب يكافح من أجل تقرير مصيره على أرض وطنه التاريخي.
وإن كان ثمة من يراهن على حلول ذات طابع اقتصادي، وتذهب به الأوهام مذاهب شتى، في تجاهل متعمد لقضية شعب فلسطين ليس مع الاحتلال الثاني، بل ومع الاحتلال الأول وكيانه العنصري بمجمله، فذلك يتطلب رؤى سياسية مختلفة وتكتيكات واستراتيجية مختلفة، عما بتنا نشهده من رؤى قاصرة وعاجزة عن الإحاطة بقضية شعب ووطن بحجم الوطن الفلسطيني وديموغرافيته وجغرافيته التاريخية.
أما الانسياق خلف اعتبار القضية الفلسطينية مجرد معاناة إنسانية، تتطلب الغوث والمساعدة وتحسين شروط وظروف اقتصاد سياسي تحت الاحتلال، فهو انحراف رؤيوي وسياسي، سوف يؤثر أيما تأثير في عدم التوصل إلى تحقيق ما تصبو إليه الأطراف المعنية، والطرف الفلسطيني تحديدا، طالما ابتعدت الحلول التسووية عن معالجة القضية أو القضايا المثارة حول إنهاء الاحتلال، وها هنا المسألة الأهم بشموليتها، لا بالنظر إلى جزئياتها، وتجزيء بعضها والهروب من بعضها الآخر، كما فعلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة طوال جولات المفاوضات التي كانت تنتهي كما تبدأ، جراء الخلافات المستدامة في استبعاد هذا الملف السياسي أو ذاك الأمني أو الاقتصادي، وذلك كمبرر لإفشال المفاوضات وانفضاضها من دون التوصل إلى أي نتيجة تذكر، وحال النوايا التفاوضية الآن لا يختلف عن حال المفاوضات القديمة، سوى أن هناك إلى جانب الإسرائيلي إدارة أميركية تدافع وتحامي بشكل شبه مطلق عن إسرائيل، ولن تترك مجالا لاستفرادها في أي مفاوضات قادمة، خاصة إذا كانت ذات طابع إقليمي أو دولي.
رغم ذلك كله، ونتيجة زحمة القضايا التي تريد الإدارة الأميركية معالجتها أو النظر فيها وبدء التعاطي معها من دون اضطرارها للوصول معها إلى خواتيم معينة، قد لا تختلف القضية الفلسطينية عن قضايا كوريا الشمالية وبرنامجها النووي والعلاقات الأميركية الصينية والوضع في بحر الصين والمحيط الهادىء، والعلاقات المتوترة مع روسيا على خلفية الوضع المتفجر في سوريا والحرب على الإرهاب، والأولوية التي توليها واشنطن لحربها هناك؛ بين مهمة إسقاط النظام أو القضاء على الإرهاب وأيهما له الأولوية، وما إن كانت المهمة الأولى متضمنة في المهمة الثانية أو منفصلة عنها؟.
كل هذه القضايا لا تضع ترامب وإدارته في مستوى الجدية، وهو يسعى لإيجاد حل لمسألة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني العربي، بقدر ما يسعى لمجرد تحرك لاكتشاف كيفية النفاذ إلى تعيين مواقع وموانع "الصفقات الحلولية" الممكنة، ضمن الهوامش إياها التي أوقفتها عندها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وما تبني ترامب لخطاب سياسي وإعلامي يجاهر بتبني خريطة طريق غير واضحة لإيجاد حلول لصراعات المنطقة، سوى رأس جبل الجليد الذي تتخفى خلفه مؤشرات حرب باردة متجددة، يجري تسخينها على وقع معضلات العالم اليوم، تتخفى في ثناياها خريطة طريق أخرى، تسعى إلى تظهير تحالف إقليمي خاص بالمنطقة، توظفه وتستثمره الولايات المتحدة في صالح أهدافها ورؤاها المتجددة كصفقات سياسية ودبلوماسية، هدفها حماية "إسرائيل أولا"، وربما قبل مصالح "أميركا أولا" وهو الشعار الترامبي الأثير لليمين الشعبوي الأميركي في عهده الذهبي الراهن.