حديقة "الحيوان البشرية"!..
نموذج للعنصرية انتشر بلندن وباريس
توصف العنصرية بأنها وجود فروق تميز البشر بعضهم عن بعض، وقد تكون الفروق في الدين أو اللون أو الأصل؛ ولعل أشهر أنواع العنصرية التي عاناها العالم قروناً، العنصرية على أساس اللون؛ فأصحاب البشرة البيضاء هم الأسياد، أما السود، فهم مجموعة من البشر خلقهم الله لخدمة أسيادهم البيض.
وطبقاً لإيمان مجموعة كبيرة من البشر بذلك، عاش أصحاب البشرة السوداء قروناً تحت سُخرة البيض؛ إذ كانوا يُستغلون في عدة أماكن مثل العمل بالحقول والخدمة في المنازل، وحتى بصالات المقامرة، فكان كل سيد يراهن بأن خادمه سوف يهزم خادم سيد آخر في حلبة الملاكمة، أو السباق.
سنعرض لكم في هذا التقرير نموذجاً آخر من نماذج العنصرية، التي كان يمارسها الأثرياء البيض ضد السود، وخاصة المُستعمرين في البلدان الإفريقية، ألا وهو حديقة الحيوان البشرية.
ما حديقة الحيوان البشرية؟!
من المعهود أن نسمع دائماً عن "حديقة الحيوان" التي توضع بداخلها الحيوانات داخل أقفاص حتى يشاهدها ويداعبها الزوار، ولكن في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ازدياد نفوذ الاستعمار الغربي لإفريقيا،
ظهرت "حديقة الإنسان" حيث يُوضع المواطنون أصحاب البشرة السوداء في أقفاص ويأتي الزوار لكي يشاهدوهم، وذلك لأسباب عديدة؛ أهمها أن هؤلاء كانوا يؤدون طقوساً ثقافية ترتبط بمجتمعهم الأصلي وثقافتهم الإفريقية؛ من أجل إمتاع الزوار، وأحياناً كانت تُقام هذه الحدائق من أجل بيع العبيد.
انتشرت هذه الحدائق في أماكن كثيرة، سواء بالعواصم الأوروبية مثل العاصمة البريطانية لندن، والعاصمة الفرنسية باريس، أو في البلاد الإفريقية المحتلة من قِبل إحدى الدول الأوروبية، ومنها أنغولا على سبيل المثال.
وأُطلق على هذه الحدائق اسم "Humans Zoo"، أو حديقة الحيوان البشرية، وفي بعض الأحيان الأخرى عندما كان أَسرى تلك الحدائق يؤدون طقوساً ورقصات لها علاقة ببلدهم الأم داخل الأقفاص؛ كان يطلق عليه اسم "Ethnological Expositions" أو معرض الأعراق.
وفي
بعض الأحيان، لم يكن يعلم أصحاب البشرة السوداء سبب وجودهم داخل تلك الأقفاص، وكل ما كانوا يرونه كل يوم هو مجموعة من الوجوه البيضاء تحدق فيهم، وتنظر إليهم بنظرات مليئة بالتعجب أو الشفقة أو الفضول، و أحياناً بالاشمئزاز.
حدائق الحيوان البشرية عبر التاريخ
كانت المبادرة الأولى لإنشاء هذا النوع من الحدائق من عائلة "ميديشي" الأوروبية الشهيرة في القرن السادس عشر، وأُسست أول حديقة في الفاتيكان بإيطاليا، وكانت من كبرى حدائق الحيوان البشرية التي عرفها التاريخ. وإلى جانب المجموعات البشرية المنتمية إلى عروق مختلفة مثل الهنود والأفارقة، جمعت العائلة الكثير من الحيوانات الغريبة على المنطقة الأوروبية، بالإضافة إلى مجموعة من الحيوانات التي كانت عرضة للإنقراض آنذاك، وتعتبر تلك الحديقة أيقونة مهمة من تاريخ النهضة الأوروبية في ذلك العصر.
بعد ذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، انتشرت الفكرة بشكل أوسع؛ بسبب النفوذ الذي اكتسبه الأثرياء البيض نتيجة للاستعمار الغربي لكثير من دول إفريقيا وآسيا وأميركا.
لم يُوضع البشر داخل الأقفاص فقط؛ بل أحياناً كانوا يوضعون في بقعة تمتد أمتاراً، تُحاط بسياج أو بأسلاك، ومن الداخل كانت هذه البقعة تحتوى على كل ما يوجد من أساليب حياة استخدمها هؤلاء العبيد للمعيشة في موطنهم الأصلي؛ وذلك حتى يتمكن الزائر من معرفة كيف كان يعيش هؤلاء، وكان يُفرض عليهم الرقص أو فعل التعابير والحركات التي تعبر عن ثقافة موطنهم لإمتاع الزوار.
كانت هناك بعض حدائق الحيوان البشرية المتنقلة مثل السيرك، بمعنى أنه كان يوجد سيد يمتلك مجموعة كبيرة من العبيد من بيئات مختلفة، وأماكن متعددة ويمتلكون ثقافات متباينة، ويهبطون إلى إحدى القرى أو المدن، ومن ثم تُنصب الحديقة التي تحتوي على الكثير من الدوائر وكل دائرة محاطة بسياج بداخلها مجموعة من البشر تؤدي طقساً معيناً أو رقصة، ويأتي أهل المدينة للمشاهدة والاستمتاع مقابل المال.
على الرغم من ازدهار الفكرة بشكل كبير في بداية القرن العشرين مع انتشار الجرائد المطبوعة، التي كانت تُوضع بها إعلانات لتلك الحدائق، بدأت الفكرة بالاضمحلال مع الوقت نتيجة لمهاجمة بعض المفكرين والساسة والصحفيين.
ومن أبرز ما كُتب لنقد هذه الحدائق،
مقال نُشر منذ نحو 150 عاماً في جريدة النيويورك تايمز الأميركية عن شخص يدعى
أوتا بينغا، وهو أنغولي وُضع في أحد الأقفاص مع قرد؛ وذلك لأنه كان يعاني الإعاقة الذهنية التي أثرت على شكله وطريقة كلامه التي كانت تضحك الزوار، ومع الوقت بدأت حالته الصحية تسوء يوماً بعد يوم، إلى أن كتبت عنه الصحيفة الأميركية مقالاً شهيراً، ولعل أفضل جملة كُتبت في هذا المقال كانت: "في الوقت الذي نُرسل فيه مُبشرين لإفريقيا لنشر المسيحية، نأتي ببعض سكانها لنمارس العنف ضدهم!".