قراءات الشتاء: أحمد العلاونة وصور ثرثارة!
نتعارف اليوم مع كتاب «شعراء يرسمون وقصائد تتكلم». والكتاب لأحمد العلاونة يضم صورا لأدباء وشعراء، وقد قاموا بالتعليق على صورهم في بيتين من الشعر أو أكثر..
وعلى سبيل المثال، يقول الشاعر اللبناني الشهير الأخطل الصغير، كما لقبوه (1885 ـ 1968)، معلقا على صورته الشخصية:
سوف تُبقي يا رسم ذكرى الصبا ما/دمتُ حيا ودمتَ غض الإهاب. والكتاب صدر عن المجلة العربية السعودية ـ الرياض ـ ورئيس تحريرها الأستاذ محمد بن عبد الله السيف، وهو «كتاب الشهر» الذي دأبت المجلة على إصداره مع كل عدد جديد من المجلة وتوزيعه معها مجانا في بادرة تُشكر عليها وعلى حسن اختيارها لكتاب العدد.
طريف قريب إلى النفس
كلمة غلاف الكتاب تصفه أصدق وصف دونما مبالغة ـ كما يحدث أحيانا ـ وجاء فيها: «موضوع هذا الكتاب طريف وحيوي وقريب إلى النفس، اختار فيه المؤلف (أحمد العلاونة) عينة من شعراء العرب المعاصرين مذيلة بتعليقاتهم الشعرية على صورهم.
ومن أسرار حيوية الكتاب تنوع قراءات الشعراء لذواتهم وكأنهم يعيدون استكشافها من جديد، بأفكار وخبرات وصور عميقة منحتهم إياها الأيام والتجارب».
الدكتورة نادية غازي العزاوي، التي يدعوها المؤلف (بأستاذتي)، قدمت للكتاب بكثير من العمق وسعة المعرفة. ومما جاء في تقديمها قول إبراهيم الكوفجي عن صورته في لقطة شعرية بليغة مكثفة ـ كما تصفها الدكتورة نادية العزاوي:
أحدق في المرآة أنظر لا أرى/ملامح وجهي الذي كنت أبصر..
فلولا بقايا كبرياء وعزة/
لأنكرته، إن الزمان يغيّر.
ويقول سعيد الشرتوني في «معجم صور الشعراء»:
يحاول المرء في الدنيا البقاء وما/
تفوتُ قدرته تصوير تمثال/
والرسم يبقى زمانا بعد صاحبه/
دليل عجز وهاكم شاهد الحال/
يتصورون وينطقون بفم الصورة
هذا الكتاب يجمع في سطوره فوائد العلم ومتعة الشعر والطرافة. «وقد حرصت على الفائدة والمتعة معا بحيث لا يمل القارئ». وقد نجح المؤلف في ذلك.
ومن طرائف الكتاب أن المؤلف أحمد العلاونة، إذ طلب منه العلامة الراحل صبحي البصام أن يرسل له صورته أرسلها العلاونة للبصام، وما كان منه إلا أن علق عليها شعرا بدلا من التعليق على صورة له!
وقال في صورة العلاونة:
مخايل دقت في محياه خلتها/
رموزا ولكن بالشهامة تنطق.
وأضاف البصام: «وهو بيت يصدق في صورتك». الصور ثرثارة بشيم صاحبها شرط أن يأتي من يسمع صوتها!
النخلة العراقية: بلقيس الراوي
زوجة نزار قباني العراقية خارقة الجمال، بلقيس الراوي، من النساء القليلات، نشرت صورتها في الكتاب جميلة ومؤثرة، ومعها بعض السطور من نزار عنها، حيث رثاها بقصيدة مطولة جعل منها كتابا وأثبت لها صورا فيه ومن قصيدته «ذات الظفيرة» تحت صورتها: بلقيس/يا كنزا خرافيا/ويا رمحا عراقيا/وغابة خيزران/يا من تحديت النجوم ترفعا/من أين جئت بكل هذا العنفوان؟ ومن المعروف أن بلقيس قتلت شابة بحادثة تفجير السفارة العراقية في بيروت وكانت تعمل فيها.
أهل العراق، أهل الوفاء
كانت بلقيس الراوي جميلة جمالا إنسانيا داخليا أولا، وما زلت أفتقد صداقتها ولهفتها لدعمي. وذات مرة، أيام الحرب الأهلية في لبنان، حاصرني الرصاص في «قصر الداعوق» وكان عليّ الذهاب في اليوم التالي إلى مجلة «الأسبوع العربي» لتسليم مقالي الأسبوعي، فما كان منها إلا أن قالت لي: أمليه علي وسأكتبه وأحمله إليهم.
وهكذا كان.
صور وذكريات
صور الأحباب وسواهم ثرثارة.. الكثيرون مثلي ستوقظ فيهم بعض تلك الصور ذكريات يحنون إليها، كذكرى بلقيس الراوي عندي. ومن التعليقات اللافتة على الصور قول شاعر:
المرء ضيف في الحياة وإنني/ضيف كذلك تنقضي الأعمار/فإذا أقمت فإن شخصي بينكم/وإذا رحلت فصورتي تذكار.
صورها قبل أن تنفجر!
بعض الذين علقوا على صورهم من الشعراء كانوا يعون أن الصورة تبقى ولكنهم سيرحلون مع الموت ذات يوم (مثلنا جميعا). وذكرني ذلك بأنني في زيارة إلى كربلاء والنجف توقفت طويلا أمام واجهة حانوت لمصور شعبي وقد كتب بطاقة مختزلة: الحياة فقاعة. فصورها قبل أن تنفجر! بهرتني هذه العبارة، ووجدتها قصيدة عميقة عن الحياة العابرة والصور التي وحدها تبقى، ولكثرة إعجابي بالعبارة دونتها في دفتر صغير أحمله معي باستمرار وصدّرت بها كتابي «اعتقال لحظة هاربة».
الشكر الدائم لنجم الدراجي
نجم الدراجي كتب لي قائلا إن الحانوت الذي وقفت أمامه، وصاحبه الذي سطر العبارة التي سحرتني، هو لشيخ المصورين في النجف المرحوم نوري الفلوجي. وصدرت منذ شهرين الترجمة الإنكليزية لكتابي «اعتقال لحظة هاربة» وقد قامت المترجمتان الدكتورتان ريم ورزان زهرا، الأستاذتان في جامعات كاليفورنيا، بترجمة عبارة نوري الفلّوجي وصدّرتا بها الصفحة الأولى في الكتاب، كما فعلت في النسخة العربية. تُرى هل كان الرائع المرهف نوري الفلوجي يخطر بباله حين ألصق هذه الكلمات على نافذة حانوته المغبرة أن العمق الشعري فيها سيطير بها من النجف إلى قارة أخرى وستتصدر كتابا؟
كتاب العلاونة وقصائدهم
كل صورة ثرثارة بمعنى أن لا تكتفي بما يقوله صاحبها، بل توقظ في نفوسنا أصواتا كثيرة أخرى.. ومن الواضح أن العلاونة تعب في جمع مواد كتابه، ونجح في جعله عميقا وطريفا يجتذبنا لقراءته.
وهكذا يسجل العلاونة غارة أخرى من غاراته الجميلة في هيكل الأبجدية العربية.