تاريخية المهابهارتا
For historical context of the tale, see Kingdoms of Ancient Indiaخريطة
"بهاراتڤارشا" (مملكة الهند) وقت
المهابهاراتا ورامايانا. (العنوان والموقع مكتوبان
بالإنجليزية.)
لم يكن موضوع القصيدة الأساسي مقصوداً به الإرشاد الديني بمعنى الكلمة الدقيق ، لأنها تقص قصة عنف ومقامرة وحروب ، فيقدم الجزء الأول من القصيدة "شاكونتالا" الجميلة (التي أريد لها أن تكون بطلة في أشهر مسرحية هندية) وابنها القوي (بهارفا) ؛ الذي من أصلابه جاءت قبائل (بهاراتا العظيم) (أي
الماهابهاراتا) وقبائل كورو وباندافا التي تتألف من حروبها الدموية سلسلة الحكاية ولو أنه كثيراً ما تخرج الحكاية عن موضوعها لتعرج على موضوعات أخرى ؛ فالملك "يوذسشيرا" - ملك البندافيين - يقامر بثروته حتى تضيع كلها ، ثم بجيشه وبمملكته وبإخوته وأخيراً بزوجته "دراوبادي" وكان في هذه المقامرة يلاعب عدواً له من قبيلة كورو ، كان يلعب بزهرات مغشوشة ، وتم الإتفاق على أن يسترد الباندافيون مملكتهم بعد إثني عشر عاماً يتحملون فيها النفي من أرض وطنهم وتمضي الإثنا عشر عاماً ، ويطالب الباندافيون أعداءهم الكوريين برد أرضهم ، لكن لا جواب ، فتعلن الحرب بين الفريقين ويضيف كل فريق إلى نفسه حلفاء حتى تشتبك الهند الشمالية كلها تقريباً في القتال وتظل الحرب ناشبة ثمانية عشر يوماً ، وتملأ من الملحمة خمسة أجزاء ، وفيها يلاقي الكوريون جميعا مناياهم ، كما يقتل معظم الباندافيين فالبطل (بهشما) وحده يقتل مائة ألف رجل في عشرة أيام ، ويروي لنا الشاعر الإحصائي أن عدد من سقط في القتال قد بلغ عدة مئات من ملايين الرجال ؛ وتسمع "جانذاري"- الملكة زوجة ملك كورو الأعمى وإسمه "ذريتا راشترا" - تسمعها وسط هذا المشهد الدامي المترع بمناظر الموت ، تصرخ جازعة عندما تبصر العقبان محومة في لهفة الشره فوق جثة ابنها الأمير "درْيوذان":
ملكة طاهرة وامرأةٌ طاهرة ، فاضلة أبداً خيِّرةٌ أبداً
هي "جانذارا" التي وقفت وسط الميدان شامخة في حزنها العميق
والميدان مليء بالجماجم ، وجدائل الشعر إنعقدت عليها الدماء ،
وقد اسود وجهه بأنهار من دم متجمد ؛
والميدان الأحمر مليء بأطراف من لا يحصيهم العد من المقاتلين...
وعواء أبناء آوي الطويل المديد يرن فوق منبطح الأشلاء
والعُقاب والغراب الأسحم يرفرفان أجنحة كريهة سوداء
وسباع الطير تملأ السماء طاعمة من دماء المحاربين
وجماعات الوحش البغيضة تمزق الأجساد الملقاة شلوا شلوا
سيق الملك الكهل في هذه الساحة، ساحة الأشلاء والموت
ونساء كورو بخطوات مرتعشة خطون وسط أكداس القتلى
فدوت في أرجاء المكان صرخات عالية من جزع
عندما رأين القتلى أبنائهن وآبائهن وأخوتهن وأزواجهن
عندما رأين ذئاب الغابة تطعم بما هيأ لها القدر من فرائس
عندما رأين جوَّابات الليل السود ساعيات في ضوء النهار
ورنت أرجاء الميدان المخيف بصرخات الألم وولولة الجزع
فخارت منهن الأقدام الضعيفة، وسقطن على الأرض
وفقد أولئك الراثيات كلَّ حسٍّ وكل حياة، إذ هن في إغماءة من حزن مشترك.
ألا إن الإغماءة الشبيهة بالموت ، التي تعقب الحزن ، فيها لحظة قصيرة من راحة للمحزون.
ثم إنبعثت من صدر "جانذاري" آهةٌ عميقة من قلب مكروب ونظرت إلى بناتها المحزونات ، وخاطبت كرِشنا قائلة:
"أنظري إلى بناتي اللائي ليس لهن عزاء ، أنظري إليهن وهن ملكاتٌ أرامل لبيت كورو.
أنظري إليهن باكيات على أعزائهن الراحلين ، كما تبكي إناث النسور ما فقدت من نسور
أنظري كيف يثير في قلوبهن حب المرأة كلُّ قَسْمة من هاتيك القسمات الباردة الذاوية
أنظري كيف يجبن بخطوات قلقة وسط أحساد المقاتلين وقد أخمدها الموت
وكيف تضم الأمهات قتلى أبنائهن إذ هم في نومهم لا يشعرون
وكيف تنثني الأرامل على أزواجهن فيبكين في حزن لا ينقطع ...
هكذا جاءت الملكة "جانذاري" لتبلّغ "كرِشْنا" حزين أفكارها؛
وعندئذ - واحسرتاه - وقع بصرها الحائر على إبنها "درْيوذان"
فأكل صدرها غمٌّ مفاجئ ، وكما زاغت حواسُّها عن مقاصدها
كأنها شجرة هزتها العاصفة ، فسقطت لا تحس الأرض التي سقطت عليها ؛
ثم صحت في أساها من جديد ، وأرسلت بصرها من جديد
إلى حيث رقد إبنها مخضباً بدمائه يلتحف السماء
وضمت عزيزها درْيوذان ، ضمته قريباً من صدرها
وإذ هي تضم جثمانه الهامد اهتز صدرها بنهنهة البكاء
وإنهمرت دموعها كأنها مطر الصيف، فغسلت به رأس النبيل
الذي لم يزل مزدانا بأكاليله ، لم يزل تكلله أزاهير المشكا ناصعة حمراء
"لقد قال لي إبني العزيز درْيوذان حين ذهب إلى القتال، قال:
"أماه ادْعي لي بالغبطة وبالنصر إذا ما اعتليت عجلة المعمعة"
فأجبت : عزيزي درْيوذان: "اللهم - يا بني - إصرف عنه الأذى
ألا إن النصر آت دائماً في ذيل الفضيلة"
ثم إنصرف بقلبه كله إلى المعركة ، ومحا بشجاعته كلَّ خطاياه
وهو الآن يسكن أقطار السماء حيث ينتصر المحارب الأمين
ولست الآن أبكي دريوذان ، فقد حارب أميراً ومات أميراً
إنما أبكي زوجي الذي هده الحزن ، فمن يدري ماذا هو ملاقيه من نكبات؟
"إسمع الصيحة الكريهة يبعثها أبناء آوي، وأنظر كيف يرقب الذئاب الفريسة -
وأرادت العذارى الفاتنات بما لهن من غِناء وجمال أن يحرسنه في رقدته،
إسمع هاتيك العقبان البغيضة المخضبة مناقيرها بالدماء ، تصفق بأجنحتها على أجسام الموتى -
والعذارى يلوحن بمراوح الريش حول درْيوذان في مخدعه الملكي
أنظر إلى أرملة درْيوذان النبيلة، الأم الفخورة بابنها الباسل لاكشمان
إنها في جلال الملكة شباباً وجمالاً ، كأنها قُدّتْ من ذهب خالص
إنتزعوها من أحضان زوجها الحلوة ، ومن ذراعي ابنها يطوقانها
كتب عليها أن تقضي حياتها كاسفة حزينة ، رغم شبابها وفتنتها
ألا مزق اللهم قلبي الصلب المتحجر ، وإسحقه بهذا الألم المرير
هل تعيش "جانذاري" لتشهد ابنها وحفيدها النبيلين مقتولين؟
وانظر مرة أخرى إلى أرملة درْيوذان ، كيف تحتضن رأسه الملطخ بدمه الخاثر
انظر كيف تمسك به على سريره في رفق بيدين رقيقتين رحيمتين
انظر كيف تدير بصرها من زوجها العزيز الراحل إلى ابنها الحبيب
فتختنق عبرات الأم فيها أنّةَ الأرملة وهي أنَّةٌ مريرة
وإن جسدها لذهبي رقيق كأنه من زهرة اللوتس
أواه يا زهرتي ، أواه يا ابنتي، يا فخر "بهارات" ويا عز "كورو"
ألا إن صدقتْ كتب الفيدا ، "فدريوذان" الباسل حي في السماء
ففيم بقاؤنا على هذا الحزن ، لا ننعم بحبه العزيز؟
إن صدقت آيات "الشاسترا" فابني البطل مقيم في السماء
ففيم بقاؤنا في حزن مادام واجبهما الأرضي قد تأدَّى.
فالموضوع موضوع حب وحرب ، لكن آلاف الإضافات زيدت عليه في شتى مواضعه ؛ فالإله "كرشنا" يوقف مجرى القتال حيناً بقصيدة منه يتحدث فيها عن شرف الحرب و"
كرِشنا" و"بهشْما" وهو يحتضر ، يؤجل موته قليلاً حتى يدافع عن قوانين الطبقات والميراث والزواج والمِنَح وطقوس الجنائز ، ويشرح فلسفة كتب "
السانخيا" و "
يوبانشاد" ويروي طائفة من الأساطير والأحاديث المنقولة والخرافات ، ويلقي درساً مفصلاً على "
يودشثيرا" في واجبات الملك ؛ كذلك ترى أجزاء مُعْفَرَّة جدباء في سياق الملحمة تقص شيئاً عن الأنساب وعن جغرافية البلاد وعن اللاهوت والميتافيزيقا ، فتفصل بين ما في الملحمة من رياض نضرة فيها أدب مسرحيٌّ وحركة.
وفي ملحمة "الماهابهاراتا" حكاية جامحة الخيال ، وقصص خرافية ، وغرامية ، وتراجم للقديسين ، فيتعاون كل هذا على جعل الملحمة أقل قيمة في صورتها الفنية ، وأخصب فكراً ، من الإلياذة أو الأوذيسية ؛ فهذه القصيدة التي كانت في بادئ أمرها معبرة عن طبقة الكشاترية (المحاربين) من حيث تبجيلها للحركة والنشاط والبطولة والقتال ، قد أصبحت على أيدي البراهمة أداة لتعليم الناس قوانين "
مانو" ومبادئ "
اليوجا" وقواعد الأخلاق وجمال
النرفانا ؛ وترى "القاعدة الذهبية" معبَّراً عنها في صور كثيرة وتكثر في القصيدة الحِكَم الخلقية ذات الجمال وصدق النظر وفيها قصص جميلة عن الوفاء الزوجي ("نالا" و "دامايانتي" و "سافترْي") تصور للنساء اللائي يستمعن لها ، المثل العليا البرهمية للزوجة الوفية الصابرة. وفي غضون الرواية عن هذه المعركة الكبرى ، بُثت قصيدة هي أسمى قصيدة فلسفية يعرفها الشعر العالمي جميعاً ، وهي المسماة "بهاجافاد - جيتا" ومعناها (أنشودة المولى) ، وهي بمثابة "العهد الجديد" في الهند ، يبجلونها بعد
كتب الفيدا نفسها ، ثم يستعملونها لحلف الأيمان في المحاكم كما يستعمل الإنجيل أو القرآن ؛ ويقرر "
ولهلم فون همبولت" أنها "أجمل أنشودة فلسفية موجودة في أي لغة من اللغات المعروفة ، وربما كانت الأنشودة الوحيدة الصادقة في معناها.