يكاد لايوجد بيت فلسطيني إلا واعتقل أحد أبنائه: تاريخ الحركة الأسيرة بدأ منذ النكبة الفلسطينية في 1948
رام الله ـ «القدس العربي»: بدأت الحركة الأسيرة في فلسطين كتابة تاريخها منذ أن حلت النكبة بفلسطين، عندما احتلتها إسرائيل في العام 1948. وحسب السجلات فقد اعتقل أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني وخاضوا تجربة الأسر على مدار سنين الصراع الطويلة مع الاحتلال الإسرائيلي والحركة الصهيونية. واعتبرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 وسنوات الانتفاضة الثانية التي انطلقت عام 2000، من أصعب المراحل التاريخية حيث تعرض الشعب الفلسطيني خلالها لعمليات اعتقال عشوائية طالت الآلاف من أبناء وبنات هذا الشعب بالإضافة إلى عام 2015- 2016 وتحديدا ًمنذ بداية الهبة الشعبية.
واعتبرت تجربة الحركة الأسيرة من التجارب الرائدة وحافلة العطاء على مدار سنين الصراع مع الاحتلال، ونجحت في إخراج عدة مدارس فكرية رغم قسوة الحياة الاعتقالية، لكن ذلك نجح بتحويل المعتقلات لتكون مدرسة تخرج منها آلاف الكوادر الحزبية المنظمة.
وفي بدايات الثورة الفلسطينية ركزت الحركة على البعد التوعوي والتربوي الأمر الذي أسهم في صقل الطاقات وتهذيبها بشكل أتاح الفرصة لبناء الكادر القادر على القيادة وتحمل المسؤوليات في ظل ظروف اعتقالية قاسية كان طابعها العام المواجهة الدائمة والمستمرة مع إدارة السجون، وهذا بطبيعة الحال كان له استحقاقات سددها الأسرى بالمعاناة والتحدي لأبشع قوة احتلالية إحلالية، حتى أرسوا دعائم وأسس الحركة الفلسطينية الأسيرة، في ظل غياب الإعلام القادر على رفع صوت الحركة الأسيرة في وجه الغطرسة الإسرائيلية.
واتبعت حكومة الاحتلال الإسرائيلي بعد احتلال باقي فلسطين في 1967 كل الأساليب الممكنة لأجل تحقيق هدفها في تطويع المناضل الأسير لاخضاعه تمهيداً لشطبه وطنياً وإنسانياً، فسياسة الاستنزاف العصبي المرهق وسياسة التجويع النفسي والمادي والحرمان المطلق من كل الضرورات الأولية لحياة بشرية معقولة، وسياسة الاسقاط الوطني والاستهداف الأمني، وسياسة التجهيل الثقافي وغيرها دل كل هذا على أن السجن في المفهوم الإسرائيلي هو أداة لقمع ومواصلة قمع مقاومة الشعب الفلسطيني المحروم من حقوقه الإنسانية والسياسية، وهي ذات السياسة التي أجبرت الأسرى الفلسطينيين هذه الأيام من خوض إضراب جديد عن الطعام ضد سياسيات مصلحة السجون.
وورث الاحتلال الإسرائيلي السجون أو معظمها من الانتداب البريطاني بعد سقوط الضفة الغربية والقدس تحت الاحتلال فيما اضطلح على تسميته بالنكسة. وتحولت تلك السجون إلى مراكز لشن العنف ضد الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة بهدف إبادته عبر وسيلة أخرى غير حبل المشنقة هي وسيلة الاعتقال وسياسة الموت البطيء للأسرى. وكان موشي ديان أحد أعمدة الاحتلال قد وعد بتحويل المعتقلين في السجون إلى حطام وكائنات لا تمت للبشرية بأية صلة كائنات مفرغة من كل مظهر إنساني تشكل عبئاً على نفسها وشعبها.
وبعد انطلاق الانتفاضة الأولى زج الاحتلال بالآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في السجون واضطرت حكومة إسرائيل إلى ترميم السجون القديمة؛ لزيادة قدرتها الاستيعابية وأقامت العديد من مراكز ومعسكرات الاعتقال الجديدة كأنصار 3 في النقب، وعوفر في بيتونيا وسالم وحوارة في نابلس وقادوميم في طولكرم، وحولت سجن الفارعة خلال الانتفاضة الأولى من اصطبل للخيل في العهد البريطاني إلى مركز للتحقيق وحولت سجن الدامون الذي كان يستخدم كمستودع للدخان في العهد البريطاني إلى سجن.
وحسب إحصائيات مؤسسات حقوق الإنسان قدر عدد حالات الاعتقال حتى العام 1987 بنصف مليون حالة أي بمعدل 27 ألف حالة أسر سنوياً في حين يقدر عدد الفلسطينيين الذين تم أسرهم منذ بداية الانتفاضة الأولى وحتى نهاية عام 1994 بحوالي 275 ألف فلسطيني فيكاد لا يكون هناك بيت فلسطيني إلا واعتقل أحد أبنائه. لكن الاحصاءات الحديثة أكدت أن سلطات الاحتلال نفذت مليون حالة اعتقال للفلسطينيين منذ احتلال البلاد.
واستخدم الاحتلال العنف والاعتداء على الأسرى والأسيرات منذ بداية الاعتقال. ولم يقتصر الأمر على الاعتداء الجسدي فأساليب الإذلال التي نفذها السجانون كانت أشد وقعاً من الاعتداء بهدف كسر روح السجين، وتحطيم نفسيته وتحويله مجرد عبد لا قيمة له. وكان الأسرى يمنعون من إطلاق شعر الرأس والشارب ويجبرون على حلاقة ذقونهم مرتين أسبوعياً بشفرة حلاقة واحدة توزع على خمسة أسرى. إضافة إلى الإذلال المتبع في طريقة استحمام الأسرى بإجبارهم على الخروج عراة من غرفهم إلى حمام خارجي وإلزامهم إحناء الرأس أثناء قيام شرطة السجن بإجراء العدّ اليومي، وشملت سياسة الإذلال إخراج الأسرى في ساحة الفورة «النزهة» والأيدي متشابكة منتصف الظهيرة والجلوس قرفصاء في الساحة.
وكان الحصار الثاني الذي فرضته سلطات السجون الإسرائيلية على الأسرى متمثل في الحصار الثقافي لهم عبر منعهم من الحصول على الأقلام والدفاتر والكتب وإجبارهم على سماع الإذاعة الإسرائيلية في أوقات محددة، ولم يسمح لهم بقراءة الصحف سوى صحيفة الأنباء التي كانت تصدر عن أجهزة المخابرات الإسرائيلية وكان الأسير الذي يتم ضبط قلم أو ورقة معه يعاقب في زنزانة انفرادية. وكان أشدّ الأساليب خطورة هي سياسة الإفراغ الثقافي والفكري من خلال ترويج كتب ثقافية فارغة المضمون داخل السجون.
واتبعت سلطات السجون بقرار مباشر من حكومة الاحتلال سياسة الإهمال الطبي بشكل منظم، وهي احد أهم طلبات الأسرى المضربين عن الطعام في الإضراب الحالي المستمر. وكانت حبة الأكامول هي العلاج لكل الأمراض. وقد استشهد العديد من الأسرى بسبب عدم وجود عناية طبية، وحمل الكثير من الأسرى المحررين أمراضاً مزمنة معهم، واستشهدوا بسببها بعد الإفراج. ولعب الجهاز الطبي لمصلحة السجون حاجة الأسرى للعلاج لمساومتهم على شرفهم الوطني إضافة إلى مساهمته في قتل عدد من الأسرى، كما حصل مع الشهيدين علي الجعفري وراسم حلاوة إثر اضراب سجن نفحة عام 1980 وقد كشفت الصحافة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة عن ألف تجربة طبية قامت بها حكومة إسرائيل وبشكل سري على المعتقلين الفلسطينيين في السجون.
أما سياسة العزل الانفرادي هي الأخرى فقد واجهها الأسرى بأكثر من شكل. تقوم هذه السياسة على عزل الأسرى النشطاء أو ما تطلق عليه إدارة السجون «ذوي الرؤوس الحامية». وكانت سياسة تعذيب المعتقلين سياسة ممنهجة وثابتة بأساليب محرمة دولياً، حيث تعرض المعتقلون لمعاملة قاسية وعنيفة على يد المحققين الإسرائيليين. وامتلأت تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية بشهادات مشفوعة بالقسم عن حالات تعذيب وحشية تعرض لها الأسرى والأسيرات على أيدي المخابرات الإسرائيلية. وأصبح التعذيب قانوناً مشرعاً لدى حكومة إسرائيل وفق تقرير لجنة «لنداو» عام 1978 والتي أجازت استخدام الضغط الجسدي والنفسي مع المعتقلين. ولم تراع حكومة إسرائيل القوانين الدولية، واتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة التي تحرم التعذيب وتعتبره جريمة حرب.
وشهدت السجون أكثر من إضراب عن الطعام ضد السياسات الإسرائيلية بحق الأسرى. واعتبر اضراب سجن عسقلان التاريخي عن الطعام في الحادي عشر من ديسمبر من العام 1976 الذي استمر 45 يوماً نقلة نوعية في مسيرة الاعتقال نحو تحسين شروط الحياة في المعتقلات ومظهراً من مظاهر نضوج التجربة وترسيخ المؤسسة الاعتقالية القائدة في السجون، وقد اعتبر الإضراب ملحمة جماعية وضعت حجر الأساس للنضال الاعتقالي الشامل، المبني على أسس تنظيمية راسخة ولأول مرة يرافق هذا الاضراب تفاعل شعبي جماهيري خارجي مناصر لمطالب الأسرى.
وشهد سجن نفحة وسجن جنيد في نابلس إضراباً مفتوحا عن الطعام وشكل نقطة تحول جذري في حياة الحركة الأسيرة. وبدأت مرحلة تحقيق المنجزات والحقوق الإنسانية للأسرى إذ رافق هذين الإضرابين تفاعل شعبي وجماهيري خارجي مساند لمطالب المعتقلين إضافة إلى مشاركة ومساندة بالاضراب في كافة السجون الأخرى. وتم تركيب الأسرة للمعتقلين بدلاً من فرشات الأسفنج الركيكة وإدخال أجهزة الراديو وإنهاء سياسة الاعتداء على الأسرى وإذلالهم وتحسين الطعام وتغيير نظام الزيارة ليصبح مرة كل أسبوعين بدلاً من كل شهر والسماح بالحركة داخل السجن بالتزاور بين الغرف والأقسام، وإنهاء الازدحام في الغرف، وإدخال الملابس وتحسين التهوية، والإنارة. وأعاد هذين الإضرابين الهيبة للحركة الأسيرة، وأدى إلى الاعتراف بشرعية المؤسسة الاعتقالية.
وخططت إسرائيل مراراً وتكراراً لضرب الحركة الأسيرة في محاولة لتقويض منجزاتها، وتقوم إسرائيل بذلك عادة عندما تتنصل مصلحة السجون من وعودها بتحسين ظروف الحياة داخل السجون ووقف تصعيد إجراءاتها التعسفية تجاه الأسرى. وفي العام 1992 أعلن الأسرى مجدداً الاضراب المفتوح عن الطعام والذي شمل لأول مرة كافة السجون واستمر 15 يوماً حيث شارك فيه 16 سجناً. وقد حقق هذا الاضراب العديد من المنجزات المادية والمعنوية، وشكل انتصاراً على المخططات الإسرائيلية، التي كانت تتأهب للانقضاض على وحدة الحركة الأسيرة وحقوقها.
واستمرت معارك الإضرابات للأسرى الفلسطينيين عن الطعام بل أنها تطورت على شكل إضراب فردي، خاصة ضد سياسة الاعتقال الإداري كسياسة إسرائيلية مبرمجة ضد الشعب الفلسطيني. وخاص العديد من الأسرى إضرابات أثمرت عن تحرر بعضهم والوصول إلى اتفاقات جديدة مع البعض الآخر.