رسالة إلى طيور الرعد
غاندي حنا ناصر
من كل ضواحي العمر كنت تحاصرني بأسرك من دون أن تعلم.
كنت تُؤسر هناك وأحترق هنا في هذا الوطن المهجور الا من ساكنيه. يضعون في معصميك الحرتين طوق حديد في حركة ساذجة ليبرهنوا لأنفسهم أنهم قادرون على الفعل فيك وفي وطن أعجزهم دوما بشموخه وتعاليه، وبنظرتك المخترقة لجثة انسان بداخلهم كنت تحوّل سجّانك من قاتل إلى قتيل. في حضرة الأسير، يأخذني شعور مستمر بأن شيئا في داخلي يبحث عن موسم للحصاد علّ هذا الأخير يجتثّ كل سنابل الحرقة والألم التي تنغرس قسرا بداخلي.
في حضرتك سيدي أدرك أن بين الأسير والشهيد مسافة موت مؤجل. الشهيد يعطي عمره للوطن مرة واحدة ويتألم مرة واحدة ثم يزهر؛ أما الأسير فيهدي عمره للوطن في كل لحظة ويزهر بين اللحظة واللحظة مئات المرات. كما جعلتني أدرك أن بينك وبين اعمارنا المهترئة مسافة كرامة، ترتفع أنت بها ونُسحق نحن بها، فكرامتك أسقطت الزيف عن قناعاتنا، فأنت من داخل زنزانتك تحفظ كرامة وطن بأكمله أما نحن فمن داخل بلداننا لسنا قادرين حتى على حفظ صورة الوطن المحتل وندوس على كرامتنا مع كل أسير يُؤسر بلامبالاة سافرة.
أمام قامتك الشامخة دوما كجبل لا يريد ان ينقضّ أسقط خجلا وتتناوب أقدام العدم بالدوس على جسدي الذي هوى في حضرتك.
يعتقد الإسرائيلي – ومن سخف اعتقاده – انه في لحظة الاعتقال يكون قد أمّن نفسه وحقق أحد مبررات اغتصابه للوطن لكنه، ومن دون أن يدري، يثبت في الوقت ذاته خوفه وضعفه وعجزه.
خوفه؛ لأن الاعتقال ما هو الا تعبير عقيم عن الخوف الذي يقوده لسجن من يخيفه علّه يشعر بالأمان المؤقت.
أما عجزه؛ فلأن الاعتقال لن يحقق له أمنا أكثر ولا احتلالا انعم بل ما يفعله هو محاولة عاجزة لكبح الروح الوطنية التي تزيد لهيبا باعتقال أكثر. وأما ضعفه؛ ففي الاعتقال المبالغ والمتواصل والمكثف وغير المبرر دائما، ضعف المحتل غير القادر على تأمين احتلاله !.
أنت، ايها الأسير الشامخ دوما، اظهرت للعالم أن الهولوكوست ماهي الا تعلة يُذل بها الإسرائيلي العالم، فلو تذكّر للحظة صادقا وجه أمه وهي تتلوى في غرف الغاز في اوشفيتيز لتحرر من عقدة القيد والمجزرة.
لكن، لقدر حكيم عليم، فقد الإسرائيلي متانة خداعه للعالم بأسرك.
في غرفة التحقيق؛ يجادل العدو صمتك. يبحث في تفاصيله عن امل حقير ليبلغ عمق القضية المحفوظة بين جلدك ودمك.
يقارع العدو صمتك. يبحث في تفرعاته عن صوت لجبل، يسقط ان تكلم.
عذّب العدو صمتك. يبحث في جسدك عن استحقاق لاغتصابه ويحاول اقتلاع الاجابة منه فيُحرق الجسد عدوّه بصمت أبيّ.
سقط العدو امام الأسير منهكا، سائلا بهدوء اخير: ألن تتكلم؟
وصوت كالرعد شق سمع العدو «اذا نطق الحجر فسأنطق. أنا فلسطيني أقتلك مرتين؛ بصوتي خارج الزنزانة وبصمتي داخلها»
خارج الزنزانة وطن متعب وشعب عربي مُغيّب. داخل الزنزانة كان الجسد يحاصر جسده حتى لا يفقد دفّات الصمت، فجسده هو سور المدينة المقدسة وراحتاه حقول البرتقال الممتدة على ارض يافا وبداخله مواسم الزيتون واللوز العصيّين على زمن الاحتلال وبعينيه حدّة البرق لمّا يخطف بصر الناظر.
في صدره حفر خندقا للزمان حتى تفقد الساعات دقائقها وتعتزل المرور اللئيم على تفاصيل جسده.
عند قدميه يسقط العمر المعد للفرح الرخيص وينطلق عمر “المقاومة”.
في ظلمة أسره يوقد شموعا من جرحه المفتوح، فيعلم الموت كيف يعيش داخل الجرح. تحارب عدوّك بأسلحة هو لا يمتلكها فهو يشحن ترسانته العسكرية بالرصاص وأنت تشحن وجودك بالإرادة. يوهم نفسه أنه سرق حريتك وقيّدك، فقيّدته بصمتك لمّا أراد اقتلاع الاعتراف من جسدك ثم قيّدته بأمعائك الخاوية لمّا أعلنت إضرابك عن طعامه البائس فاستجاب لمطالبك قسرا.
تناضل الحركة الأسيرة امتدادا لحركة الوجود المقاوم خارج السجن فتُعلّم العالم كيف يفتكّ الأسير – وإن باستشهاده داخل الأسر في كثير من أزمان الإضراب عن الطعام أو التعذيب أو سوء الحال – حرّيته من بين أنياب عدوّه، تاركا خلفه وجعا ينتحر.
يمتلك الأسير الفلسطيني ما لا يمتلكه أسرى الحروب في كل دول العالم عبر التاريخ:
عزّة في قيده ونظرة تكسر عدوّه ومعصمين يستفزّان السجّان وقامة شامخة لم تنبغ لغير الأسير الفلسطيني.
في لحظة تحرّرك نسرق العمر زهرا لنتزيّن به يوم نلقاك.
في لحظة تحرّرك نخطف من البرق لمعة لتدمع محبة من مآقينا.
في لحظة تحرّرك سنهديك إخلاصا بعمق قاع لا ينتهي.
وإن غدا لناظره قريب ….. وإنني لأرى شمس الحرية قاب قوسين أو أدنى … لكم الشمس لكم القدس … ولكم النصر وساحات فلسطين.
كاتب فلسطيني