دور السينما في فلسطين التاريخية قبل زلزال النكبة
وديع عواودة
الناصرة ـ «القدس العربي»: رغم هول نكبة 1948 وتبعاتها المدمرة لا يمكن حصر تاريخ فلسطين بها وبخلاف المزاعم الدعائية الصهيونية هي لم تكن صحاري ومستنقعات، بل كانت مدنها منارة للثقافة والتطور بمختلف مناحي الحياة. الصحف الفلسطينية التي صدرت في فترة الاستعمار البريطاني عبارة عن مرآة تعكس ازدهار الحياة الثقافية التي دمرتها العصابات الصهيونية. في هذا المضمار على سبيل المثال يمكن تتبع السينما في المدن الفلسطينية وفق هذه الصحف وفي يافا وحدها قامت قبل نكبتها 17 دار سينما.
سينما «أوراكل»
ويستذكر المؤرخ بروفيسور مصطفى كبها في حديث لـ «القدس العربي» أن فلسطين عرفت العروض السينمائية منذ بداية القرن الماضي حيث تشير الكتابات التاريخية إلى أن أول دار عرض سينمائي ظهرت في فلسطين هي «أوراكل»، وذلك في مدينة القدس عام 1908. منوها إلى أنه في عهد الانتداب البريطاني، شهدت فلسطين زيادة ملحوظة في ظهور دور العرض السينمائي بالتزامن مع صدور القانون الخاص بالأشرطة السينمائية عام 1927، وكان يتضمن تعليمات بشأن شروط العرض والرقابة واستيراد الأشرطة السينمائية والدعاية للعروض. وفي الثلاثينات، انتشرت في المدن الفلسطينية الرئيسية مجموعة من صالات السينما المجهزة التي كانت تعرض الأفلام التجارية المصرية بشكل خاص على الجمهور، حيث عرضت أفلاماً عربية وأجنبية، ناطقة وصامتة.
أبرز دور السينما
وكانت في القدس صالات عديدة منها: صالة ركس، وأديسون، وأوريون، وريون، وفي حيفا: سينما الكرمل، يافا، وعين دور وآرمون، وفي يافا: سينما الحمراء، وفاروق الصيفي، ونبيل، وسينما الشرق، وسينما رشيد، وسينما أبولو، وفي عكا: صالة الأهلي، وسينما البرج. وينبه كبها أن حكومة الانتداب البريطانية سعت في تلك الفترة عبر قوانينها الصارمة إلى منع أي نشاط سينمائي يمكن أن يعطي صورة عن فلسطين وما يجري فيها بشكل لا يتوافق مع وجهة النظر السائدة في الغرب، والتي كونتها النزعة الاستشراقية المرتبطة بالاستعمار من جهة، والدعاية الصهيونية الناشطة آنذاك من جهة ثانية.
زلزال النكبة
ورغم وجود ظاهرة العروض السينمائية في وقت مبكر نسبياً في فلسطين، لم يقدر للسينما أن تتحول إلى ظاهرة ثقافية اجتماعية، ويشير كبها لعدة أسباب: سيادة بعض المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية التي كانت ترى في ظاهرة السينما بدعة غربية مفسدة للأخلاق. كما أن قوانين الاستعمار البريطاني ضيقت الخناق على دور السينما مثلما أثرت سلبا حالة الاضطراب السياسي والأمني علاوة على تدني الأحوال المادية. وأتت نيران النكبة على السينما الفلسطينية أيضا وغيبتها مدة طويلة حتى نهضت من جديد.
الفيلم الفلسطيني الأول
ويستدل من مراجعة الصحف الفلسطينية خاصة «فلسطين» وغيرها أن مشوار السينما الفلسطينية قد بدأ مبكرا حيث تم إعداد الفيلم الأول عام 1935 خلال زيارة الملك سعود لفلسطين، حيث بادر وقتها أحد هواة السينما من يافا إبراهيم حسن سرحان لتوثيق تحركات الضيف ولقاءاته. في مقابلة أجراها المُخرج السينمائيّ والكاتب الصحافيّ قاسم حول معه في لبنان أشار سرحان إلى أنّ الفيلم عُرِضَ في يافا وأنّه كان صامتًا، ولكنّه وضع في مكان العرض اسطوانة تُعطي مؤثّرات موسيقيّة، بحيث لم ينتبه أحد إلى أنّ الفيلم كان صامتًا. وقد كان الباحث عدنان مدانات قد ذكر في الموسوعة الفلسطينيّة أنّ سرحان قد اشترى كاميرا تُدار باليد، وقرأ كتبًا عن فنّ التصوير والعدسات والطبع والتحميض، وكان وحده يقوم بتطبيق ما يقرأ، ويصنع الأجهزة بنفسه، بما فيها حتّى طاولة المونتاج.
استوديو فلسطين
وترجع بنا المقابلة إلى الأربعينات من القرن الماضي، حين لم يكن يملكُ سرحان من المال سوى 15 جنيهًا فلسطينيًّا، إلا انه يريد أن يُسارع في تحقيق حلمه، فنشر في الصحف الفلسطينيّة إعلانًا عن افتتاح استوديو فلسطين، ويطلب فيه وجوهًا للسينما، ووردته حوالي 12 ألف رسالة، ومع كُل رسالة مبلغ الاشتراك، فتجمّع عنده ما بين 1800-200 جنيه، ومن هناك انطلق في تأسيس استوديو فلسطين، وفيه صنع بيديه طاولة بدائية للمونتاج. لم تكتف دور السينما بالإعلان عن عروض الأفلام في الصحف العربيّة اليوميّة أو حتّى في المجلّات الثقافيّة، بل كانت تطبع الإعلانات والملصقات بمختلف الأحجام وتعليقها في الأماكن العامة.
سينما الحمرا
وفي مدينة يافا أقيمت 17 دار سينما أشهرها سينما الحمرا التي أقيمت عام 1937 في شارع جمال باشا عام على يد مجموعة من رجال الإعلام، منهم محمد زكي عبده، ورضوان الحلّاق، ومحمد سعيد العدلوني ومحمّد موسى الحُسيني. وكانت سينما الحمرا في يافا من أفخم دور السينما في فلسطين وعرضت أشهر أفلام السينما العربيّة والعالميّة، إضافة للعروض المسرحيّة الكبيرة، واستضافت أيضًا المهرجانات الوطنيّة التي أطلقت الشرارة لمقاومة الاستعمار البريطانيّ.
كانت سينما الحمرا تحتوي على 1100 مقعد وتراوحت أسعار بطاقات الدخول لعروض الأفلام السينمائيّة فيها ما بين 5 قروش للطلّاب و7 قروش للمواطنين العاديين، أمّا أسعار بطاقات الدخول لعروض المسرحيّات فكانت نصف جنيه للطلّاب وثلاث أرباع الجنيه للعموم كما يستدل من أحد الإعلانات المنشورة في صحيفة «الدفاع».
وفي إعلان آخر لها تفاخر سينما الحمرا الوطنية في يافا أنه بعد شهر ونيف فقط على الإعلان عن فيلم عودة طاقية الإخفاء في صالات العرض في مصر، حتّى تعلن عن عرض خاصّ، هو الأوّل في فلسطين». وفي إعلان في الصحيفة ذاتها تدعو سينما الرشيد في يافا لفيلم الموسم: «غنى حرب»، من تمثيل: الهام حسين، وبشارة واكيم، وعزيز عثمان، وحسن فايق، وهاجر حمدي.
سينما البرج في عكّا
وفي مدينة عكا أسس بشير بيّاعة سينما البرج في الثلاثينات داخل البلدة القديمة بالقرب من بوابة السور الشرقية. وكانت عبارة عن قاعتين، أحداها خارجيّة وهي مفتوحة لأيّام الصيف، والثانية داخليّة مُغلقة لأيّام الشتاء. وحسب ما نشرته الصحف الفلسطينية وقتها فقد كان الإقبال على السينما كبيرا، فقد عرضت أفلاما مصريّة كثيرة، أُعلن عنها عن طريق تعليق بوستر الفيلم على لوحة إعلانات خشبيّة بالقرب من باب السينما، في حين كانت تعرض إدارة السينما «برومو» للفيلم المقبل كلّ مساء بعد الانتهاء من العرض. يشار إلى أنه بعد عام 1948 استبدل الاسم بسينما البستان، وقد صودر المبنى من قبل السلطات الإسرائيلية عام 1988 وهو مغلق اليوم. ونافستها سينما «الأهلي» التي أسسها أحمد اللبابيدي خارج الأسوار وبدأت السينما من خلال شاشة صغيرة في قاعة متوسطة الحجم، وبرغم ذلك كان الإقبال عليها كبيرا على مدار العام خاصة أيّام الخميس والسبت وهي الأخرى باتت اليوم عمارة مهجورة وخاوية.
سينما عين دور
في حيفا اشتهرت دار السينما عين دور التي افتتحت بين عام 1931 في مركز المدينة في شارع يافا، وكان يملكها يهود، ولكنّها ارتبطت في الذاكرة الفلسطينية بالحفلة الغنائيّة التي أحيتها أم كلثوم في قاعة السينما في حيفا عام 1931. وقتها استقبل ام كلثوم رئيس بلدية حيفا حسن بك شكري ووجهاء المدينة، ووفد إلى الحفلة أعداد كبيرة من حيفا وبقية المدن الفلسطينية رغم الأسعار الباهظة للتذاكر والأزمة الاقتصادية التي كانت تعمّ البلاد نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929. وحول ذلك وصفت صحيفة «الكرمل» حالة الانفعال التي ألمت بحيفا عند زيارة أم كلثوم لها، إذ قالت إن أحد المواطنين باع حملة من الطحين اقتناها لبيته كي يتمكن من حضور الحفلة.
عادت من حيفا بلقب كوكب الشرق
أم كلثوم زارت فلسطين قبل نكبتها وأحيت حفلات في مدنها، وقد قدِمت بلقب «بلبلة الشرق» لتعود منها بلقب جديد «كوكب الشرق» بعدما غنت القصائد لها وتبرعت لدعم قضيتها. ويستذكر مثقفون ومؤرخون أم كلثوم في ذكرى رحيلها الأربعين المصادفة ليوم 3 فبراير/شباط، ويروون ما بلغهم من وثائق مكتوبة وروايات شفوية حول زيارة أم كلثوم للقدس ويافا وحيفا للمرة الأولى في أكتوبر/تشرين الأول 1931. ويشير المؤرخ بروفيسور محمود يزبك إلى أن فلسطين استقرت في قلب أم كلثوم وغنت لها أغاني ثورية، منها «أصبح عندي الآن بندقية… إلى فلسطين خذوني معكم» و«راجعين بقوة السلاح» و«ثوار» و«إنا فدائيون» وغيرها.
منتصف الطريق
ويعتقد يزبك أن كوكب الشرق زارت المدن الفلسطينية باعتبارها حواضر ثقافية أولا، وثانيا لأنها انتصفت الطريق لسوريا والعراق ولبنان، علاوة على حبها لفلسطين التي نعتتها «بقلب العروبة وضميرها». وقبل نكبة فلسطين أحيت أم كلثوم عدة حفلات فيها، حيث كانت يافا محطتها الأولى بعدما وصلت ميناءها في سفينتها الخاصة، فأحيت حفلة ساهرة في قاعة سينما أبولو التي ازدانت واجهتها المركزية بتمثال لها. ويستدل من مراجعة بعض أعداد صحيفة «فلسطين» في أرشيف جامعة حيفا ما يعزز أقوال المؤرخين أن يافا استعدت طيلة أسبوع لاستقبال كوكب الشرق، وأن نقابة البحارين هي من نظمت زيارتها مقابل مئتي ليرة لقاء كل حفلة.
طه حسين والجواهري
واستنادا إلى الأرشيف، نشرت صحف فلسطينية في فترة الانتداب إعلانا احتفاليا بعنوان «أعياد الطرب والسرور في مدن فلسطين العامرة بتشريف المطربة الفنانة بلبلة الشرق والأقطار العربية». ويوضح الباحث سامي أبو شحادة – ابن مدينة يافا – أن زيارة أم كلثوم للمدينة كانت طبيعية جدا نظرا إلى القرب الجغرافي وكونها ممرا إلى بلدان أخرى. ويقول أبو شحادة إن زيارات أم كلثوم ليافا أتت في سياق زيارات الكثير من الفنانين والمثقفين أمثال طه حسين ومحمد الجواهري ويوسف وهبي وعبد الوهاب بصفتها مركزا ثقافيا في تلك الفترة. ويشير إلى رغبة المثقفين العرب في الحصول على نوع من الاعتراف بهم عبر زيارتهم لمركز ثقافي كبير مثل «عروس البحر». ومثل يافا، أحيت أم كلثوم حفلات في صالات السينما في القدس وحيفا عامي 1931 و1935 وعبّر الجمهور الفلسطيني وقتذاك عن الحماس الكبير للفنانة القادمة من مصر.
حملة من الطحين
وضمن تقرير في صحيفة «بريد اليوم» عبّر مواطنون من القدس بعد حضورهم حفلة لأم كلثوم عام 1931 عن تفاعلهم وانبهارهم الشديد بها، سيما عند أدائها أغنية «يا بشير الأنس» التي أبكت الجمهور. وتصف صحيفة «الكرمل» حالة انفعال ألمت بحيفا عند زيارة أم كلثوم لها. وحسب المؤرخ جوني منصور – وهو أيضا ابن مدينة حيفا – فإن أم كلثوم حازت على لقبها البارز أثناء تقديمها حفلة داخل مقهى الشرق في مدينته. ويضيف أن إحدى الحاضرات في الحفل انتابتها مشاعر النشوة عندما غنت أم كلثوم «أفديه إن حفظ الهوى»، فصرخت: «أم كلثوم أنت كوكب الشرق». يشار إلى أن سليم نسيب كاتب سيرة أم كلثوم يقرّ بأنها حظيت باللقب في مدينة حيفا، لكنه لا يقدم تفاصيل ذلك. ورغم النكبة وتبعاتها نجحت السينما الفلسطينية في استعادة الروح وخطت في العقود الأخيرة خطوات هامة وضعتها على خريطة السينما العالمية.