فن التحوُّط.. لماذا أبقت الأردن على "شعرة معاوية" مع قطر ولم تصعِّد مثلما فعلت السعودية؟
على الرغم من إعلان المملكة الأردنية الهاشمية رسمياً انحيازها إلى التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية ضد قطر، فإنها اكتفت بتخفيض التمثيل الدبلوماسي ولم تأخذ موقفاً قاطعاً كما فعل التكتل السعودي الذي قطع جميع العلاقات الدبلوماسية.
موقع
Middle East Eye البريطاني يرى أن خطوات عمّان تجاه قطر والتي تمثلت بتخفيض علاقاتها الدبلوماسية قليلاً مع الدوحة، وإلغائها رخصة البث الخاصة بمحطة الجزيرة، يظل كل شيءٍ تقريباً كما هو.
ويتابع: "إذ لم يُطلَب من القطريين الموجودين في الأردن مغادرة البلاد باستثناء السفير. وعكس خطوط الطيران الخليجية، لم تلغِ الخطوط الملكية الأردنية رحلاتها إلى الدوحة. وعلى العكس أيضاً من السعودية والبحرين، لا يزال الأردنيون قادرين على مشاهدة قناة الجزيرة، وغيرها من وسائل الإعلام المتمركِزة في قطر، على شبكة الإنترنت. وبينما أعلنت الإمارات تجريم إظهار التعاطف مع قطر، ينتقد الأردنيون حكومتهم على هذا القرار علناً".
والسبب وراء فتور موقف الأردن، وفقاً لما يراه الموقع البريطاني، هو أنَّه لا بد أن يحتاط حين يشرع في الرهان على الفائزين والخاسرين الإقليميين، وذلك بالنظر إلى ضعفه المُتوارَث.
وتاريخياً، يُخطِّط الأردن سياسته الخارجية لتعكس هدف الوصول إلى حدٍ أقصى من أمن النظام، وذلك عن طريق تلقّي مساعداتٍ اقتصادية وحمايةً عسكريةً من قوى أجنبية، مثل الولايات المتحدة الأميركية، مستغلاً في ذلك قدرته على تحقيق المصالح الاستراتيجية لتلك القوى.
ولعقودٍ من الزمن، كانت الميزة الأكبر لدى الأردن هي موقعه الجغرافي. فلطالما كان بإمكانه حقاً إقناع الغرب بأنَّ تعاونه وحمايته ضروريَّان على جبهاتٍ مُتعدِّدة، مثل السلام مع إسرائيل، وغزو العراق، والحرب الأهلية السورية.
إلا أن الموقع البريطاني يرى أنَّ ورقته الرابحة اليوم لا تجدي نفعاً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ إذ تخفت أهمية عمَّان بينما تتطلَّع واشنطن إلى السعودية للحفاظ على النظامِ الإقليمي، عبر ضمان أمن الخليج، من خلال تصدُّرها -أي السعودية- للمعركة ضد إيران. وتلُفّ سحبٌ من عدم اليقين هذا المحور الأميركي-السعودي، بينما في إمكان دولة قطر الغنية أن تدعم الأردن المُعتلَّ في المستقبل. وهنا يكمن فن التحوُّط، وفقاً لما يقوله الموقع البريطاني.
سياسةٌ مُحيِّرة
من الزاوية التاريخية، يرى الموقع البريطاني أنه من المنطقي أن يتبنى الأردن سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها التكتل السعودي تجاه قطر، ويسرد ذلك في نقطتين أساسيتين:
فأولاً: ساعد الأردن في نسجِ تحالف الدول العربية السُنيَّة في المقامِ الأول؛ إذ أصبح طرفاً في الشقاق الطائفي بالمنطقة، مؤيداً بذلك التحالف المدعوم من الغرب، والمُصدَّق عليه من قِبَلِ إسرائيل، ضد إيران ووكلائها، مثل سوريا وحزب الله. فضلاً عن أنَّ الملك عبد الله هو من كان قد حذَّرَ الغرب، قبل أكثر من عقد، من ذلك "الهلال الشيعي" الذي يبتلع المنطقة العربية.
وفي سوريا، حيث برز الانقسام السعودي-الإيراني بأكثر أشكاله عنفاً، اتخذ الأردن عدة مبادراتٍ في إطار التحالف الذي ينتمي إليه بعد إعلان الحرب على الأسد، وتراوحت تلك المبادرات بين استضافة معسكرات تدريبٍ لقواتِ المعارضة، ومدِّ طرقٍ للإمدادِ بالأسلحة، وحتى تشغيل مركزٍ قيادةٍ عسكريٍ سريٍ مُتعدِّد الجنسيات. وتمثَّلت إحدى المكافآت التي تلقَّاها الأردن على استراتيجيته للسياسة الخارجية في روابط أوثق مع مجلس التعاون الخليجي منذ اندلاع الربيع العربي. وتلقَّى الأردن من مجلس التعاون الخليجي 5 مليارات دولار، معظمها من السعودية والكويت والإمارات، في الفترة بين عامي 2012 و2016.
ثانياً: بينما تعود مشكلات قطر مع مجلس التعاون الخليجي إلى عقودٍ مضت، بدأت مشكلات الأردن مع الدوحة منذ خلافة الملك عبد الله في عام 1999، حين أثار طرد الأردنيين حماس غضب قطر التي بدورها استقبلت خالد مشعل، وغيره من قادة حماس، للإقامة بها.
وفي عام 2002، حكمت قطر بالإعدام على الصحفي الأردني فراس المجالي بتهمة التجسُّس. ورغم العفو عنه لاحقاً، أشعلت القضية غضباً شديداً لدى قبيلة المجالي الأردنية، وهي القبيلة المعروفة بخدماتها السياسية للمؤسسة الملكية. وفي عام 2006، خرقت قطر الإجماع العربي؛ إذ دعمت بان كي مون، بدلاً من الأمير الأردني زيد بن رعد، لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة. وبعد ذلك بعدة سنوات، هدَّدَ الأردن بإغلاق قناة الجزيرة بعد انتقاداتٍ وجَّهَتها القناة لشؤونٍ سياسيةٍ أردنية.
في المقابل، صعَّدَت قطر رد فعلها تجاه الأردن، فاقتطعت، على سبيل المثال، جزءاً من حصتها في حزمة مساعدات مجلس التعاون الخليجي. وفي الماضي، هدَّدَت بترحيل الأردنيين العاملين فيها، والذين يُقدَّر عددهم بنحو 40 ألفاً، لكنها في عام 2012 سمحت لهم بالبقاء بعد موافقة الملك عبد الله على استقبال مشعل في زيارته الأولى عائداً إلى الأردن.
وبعد هذا السرد التاريخ، يقول الموقع البريطاني: "في حين لا يتوقَّع أحدٌ أن يدافع الأردن عن قطر، إلّا أنَّ هذه العوامل تشير إلى أنَّ رفض الأردن تبنِّي حملة التكتل السعودي المُتشدِّدة لمناهضة قطر سيكون هو الأمر الأكثر إرباكاً. إلّا أنَّ عمَّان، وفي أثناء تحوُّط موقفها، تأخذ حالة الغموض المُقلِقة بشأن دورها المستقبلي في أي نظامٍ إقليمي يتزعَّمه المحور الأميركي-السعودي في الحسبان".
عوائد منخفضة
وحول السياسة الأردنية الخارجية التي تنتهجها الحكومة، وما العائد الذي يمكن أن تستفيد منه عمان، يرى الموقع البريطاني أنها منخفضة، مقارنة بالمبادرات التي يقوم بها الأردن، وفي هذا السياق يلخص الموقع البريطاني الأمر في نقطتين:
أولاً: رغم تحمُّس الملك عبد الله لترامب -فقد زاره مرتين في المائة يوم الأولى من ولايته، أكثر من أي زعيمٍ آخر في الشرق الأوسط- لم يجنِ الأردن من الإدارة الأميركية الجديدة سوى القليل من الفوائد.
فعلى سبيل المثال، يُرجَّح أن تكون المعلومات الاستخباراتية حول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، التي سرَّبها ترامب على نحوٍ مثيرٍ للجدل لروسيا، قد جاءت من الأردن وليس من إسرائيل. ويُعد هذا كشفاً مُقلِقاً، وذلك بالوضع في الاعتبار العلاقات التي لطالما كانت وثيقةً بين وكالة الاستخبارات الأميركية ونظيرتها الأردنية، وكذلك توقعات المعلومات السرية التي تتأتّى من تلك العلاقة.
وأثارت الوعود التي قطعها ترامب في وقتٍ مبكر (في أثناء حملته الانتخابية) بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس تخوفاتٍ لدى الأردن؛ إذ كان من شأن تلك الخطوة أن تحفز اندلاع احتجاجاتٍ واسعة النطاق في الأردن من جانب سكانه ذوي الأغلبية الفلسطينية. وتراجع البيت الأبيض عن تعهُّده، لكن ليس قبل أن يغضب وزارة الخارجية الأردنية بأكملها.
وأخيراً، قدَّم ترامب مشروع موازنة أميركا للعام المالي 2018، متضمناً خفضاً محتملاً بنسبة 20% في المساعدات الاقتصادية السنوية لعمَّان. وحتى لو فشلت تلك الموازنة في تخطّي عقبة الكونغرس، فمن الجدير بالملاحظة أنَّ الأردن لم يتمكن من إقناع البيت الأبيض بزيادة القيمة الأساسية للمساعدات السنوية الأميركية له والبالغة مليار دولار بعد عام 2017، وهو طلب استغرق إعداده سنوات، في ظل التكاليف الباهظة لاستضافة نحو مليون لاجئ سوري.
ثانياً: رأى الأردن بوضوحٍ مكانته السياسية تتضاءل وسط حلفائه في مجلس التعاون الخليجي بسبب المساعدات. ولم تُجدَّد العام الجاري، 2017، حزمة مساعدات مجلس التعاون للأردن البالغة 5 مليارات دولار، والتي تمت الموافقة عليها العام الماضي. وأمضى المسؤولون الأردنيون أغلب الوقت خلال القمة العربية التي استضافوها في مارس/آذار الماضي محاولين إقناع السعودية ومُصدِّري النفط الأثرياء الآخرين بتقديم مزيدٍ من التمويل والاستثمارات، لكن دون نجاح يذكر.
وسيكون لنقص المساعدات المالية انعكاساتٍ أمنية على عمان؛ نظراً لإنفاقها الطائل على بنود ذات فاتورة مرتفعة مثل الرواتب والمعاشات والدعم والجيش. وفي الواقع، أَجبر تأخر المساعدات السعودية في أغسطس/آب 2012 خزانة الدولة الأردنية المتعثرة على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، ونجم عن ذلك تدابير تقشفية أثارت أعمال شغب حادة في أرجاء المملكة.
هل هي نهاية حقبة؟
ويرى الموقع البريطاني أن تلك النظرة الاستراتيجية المتراجعة للأردن تعكس تحولاتٍ أكثر قلقاً على الساحة الإقليمية، تدور حول واشنطن والرياض. فقد خالف البيت الأبيض في ظل رئاسة ترامب سياسة إدارة أوباما، بتأييده غير الحاسم للسعودية والبحرين والإمارات. واختفت حتى المخاوف الرمزية حول الديمقراطية والإصلاحات السياسية.
ويتابع الموقع: "ما يتَّضح بدلاً من ذلك هو إعادةٌ فجّة من ترامب لعقيدة الرئيس ريتشارد نيكسون بالاعتماد على العملاء الإقليميين المسلحين جيداً، مثل السعودية، لحماية مصالح أميركا في الخارج. وأبرزت قمة الرياض في مايو/أيار الماضي هذه العقيدة، لكنَّها أثارت مشكلةً أكثر إزعاجاًَ".
فعلى مدار العقدين الماضيين، كانت الولايات المتحدة بحاجةٍ ماسّة إلى الأردن؛ لأنَّ موقعه وخدماته اللوجيستية كانا مثاليين للتعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وشن الحرب على الإرهاب، وغزو العراق، وإعادة تشكيل المشهد السوري. وتُشارف تلك الحقبة التي كان الأردن يمتلك فيها قيمة جيوسياسية كبيرة على الانتهاء؛ وذلك لأنَّ تركيز ترامب الأهم ينصب على احتواء إيران فيما ينتظر أن تهدأ الحرب السورية.
ويرى الموقع البريطاني أن هذا التوجه الجديد -المنصبّ على الخليج- قد حط من قدر (مكانة) المملكة الأردنية في الترتيب الهرمي الإقليمي؛ ما يُضفي حالة من عدم اليقين العميق على ما كان في السابق موقعاً حصيناً للحليف العربي الأول بالنسبة لواشنطن. وليس من المنطقي أن يلتزم الأردن بشكلٍ كامل بالموقف الأكثر تطرُّفاً للتكتُّل السعودي دون ضمان أن ذلك من شأنه أيضاً أن يحمي مصلحته عن طريق الحصول على مساعداتٍ أكثر.
ويتابع: "إن إقصاء قطر بشكلٍ تام لا يُحقق قدراً أكبر من الأمن؛ لأنَّ ذلك سيحول دون إمكانية أن تصبح الدوحة حليفاً أكثر قرباً ومانحاً للمساعدات. ويتجاهل هذا حقيقة؛ وهي ألّا شيء مرتبطاً بهذه الأزمة -سواء إيران، أو الإخوان المسلمين، أو الجزيرة- يُشكل في الواقع تهديداً مؤكداً لاستقرار الأردن". وعلاوة على ذلك، وعلى مدار التوتُّرات السابقة بين البلدين، لم تقترب العلاقات الأردنية-القطرية نهائياً من هذا المستوى من العداء الذي يشهده هذا العزل الطارئ اليوم للدوحة عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي.
ويذكر الموقع البريطاني أنَّ الأردنيين لا يعملون فقط في الدوحة؛ بل وتحتفظ الشركات القطرية أيضاً باستثماراتٍ تصل إلى ملياري دولار داخل الأردن.
ويتابع: "لقد كانت آخر كوارث الأردن الكبرى في السياسة الخارجية خلال حرب الخليج 1990-1991، حينما صدم العالم بدعمه للعراق. ودفعت المملكة الهاشمية ثمن هذا الخطأ غالياً، وتطلَّب منها الأمر عقداً من الزمان لاستعادة تحالفاتها الغربية ومكانتها في الخليج. وقد رسَّخت تلك الحلقة من الخلاف أكثر الدروس صرامةً، وهو أنَّه لكي تنجح السياسة الخارجية الأردنية، يجب أن يكون هناك وضوح حول ما ستكتسبه عمان وتخسره بتبنِّيها مواقف حلفائها. ومنذ تولي ترامب منصبه، فُقِد هذا الوضوح".