رسالة أيزنهاور وبداية عصر الاستعمار الأميركي
شمس الدين العجلانيلم يدع المستعمر الفرنسي والبريطاني والأميركي بلادنا (بحالها) بعد خروج آخر جندي مستعمر، واشتد الصراع على مناطق نفوذ لمآربهم ومصالحهم على حساب الشعوب الأخرى، وكان عدد من الدول العربية ساحة صراع واضحة جلية لأجهزة المخابرات لتلك الدول.
كانت الولايات المتحدة الأميركية حتى عام 1957م، تقف (وراء الكواليس) وتدفع الدول الاستعمارية الأخرى لخوض الحروب غير العادلة على سورية أو الدول العربية الأخرى، وكانت وكالة المخابرات المركزية الأميركية تسرح وتمرح في المنطقة وتعد العدة لبداية عصر جديد من الاستعمار! وكانت بداية هذا العصر مع ظهور رسالة أيزنهاور!؟
رسالة أيزنهاور
أيزنهاور هو دوايت ديفيد أيزنهاور (14 تشرين الثاني 1890- 28 آذار 1969)، سياسي وعسكري أميركي والرئيس الرابع والثلاثون عن الحزب الجمهوري للولايات المتحدة الأميركية، تولى الحكم في الفترة من عام 1953 إلى عام 1961. وخلال الحرب العالمية الثانية، شغل منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا، المسؤولة عن التخطيط والإشراف على نجاح غزو فرنسا وألمانيا. وفي عام 1951، أصبح أول قائد أعلى لقوات حلف الناتو.
رسالة أيزنهاور، مشروع أيزنهاور، خطاب أيزنهاور أمام الكونغرس الأميركي، كلها تسميات لمبدأ واحد أطلقه أيزنهاور وتبناه الكونغرس وأصبح منذ ذاك الزمن المبدأ الأساسي لعصر الاستعمار الأميركي، وفحوى مبدأ أيزنهاور يتلخص بـ(سياسة ملء الفراغ)!؟
لقد ارتبط اسم الشرق الأوسط والعالم العربي بالرئيس الأميركي أيزنهاور من خلال مشروعه (سياسة ملء الفراغ)، وتجسد هذا المبدأ في الإعلان الصادر عن الكونغرس الأميركي في العام 1957، والذي حدد الإطار العام للإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، في المرحلة التي أعقبت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
لقد خشيت الولايات المتحدة من (البعبع) السوفييتي في التمدد في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية، في الوقت نفسه كان العديد من دول هذه المناطق يتطلع بعين الرضى على السوفييت للتخلص من أزماتها الاقتصادية والعسكرية وخاصة سورية.. فكان من أهداف «مشروع أيزنهاور» احتواء التمدد السوفييتي باتجاه منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي.
تكون مبدأ أيزنهاور المعلن من ثلاث نقاط:
١- التعاون الاقتصادي مع كل دولة مهتمة بالتنمية وتقديم المساعدات مع التأكيد على السيادة الوطنية للدولة.
٢-التدخل العسكري عند تهديد الاستقلال السياسي عن طريق دولة شيوعية.
٣- التعاون مع كل دولة أو مجموعة دول ومساعدتها عسكرياً إذا رغبت، فالولايات المتحدة ومنذ ١٩٥٧ اتجهت لتحل محل الوجود البريطاني والأوروبي في المنطقة.
وفقاً لهذا المبدأ أو المشروع، فإن بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية أو العسكرية الأميركية إذا ما تعرض للتهديد من دولة أخرى، وهذه المساعدة إما على صعيد اقتصادي، بمساعدة دول شرق أوسطية على تنمية أحوالها الاقتصادية، وإما على صعيد عسكري باتخاذ تدابير عسكرية تشمل استعمال القوات الأميركية المسلحة «بتفويض من الكونغرس الأميركي»، لضمان وحماية الكيانات الإقليمية والاستقلال السياسي للدول التي تطلب هذا العون!؟
لقد كانت بداية عصر الاستعمار الأميركي الجديد، في 1957م معتمداً على ركائز هذا المشروع (مشروع أيزنهاور) فيما يخصنا ويخص منطقة الشرق الأوسط، أما مبدأ (سياسة ملء الفراغ) فالمقصود به الفراغ الذي تركه جلاء المستعمر عن بلادنا، فلا بد من مستعمر جديد وبأسلوب جديد، ألا وهو المستعمر الأميركي!؟
ووفقا لهذا المبدأ اعتبرت الولايات المتحدة الشرق الأوسط مجالاً لنفوذها ومصالحها، وبذلك أرسى الرئيس أيزنهاور مبدأ التدخل في شؤون وتركيبة دول الشرق الأوسط والدول العربية، وكان لبنان في عهد الرئيس كميل شمعون، الدولة العربية الوحيدة التي التمست المساعدة العسكرية الأميركية في إطار مشروع أيزنهاور، عندما تفاقمت الإضرابات فيها، وانضم لبنان بموجب «اتفاقية ريتشاردز- مالك» إلى «مبدأ أيزنهاور» عام 1957، إلى أن ألغى هذه الاتفاقية الرئيس اللبناني فؤاد شهاب.
لقد قام مبدأ أيزنهاور على تقوية ودعم عدد من الدول العربية مثل السعودية والعراق الملكي لمواجهة المد القومي والناصرية كرمز للحركة القومية العربية في الخمسينيات وأرادت الولايات المتحدة السير في المواجهة مع الناصرية ودعم حلفائها ضدها حتى النهاية..!
باستثناء حرب الخليج الثانية وإخراج القوات العراقية من الكويت بقرار أممي طبقاً لقرارات مجلس الأمن، لم تساعد الولايات المتحدة أي دولة من دول الشرق الأوسط أو دولة عربية في إعادة بناء نظامها السياسي والاقتصادي، بل على العكس فقد كشفت أميركا الآن عن وجهها القبيح لتلعب لعبتها القذرة في تهديم الدول العربية حجراً وبشراً، وبث الإرهاب في المنطقة سعياً لخريطة شرق أوسط جديد.
خريطة شرق أوسط جديد
استناداً لمبدأ أيزنهاور بدأ الحديث عن مخطط الشرق الأوسط الجديد، بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وعقب تفتت الاتحاد السوفييتي، حيث دعمت الإدارة الأميركية وقتها برنارد لويس لوضع مخطط يهدف إلى تقسيم الدول العربية إلى دويلات وأقاليم على خلفيات دينية وعرقية. ويتماشى الحديث المتداول حول تقسيم العراق وليبيا وسورية، وتدعيم النزعة الطائفية لدى الأقليات في سائر دول الوطن العربي، بشكل أو بآخر إلى إتمام تلك المخططات القديمة.
عبد الناصر في «مبدأ أيزنهاور»
تمثلت خطط التقسيم التي وضعت لتغيير خريطة مصر في ثلاث إستراتيجيات أساسية، أولاها شد الأطراف، عن طريق فصل المناطق الحدودية، وثانيتها توسيع دولة إسرائيل على حساب الحدود المصرية، وثالثتها استبدال قيادة أخرى موالية بالقيادة الوطنية، تسمح بتدخلات غربية واسعة.
حين أعلن «مبدأ أيزنهاور» كانت إحدى محاولاته إزاحة القيادة الوطنية في مصر، ممثلة بالرئيس جمال عبدالناصر، فبالرغم من أن بنود ذلك المبدأ كانت تتيح الحق للإدارة الأميركية في التدخل العسكري في دول الشرق الأوسط!؟ في حالة تهديد إحدى تلك الدول بواسطة النفوذ الشيوعي. إلا أن القرار في باطنه هدف إلى إيجاد بديل للرئيس المصري جمال عبدالناصر، في محاولة لمنع الفكر القومي من الانتشار بين الدول العربية، ولكن آمال الإدارة الأميركية سرعان ما خابت، بسبب تحول «ناصر» إلى رمز بين الشعوب العربية، في الوقت نفسه، كانت المطامع الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية تزداد شيئاً فشيئاً..
ومازالت المؤامرات والخطط الأميركية- الصهيونية تحاك ضد المنطقة العربية، لمنع استقرار الوضع بها، وهو الأمر الذي تبدى خلال السنوات الأخيرة القليلة، بظهور الجماعات الإرهابية التكفيرية التي تعيث فساداً وإرهاباً في منطقتنا، ولقد أصبح الآن جلياً، أن هذه التنظيمات الإرهابية هي سيناريو أميركي بامتياز.
ظهرت مصر في خريطة الشرق الأوسط الكبير مقسمة إلى أربع دويلات، دولة تضم سيناء وشرق الدلتا، تحت النفوذ الإسرائيلي، وثانية مسيحية، عاصمتها الإسكندرية، وتمتد من الفيوم وجنوب بنى سويف حتى جنوب أسيوط، أما الدولة الثالثة فهي الدولة النوبية، فيها تنضم القرى النوبية في جنوب البلاد إلى مناطق مستقطعة بشمال السودان، لتكون عاصمتها أسوان، إضافة إلى دولة رابعة إسلامية عاصمتها القاهرة. ولكن يمكن أن نرى في ذلك التقسيم إغفالاً لحقيقة تاريخية مهمة، وهى أن مصر خلال مئات السنوات من الاستعمار والحروب، من الدولة الفرعونية وحتى جلاء بريطانيا، لم يكن شعبها يوماً عرضة للتقسيم.
العراق في مبدأ أيزنهاور
من مصر ننتقل إلى العراق، فبعد الغزو الأميركي عام 2003 أصدر الحاكم المدني وقتها، بول بريمر، قراراً بحل الجيش الوطني العراقي، لتتخلص الإدارة الأميركية بذلك من أحد أهم جيوش الدول العربية التي كانت تمثل تهديداً مباشراً للحليف الأكبر لأميركا في المنطقة، وهو دولة «إسرائيل»، مشاهد غزو العراق ستظل عالقة في أذهان المواطن العربي، لكونها إحدى لحظات الضعف والعهر العربي.
بدءاً من اقتحام القوات الأميركية من دون مقاومة تذكر، مروراً بإلقاء القبض على الرئيس العراقي صدام حسين في أحد الخنادق بقرية الدورة بتكريت، وإعدامه العلني عقب محاكمة هزلية، وانتهاءً بتحول العراق إلى منطقة صراعات شيعية سنية، مفككة ومستعدة لخطط العالم الغربي للتقسيم.
كانت دولة العراق إحدى الدول التي وقعت في حدود الخطة الفرنسية الإنجليزية «سايكس بيكو»، بهدف تقسيم إرث الدولة العثمانية، والتي تضمنت استيلاء فرنسا على غرب سورية ولبنان وولاية أضنة، واستيلاء بريطانيا على منطقة جنوب ووسط العراق، بما فيها مدينة بغداد، على أن يخضع ميناء الإسكندرية للنفوذ المشترك للدول الثلاث. وربما يكون العراق في وضعه الحالي الذي رسمه ونفذه الأميركان، أقرب الدول العربية إلى تحقق المخطط الكامل للشرق الأوسط الكبير، بالانقسام إلى ثلاث دويلات، هي دويلة شيعية في الجنوب حول البصرة، وأخرى سنية حول العراق، وثالثة كردية تقتطع أراضي إيرانية وعراقية وسورية. وربما يكون إقليم كردستان بدوره أولى تلك الدويلات التي تعلن استقلالها، بسبب دعم الدول الغربية لها.
وأخيراً
لقد بدأ عصر الاستعمار الأميركي وفق أسس رسالة أيزنهاور، وكان ذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأخذت وكالة المخابرات المركزية الأميركية تسرح وتمرح في دول الشرق الأوسط والدول العربية، كما كانت الولايات المتحدة قد أخذت مكانتها العالمية تتسع مع تطور دورها العالمي، ولاسيما السياسي والأمني ومساعدتها الاقتصادية لبعض الدول. وربما كانت أوروبا مركز السياسة الدولية في العالم لما يزيد على ثلاثة قرون، غير أن الحربين العالميتين المدمرتين قد دمرتا القوى العظمى الأوروبية بالكامل، وقد تحدث علماء العلاقات الدولية عن هذه اللحظة بوصفها اللحظة التي انتقل فيها النظام العالمي المتعدد القوى إلى نظام ثنائي القطبية، وفيها امتلكت الولايات المتحدة الأميركية القوة البحرية والجوية الأكبر في العالم، وقاعدة صناعة لا قرين لها، والقوة الوحيدة التي تمتلك الأسلحة الذرية آنذاك، واستطاعت تفكيك الاستعمار القديم، ليبدأ الاستعمار الأميركي..
إن الاستعمار الأميركي الجديد عمل على إقامة ومساندة قوى في العالم المتخلف تشكل في كل بلد فيه امتداداً سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً وعسكرياً لما يقابلها من مؤسسات النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، وتقوم مقام أجهزة احتلال وإدارة المستعمرات القديمة. أي باختصار تقوم بلاد العالم الثالث باحتلال نفسها بنفسها لحساب المستعمر الجديد، في ظل العصر العبودي الأميركي…
وطبعاً لم تكن سورية بمنأى عن مخطط أيزنهاور وخريطة الشرق الأوسط الجديد وألاعيب وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA).
المراجع: ميدل ايست جورنال لعام 1990 – أرشيفي الخاص.