قواعد التكفير في زمن: الجهل نور!
إبراهيم نصر الله
منذ أكثر من ثلاث سنوات، تساءلت: هل نحن شعوب عنصرية؟ وأعني الشعوب العربية، وقد توقّعت أن يثير ذلك المقال عاصفة غاضبة من الإجابات، الإجابات التي انتظرتُ أن تنفي ذلك التساؤل وتستنكره، لكن المدهش في الأمر أن آلاف القراء أبدوا إعجابهم بالمقال! كما أن مئات التعليقات فصّلت الأمر كما لم أفصْله، وتحدثتْ بجرأة عمّا سكتُّ عنه، أو لم يخطر ببالي!
كنت أتحدث عن شهادات سمعتها مباشرة من بعض الأصدقاء والمعارف الأجانب، وما لمسوه من عنصرية في السلوك اليومي للبشر في شوارعنا العربية، وبالطبع لم يكونوا من ذوي البشرة البيضاء، لأن هؤلاء يتعامل معهم عقلنا الجمْعي باعتبارهم أرقى، وفي ذلك أيضاً عنصرية مرتدة، وحس بالغ بالدونية.
ليس المجال هنا متاحاً، في هذا الحيز، لتتبّع كل جذور هذه العنصرية، وهذه الدّونية، لكن ما يلفت الانتباه هو ما يحدث في حياتنا العربية اليوم من عنف وقتل، في الأشهر الحُرُم، وسواها، في زمن تمّ فيه تحليل قتل البشر، دون حق، في كل مكان من هذا العالم، وبطريقة مرعبة، تبدأ من ملعب لكرة القدم وسوق خضار، وتنتهي بالجامع والكنيسة. هذا الذي يحدث، لا تحتكره التنظيمات (مُطلقة الإيمان، وامتلاك الحقائق ومفاتيح الجنة) وحدها، باعتباره محصلة لزمن قُتِل فيه العقل لصالح غريزة القطيع وآبار الدم، بل باتت تنافسها عليه هذه التكفيرية النائمة في مَن يظهروا لنا أناساً معتدلين، ولذا لا يبدو لي الآتي أفضل، بل أشد عنفاً ودماراً في ظل تنامي أدوار الأنظمة الأكثر تخلفاً، والأكثر ضراوة في تعاملها مع شعوبها وامتلاكها لكل وسائل التأثير، مالياً، وإعلامياً، وتربوياً، وقدرةً على شراء الناس، وتوظيفهم، بحيث يمكن أن يُطلّ علينا أحدهم من قناة ما، عقلانياً متفتّحًا، ويُطل بعد أيام من قناة أخرى، داعيةً ملوِّحاً بالسيف على خلفيّة من الجماجم.
والغريب، أن هؤلاء الذين يريدون بناء مستقبل الأمة بالذبح، هم المختصون الأبرز في تغييب العقل وتغييب أصحاب العقل من الوجود.
ذات يوم وجدت نفسي مطلوباً، كما يُستدعى المجرم لمراكز الأمن، ولكنني كنت مطلوباً من جانب إدارة المدرسة التي يدرس فيها ابني، وهي مدرسة خاصة ذات سمعة جيدة، وحين وصلت تبين لي أن ابني قد تجاوز حدود الأدب في حصة التربية الدينية، فقد كان المعلم يقول لهم: في الماضي، كانت العرب تطلق طائراً في السماء، وتراقبه، فإذا اتجه يميناً يتفاءلون، وإذا اتجه شمالاً، يتشاءمون؛ فما كان من ابني الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره أيامها، إلا أن سأل: وإذا ذهب الطائر في خط مستقيم؟
كان سؤال ذلك الطفل، وهو سؤال منطقي، سبباً في وضعه في خانة (قليلي الأدب)، وكان عليَّ أن أذهب إلى المدرسة لكي يوضّح ليَ المدرس، وإدارة المدرسة، سوء تربيتي لطفلي.
منذ أيام، كنت أتحدث مع طفل صغير، طفل لم يتجاوز الثامنة بعد، ويبدو لفرط براءته في الخامسة؛ يعمل أبوه مدرّسًا وأمّه مدرِّسة، ولا يبدو عليهما أي شكل من أشكال التزمّت، بل يمكن القول إنهما جزء من الشريحة الأوسع لمجتمعنا اليوم، الذين يغلب عليهم، في الظاهر، الاعتدال.
سألت الصغير: هل أنت صائم؟ فأكد لي ذلك، ولأنه كان يلبس قميصاً رياضياً مطبوعة عليه صورة اللاعب رونالدو، لاعبه المفضل، سألته وأنا أبتسم بمحبة شديدة: ورونالدو، هل هو صائم؟ فأجاب بحزم: لا. إنه كافر!
كان للإجابة وقع ساحق على رأسي وعقلي وقلبي، قادتني للحديث له بصورة مبسطة، عن سيدنا عيسى وصيام المسيحيين، ودينهم، لكن الأب الذي لم يقبل، على ما يبدو، أن أشوِّه أفكار طفله! قدّم مداخلة، أوضح فيها الأسباب الموجبة لموقف ابنه، دون أن يفكر للحظة، أو تخطر بباله مستنقعات الخراب التي تعيشها هذه الأمة الإسلامية، والأفكار والأفعال المدمّرة التي تعتبره كافراً، وابنه وزوجته وكل من يسير معهم نحو المسجد لأداء الصلوات، لأنهم ليسوا مؤمنين حقيقيين من وجهة نظر هذه التنظيمات. في الوقت الذي يعمل فيه، هو ، على تحويل ابنه، بجهله المطبق، إلى قاتل، قد يكون الأب نفسه أحد ضحاياه.
ثمة طفل، محبوبه هو رونالدو، بحيث يرتدي قميصاً يحمل صورته، وهو يفتخر بذلك أمام زملائه، ويحسده الصغار، ببراءتهم، على ذلك، ورونالدو ليس هو العلامة المسجلة الوحيدة التي يفتخر بها الطفل، العلامة الوحيدة الآتية من الغرب الكافر! فهناك الهاتف المحمول وشبكة الإنترنت وسرعتها، وسيارات الدفع الرباعي، وجهاز الكمبيوتر، والكاميرا الرقمية عالية الجودة و… التي يزهو بها تنظيم الموت وشبابه، كما تزهو بها ضحاياه.
لكن الكارثة، أن يكون موقف الضحايا والقتلة موحَّدًا في كراهيتهم للآخر، دون أن تفقه الضحية أمر تحويلها لنفسها إلى ضحية لسادة حقول الموت، بسذاجتها وبراءتها الرديئة.
ليس ثمة مبالغة إذا قال المرء: إن التكفير هو أعلى درجات العنصرية، لا لأنه يضع الشخص، أو الشعب، أو أصحاب الرأي الآخر، أو الدين الآخر، في مرتبة عرْقية أو دينية أقل مستوى، بل لأنه حين يكفره، لا يكتفي باستعباده ورذْله، بل بقتله مباشرة.
هل ثمة بارقة أمل؟
لأننا مع الحياة، سنحشر أنفسنا في الزاوية المضيئة، ونجبرها على أن تعترف بوجود هذا الأمل! لكن كل أشكال الخراب المتسارعة، في زمن تنحدر فيه أمّة بأكملها للقاع، سنعترف لعقلنا أيضا قائلين: ليس أقسى علينا من اليأس، إلا الأمل. ففي العودة إلى سؤال البداية: هل نحن شعوب عنصرية؟ والإجابات عليه، نتساءل بحرقة أشد: كيف نعي عنصريتنا إلى هذا الحدّ، ونواصل التمسك بها؟!
وبعد:
لقد قال أجدادنا دائما: العلم نور، فكيف وصل الكائن البشري إلى هذا الحضيض، ليكون شعاره في بلاد الشمس والرسالات السماوية والحضارات الإنسانية العظيمة التي سبقتها: الجهل نور!