بين المغرب والسعودية: دروس في البلطجة الدبلوماسية
توفيق رباحي
في المنطقة العربية أصبح واجبا أن نقول: وداعًا عصر الدبلوماسية الحكيمة، دبلوماسية الشهامة، مرحبا بعصر دبلوماسية القوة.
كانت الأولى ديدن الكبار والعقلاء الأشداء، الذين حتى عندما يغضبون ويعاقِبون، فلهم أسلوبهم الأنيق والمثير للإعجاب. وأصبحت الثانية سلاح المتهورين والمرتبِكين الذين عندما يغضبون، ينتقمون ويفيض حقدهم الشخصي وتتدفق عُقدهم الذاتية.
الزمن تغيّر، والعالم كذلك، فاسحا المجال لهذا النوع من الدبلوماسية الجديدة. وعلى مَن ساوره شك أن ينظر إلى البيت الأبيض في واشنطن، ومَن يسكنه وفي أيّة ظروف.
وبما أن المنطقة العربية تنفرد دائما بطريقة استقبالها للمتغيرات في العالم وتعاطيها معها، فقد «استفادت» كثيرا من تراجع العديد من القيم العالمية، وأبرزها قيَم العمل الدبلوماسي.
برزت البلطجة الدبلوماسية والترهيب السياسي في مواقف وأزمات إقليمية سابقة كثيرة. لكن الأزمة الدبلوماسية الحالية في الخليج، والحصار الذي تقوده السعودية والإمارات بحق دولة قطر، رسمت لها لوحة فريدة وخالدة.
يبدأ التخلي عن الشهامة الدبلوماسية، لصالح البلطجة، عندما يعجز صاحبها عن الإقناع، أو تكون قضيته خاسرة أو غير عادلة. آنئذ يبدأ الانحطاط. بين الجزائر والمغرب دهر من الخلاف المزمن، لم نشهد خلاله عُشر ما بدر من أذرع السعودية والإمارات خلال الساعات الـ24 الأولى من التأزم.
يوميا تتكشف أخبار تزيد المرء قناعة بأن الدبلوماسية المتبعة من الدولتين المحاصِرتين، وبالخصوص السعودية، تفتقد للشهامة، بالذات عندما يتعلق الأمر بدول فقيرة أو ضعيفة أو محدودة القدرة على المناورة.
عندما يتعلق الأمر بالدول والحكومات الغربية القوية والمستقلة في قراراتها وسياساتها، يبدو السيد عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، تلميذًا نجيبا منضبطا في تصريحاته وفي حركاته وسكناته. تجلى ذلك خلال زياراته لكل من باريس وبرلين ولندن وواشنطن. وسيتجلى أكثر في القادم من الفرص والزيارات.
أما عندما يتعلق الأمر بدول وحكومات مغلوبة على أمرها، أو هامش حركتها ضيق دوليا وإقليميا، فلا يكلف السيد الجبير نفسه عناء السفر إليها، وإنما يوفد إليها مبعوثين من الصف الثاني والثالث والرابع، يمارسون دبلوماسية التهديد والوعيد والترهيب، عندما لا ينفع الإغراء.
ضمن هذا السياق يندرج الضغط الإماراتي السعودي على المغرب. ظنت الحكومتان أن تغلغلهما في هذا البلد سيكفيهما عناء بذل جهود إقناع قيادته بالانضمام إلى صفهما، لكن الملك محمد السادس كان له رأي آخر. وبما أن حكام الدولتين على معرفة جيدة ببواطن الحال في المغرب، فقد اتجهوا فورا إلى الجرح النازف الذي يوجع السلطات في الرباط والرأي العام المغربي: الصحراء الغربية.
بين عشية وضحاها، وبلا مناسبة، حضرت الصحراء وأصبح المغرب في برامج تلفزيونية إماراتية وسعودية «محتلا» لها. وتحولت الصحراء من «مغربية» إلى «غربية»، ورُسِم فجأة خط حدودي بارز يفصل المغرب عن الصحراء (قناة أبوظبي، برنامج «المشكاة»).
كان الغرض من ذلك التحول السعودي ـ الإماراتي تجاه المغرب، عبارة عن «قرصة أُذُن» لتقليب مواجعه ودفعه إلى الندم على موقفه، لكنه في حقيقة الأمر، وفي عمقه، هو تحوّل يكشف خطأَ وهشاشة أن تعوّل على مثل هؤلاء الناس في قضاياك المصيرية، بينما هم جاهزون للتخلي عنك في أول خلاف وبيعك لأول مشترٍ!
ضمن دبلوماسية «اللاشهامة» أيضا يندرج ما أوردته صحيفة «لوموند» الفرنسية (الإثنين 12 يونيو ـ حزيران) عن ضغوط السعودية على الدول الإفريقية لدفعها إلى الانضمام إلى مقاطعة قطر.
يستهدف الضغط بالأساس الدول ذات الأغلبية المسلمة، أو التي للمملكة مشاريع فيها كبناء المساجد ورعاية العمل الخيري. يبدو أن المملكة لا تملك من أسلحة لجلب هذه الدول إلى صفها، إلا سلاح هذا العمل الخيري و»كوتة» الحج السنوي، فمارست الابتزاز والإغراء. وإلا ما الذي «يحشر» دولة مثل جيبوتي أو النيجر أو السينغال في نزاع خليجي لا ناقة لها فيه ولا جمل (بينما صمدت نيجيريا التي، رغم الأزمات والحروب الداخلية، لديها منظومة حكم صلبة وترفض الإملاءات الخارجية. أما جيبوتي فدفعت ثمن انحيازها أن سحبت قطر 450 جنديا كانت تنشرهم على الحدود مع أريتريا لخفض التوتر، فسارعت الأخيرة لاحتلال أراض من جيبوتي في الساعات التي أعقبت سحب القوة القطرية).
وإذا كان سلاح التمويل، «الهزيل أصلا»، وفق تعبير «لوموند»، غير مجدٍ كثيراً، فـ»كوتة» الحج أمر مختلف لأنها تمس مباشرة أحلام البسطاء من مسلمي تلك البلدان، نظرا لما يمثله هذا الركن من أهمية ـ وحلم ـ في حياة أي فرد.
فصل آخر من هذا التسلسل، تكرر عندما استقبل العاهل السعودي، الملك سلمان ابن عبد العزيز، رئيس وزراء باكستان، نواز شريف في جدة الاثنين الماضي.
رسميا، ووفق البيانات الرسمية، بحث «الطرفان العلاقات الثنائية والقضايا ذات الاهتمام المشترك»، لكن الحقيقة، وفق صحيفة «إكسبرس تربيون» الباكستانية، نقلا عن مصدر دبلوماسي تابع المحادثات، فالملك سلمان «حشر في الزاوية» ضيفه بسؤال مباشر: هل أنت معنا أم مع قطر؟ في موقف يشبه في اللسانيات، ما قاله نائب الرئيس الأمريكي السابق، ديك تشيني، للرئيس برويز مشرف في إسلام آباد بُعيد هجمات 11 أيلول (سبتمبر): يا معنا يا ضدنا، وتذكّر اننا نستطيع إعادتكم إلى العصر الحجري.
٭ كاتب صحافي جزائري