الوشم.. تزينت به المرأة الأمازيغية و"يتمرد" به الشباب المغربي
الرباط - الأناضول
لقرون عديدة كان الوشم من السمات المميزة للمرأة الأمازيغية في المغرب، قبل أن يستهوي الرجال، وخاصة الشباب المدافعين عن كون الجسد ملكية فردية، ويحق لهم الخط والرسم عليه، ما يعني التحرر من القيود الدينية والتقاليد الاجتماعية.
والوشم هو مجموعة من الرموز والخطوط الحاملة لدلالات متعددة، وتفضل النساء وضعه غالبا على الوجه واليدين، للتزيين وإثارة انتباه الرجل، لما يضفيه من جمال على المرأة، بينما يضعه بعض الشباب في مختلف أنحاء الجسد.
و"الأمازيغ" هم مجموعة من الشعوب الأهلية، تسكن المنطقة الممتدة من واحة سيوة غربي مصر شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى الصحراء الكبرى جنوبا.
** "عربون محبة"
عن بقايا خطوط ورموز ما تزال تطبع أجزاء من وجهها، تقول رحمة الزياني (67 عاما)، وهي ربة بيت وأم لستة أبناء، من سكان مدينة مكناس (شمال)، للأناضول: "هو عربون محبة وضعته أمي لي حين كنت في سن المراهقة".
وتتابع موضحة: "يحمل هذا الوشم، الذي رسم على جسدي بوخز إبر عصية عن التحمل، دلالات كثيرة مهما ارتقينا في الأسباب، وعرجنا في السبل، فلن نحسن فقهها كما فعل أجدادنا، فهي رسوم بركة ورحمة وجمال ورثناها من آبائنا".
فوجهها الذي نال منه الدهر، وخط عليه الكثير من التجاعيد، بدا غير قادر على النيل من الوشم، لا لشئ، كما تقول "رحمة"، إلا أن "هذا الوشم يستمد قوته من بركة الأجداد والآباء".
** "حُر في جسدي"
أما عمر الزموري، وهو طالب جامعي في مدينة الرباط يدرس الفلسفة، ويكاد يغطي جسده كاملا برسوم وخطوط عصية عن الفهم، فيقول بانفعال للأناضول: "هذا جسدي، وهو ملكي، ولي كامل الحرية في التصرف به كما أشاء".
ويمضي قائلا: "أخط على جسدي أفكاري التي أستمدها من الطبيعة، وتشعرني أني سيد نفسي، لست بعبد مملوك لأي سيد، هي ليست بخطوط، إنما رسم متكلم لجسد لا يقوى على الكلام، صوت يقول: إني إنسان يركع لأحلامه وأفكاره، لأحيى حياة عبقها الحرية".
** من الجماعية إلى الفردانية
ووفق فاطمة فايز، وهي أستاذة جامعية باحثة في علم الإنسان، بجامعة "ابن زهر" في مدينة أكادير (جنوب)، فإن "الوشم هو شكل من أشكال الاشتغال على الجسد، عبر به ومن خلاله الأمازيغ عن وعيهم بأهمية الجسد، باعتباره مرآة للذات/الفرد، كجزء من الجماعة، فالبعد الهوياتي للوشم لا يمكن تجاوزه".
وتضيف فايز، في حديث مع الأناضول، أنه "في الماضي كان الوشم يعبر عن عمق المجتمع، كان يعبر عن روح الجماعة، فقد كان له أثر على وحدة الجماعة وعلى حس الانتماء الموحد، فيما أصبح اليوم يدلل على العكس من ذلك، وهي قيم التفرد والفردانية، وعلى حس الثورة على التقاليد وعلى المجتمع وقيوده".
وتشير إلى أن "ممارسة الوشم كانت منذ ما قبل التاريخ ممارسة معممة، يقبل عليها الرجال كما النساء، ومع مرور الوقت صار أكثر التصاقا بالمرأة؛ لأن بعده التزييني بات حاضرا أكثر من بقية الأبعاد، لكننا حاليا بتنا أمام ممارسة أخرى للوشم، يعد الرجال أكثر المقبلين عليها، لا ترتبط بالتراث، بقدر ما ترتبط بخلفيات ثقافية أخرى".
وتخلص الأكاديمية المغربية إلى أن "الوشم ابتعد كثيرا عن بعده التزيني، وبات شكلا من أشكال التمرد على المجتمع، وشكلا من أشكال الثورة على القيود الاجتماعية، إنها طريقة الشباب في البحث عن شخصية مميزة، تأخذ مسافة من المجتمع، الذي لا يحس أساسا بالانتماء إليه".
** أبعاد عديدة
ويرى رشيد الجرموني، وهو باحث في علم اجتماع التدين أن "الوشم يتميز بإحالته على مجموعة دلالات، يعد البعد التزييني أهمها، فقد كان يوضع على الوجه والذراعين والساقين والجذع، وكان عبارة عن رسوم هندسية ورموز دقيقة تحيلنا على فنون الزخرفة الأمازيغية المختلفة، التي تحضر في العمارة والنسيج والخزف والبعد الجنسي".
الجرموني يوضح، للأناضول، أن "الوشم كان من جهة يعبر عن نضج جسماني وجنسي، وبالتالي عن القدرة على تحمل أعباء الزواج ومسؤولياته، كما أن له دور زجري (ناهيا)، خاصة عندما يوضع على مناطق غير بارزة مرتبطة بالفعل الغريزي، كالبطن والصدر والأرداف، من أجل كبح الرغبة الجنسية خاصة لدى الفتاة".
ويضيف أن "هناك البعد الاجتماعي للوشم، حيث كان يعبر عن روح الجماعة، فقد كان له أثر على وحدة الجماعة وعلى حس الانتماء الموحد، كما أن له بعدا هوياتيا يتضح من خلاله الانتماء الاثني لواضعه".
ويلفت إلى بعده السحري كذلك، "فقد كان يلعب دور التعويذات والتمائم، وكان يستخدم لدفع الأرواح وسوء الحظ".
ويخلص الجرموني إلى أن "الوشم لم يعد يرتبط بالجانب الجمالي لدى المرأة فحسب، إنما دخل مرحلة جديدة دخلت بدورها بنية الحداثة، حيث يعبر من خلاله الشاب عن أن الجسد ملكية خاصة له الحق في أن يفعل به ما يشاء، كشكل من أشكال العصيان المجتمعي والفردانية، عبر الإصرار على تحرير الجسد من كل ما هو ديني وتقليدي، مع وجود أشخاص كثر يقلدون بالوشم شخصيات أخرى يتخذونها بمثابة نموذج يحتذى به دون وعي غالبا".
الوشم في تونس: من الأمازيغ إلى الجيل الجديدتفننت الشعوب منذ القدم في فن الرسم على الجسد بتعبيرات مختلفة ولغايات متنوعة. ويعتبر الوشم من أقدم تلك الممارسات، إذ ظهر في مختلف الحضارات على مر التاريخ.
في تونس، ظهر الوشم مع الأمازيغ، السكان الأصليين للبلاد، إذ يعتبر تراثاً عريقاً وموغلاً في الثقافة الأمازيغية وجزءاً من هويتها. يسمى باللغة الأمازيغية "تِكاز"، واقترن أساساً بالمرأة وبدرجة أقل بالرجال، فلدى غالبية النساء الأمازيغات وشوم.
يتخذ الوشم بعداً جمالياً لدى الأمازيغ ويعتبر من أهم وسائل زينة المرأة طوال حياتها، فهي التي توشم عند سن البلوغ لتعلن عبر الأشكال والرموز والرسوم دخولها مرحلة النضج. وتضع الوشم في مختلف مناطق جسمها، كالوجه والذراع واليد والصدر والنهدين والرجلين والمناطق الحساسة من جسدها، ليتحول إلى لوحة فنية تخاطب الآخر لإثارة إعجابه. فيصبح للوشم دلالة جمالية إغرائية. أما الرجال فيكتفون ببعض الوشوم في اليد والذراع والأرجل.
توشم الأمازيغيات على الخد علامة + التي تعني حرف تاء في الأمازيغية، وهو اختصار لكلمة تامطوت، أي الأنثى الجميلة
الرسوم التي تملأ جسد الفتاة ليست عبثية، ولكل رمز دلالاته. من أبرز الرسوم المنتشرة عند غالبية الأمازيغيات علامة زائد (+)، ترسم على الخد وتعني حرف تاء في الحروف الأمازيغية، وهو اختصار لكلمة "تامطوت"، التي تعني الأنثى الجميلة. كما تختلف معاني الرموز حسب موضعها في الجسد، فالتي ترسم على النهدين مثلاً تحمل دلالات الخصوبة.
كذلك مارس الأمازيغ الوشم لغايات طبية، إذ كانوا يعتقدون أنه يشفي من الأمراض ويطلب الخصوبة للعاقر، ويدفع الحسد والعين ويحمي من الأوبئة. فكانوا يوشمون نقطة بجانب الأنف للحماية من أمراض الأسنان، أو بجانب العين للوقاية من الأمراض التي تصيب العيون.
كما أن للوشم وظائف غيبية، وكان يعتقد أنه يبعد الأرواح الشريرة ويبطل السحر، ويبعد الفقر والبؤس، عن طريق الرسوم والرموز التي توضع بدقة متناهية.
ومن بين أكثر الرموز استعمالاً النحلة، الحلزون، الثعبان، سنابل القمح، الشمس، العقرب، النجوم، غصن الزيتون، ورموز أخرى تحمل معاني كثيرة، وبعضها يرمز لمكان كل قبيلة أمازيغية.
حول الوشم جسد الإنسان الأمازيغي إلى لوحة فنية مقروءة غنية بالرموز والرسوم، تروي للأجيال اللاحقة خصائص هذه الحضارة، وتعكس النظام القيمي والثقافي لتلك المجتمعات.
مع ظهور الإسلام وانتشاره في البلاد واعتناق الأمازيغ له، لم يتخلوا عن هذه الممارسة رغم تحريم الأحاديث النبوية للوشم، بل انتشر أكثر خصوصاً لدى المجتمعات القبلية والبدوية والريفية، وتوارثته الأجيال حتى الاستقلال تقريباً (منتصف القرن العشرين)، حينها سيصبح للوشم دلالات مغايرة.
مع ستينيات القرن الماضي والدولة الحديثة، أصبح للوشم غايات مختلفة تماماً، وبدأ يفقد طابعه الأصلي، ولم يعد يحمل دلالاته الأصلية. وبات من العيب أن توشم المرأة، واقترن فقط بالرجال، وبالمفهوم الشعبي بالمنحرفين أو العاطلين عن العمل.
تغيرت الرسومات وأماكنها، ولم يعد الوجه مساحة لها، وأصبحت توضع أساساً على الرقبة والذراع والكتف والأرجل. ولم يعد للوشم أي رابط جماعي، وأصبح لكل رسم أو رمز دلالة تخص صاحبها فقط. وانتشرت رسوم ورموز القوة، مثل صور النسر والعقرب والتنين والأفعى، إضافة إلى الحرف الأول من اسم شخص ما، أو اسم الحبيبة.
السجون بدورها كانت حاضنة لعمليات الوشم بطريقة سرية، إذ يتم إدخال أدوات حادة بطرق غير قانونية، أو صنعها في السجن، ويجري استعمال حبر الأقلام الجافة. ويلاحَظ أن غالبية الرسوم التي توشم في السجن هي رسوم تحمل معاني الحرية والحياة، مثل الشمعة والمرساة والشمس.
مع الألفية الجديدة، ومع ما يعرف بأبناء الجيل الجديد، بدأ الوشم يفقد خصوصياته التقليدية ووسائله الأولية، وجانبه الهوياتي الأنتروبرلوجي، تأثراً بالمتغيرات التقنية. لكنه عاد ليشمل الذكور والإناث على حد سواء، كما بدأ مع الأمازيغ، وجميع الفئات العمرية. وأصبح ظاهرة في الشارع التونسي.
ولئن استعمل الأمازيغيون واللاحقون الذين توارثوا هذه العادة، خصوصاً في المجتمعات الريفية، اللون الأخضر وبصفة أقل اللون الأسود (استعمل الأسود لإبعاد السحر والأرواح الشريرة بحسب المعتقدات)، فإن أجساد الجيل الجديد أصبحت تحمل كل الألوان. وترجع عودة انتشار الوشم بطرقه الجديدة لانتشار المحالّ المختصة به، والتي أصبحت تستقطب الكثيرين، خصوصاً في فصل الصيف الذي يمثل مناسبة للتباهي بهذه الزخارف وإبرازها للعيان.
أما أسباب الإقبال على التاتواج فعديدة وتختلف من شاب إلى آخر، فالشباب اليوم يبحثون عن الاختلاف في المظهره بعيداً عن المألوف. كما أن للتقليد دوراً كبيراً في ذلك، إذ أصبح الشباب يقلّدون المشاهير من فنانين وممثلين ورياضيين حتى في نمط عيشهم.
كذلك لعبت العولمة بوسائلها المختلفة دوراً مهماً في انتشاره. ففي شهر رمضان 2015، عرضت قناة تونسية خاصة مسلسلاً تونسياً يحمل بطله وشماً يمتد من عضده إلى كتفه، ولقي المسلسل نجاحاً كبيراً ونسب مشاهدة عالية، لتنتشر على إثره عمليات التقليد للرسم الذي حمله البطل. فأصبح الوشم رمزاً لـ"أولاد مفيدة"، عنوان المسلسل الذي اعتبره البعض تجسيداً لحياة فئة كبيرة من الشباب التونسي.