حي على الصلاة.. حي على الفلاح
كنت قد عدت لتوِّي من عملي، وقد أرهقني ونال من نشاطي، فوجدتني أجلس على الأريكة مثل طفلٍ شاكٍ، فالحياةُ هذه الأيام أصبحت تدور رحاها بسُرعة كبيرة، ويشعر الإنسان أنَّه ترْسٌ صغيرة، في آلةِ الحياة الصَّعبة العسيرة، ترْسٌ صغيرة جدًّا وسط مَجموعة كثيرة؛ بحيث لا يستطيع المرءُ أنْ يلتقطَ أنفاسَه اللاهثة، وراء لقمة العيش البائسة، التي بالكاد تسد جوعته، وتكفيه أنْ يواصِلَ حركته.
جلست أنتظر أنْ يُوضَع الطَّعامُ، وكنت ما وضعت شيئًا في جوفي منذ الصباح، ووضع الطعام فأكلت منه وأنا لا أشعُر بطعم شيء؛ بسبب شدة التعب والتغيُّر، بدأت أنا وأولادي ببسم الله، وتناولنا ما قدر لنا من خيرات الله، التي أنعم بها علينا في عُلاه، وبعد ما انتهينا حمدنا الله: "الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا وجعلنا مسلمين"، وبدأ الجسد يَهْوِي إلى الأرض.
وبعد قليل سَمِعْت المؤذنَ وهو يؤذن لصلاة العصر، وظللت أردِّد وراءَه، حتى قال: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، كان جميعُ جسدي يشكو من التَّعب، فقرَّرْتُ أن أنام، وبعد ما أستيقظ أصلي ما فاتني بالتمام، ولكني تذكرت عقوبة التهاوُن في الصلاة، وفضل صلاة العصر، وتلك الأحاديث التي حضَّنا النبي الكريم فيها على الصلاة.
وقد ذكر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه مَن حافظ على صلاةِ الفجر وعلى صلاة العصر، دَخَلَ الجنة، وأبعد عن النار، فقد روى البخاريُّ ومسلم قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن صَلَّى البرْدَيْنِ، دخل الجنة))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لن يَلِجَ النارَ أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها))، والبردان: هما صلاة الفجر والعصر.
وقد فصل ذلك النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنَّهار، ويَجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرُج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلُّون))، وتذكرت قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].
ثُمَّ إنَّه جاءت إلى نفسي الحائرة، وأشغلت ذهني تلك الخاطرة، فأخذَتْ تُراوِدُني وتقول لي: إنَّما أنت متعب ومعذور، فإنَّ الله لا يكلف نفسًا إلا وُسعها، وأنت ليس في وسعك أن تقومَ من مكانك، وأخذت تُلِحُّ عليَّ، وأنا لا أعرف ماذا أفعل؟
فربي ينادي عليَّ، ورسوله الكريم يَحضنا على الصلاة، لكن نفسي الأمَّارة بالسوء تخذلني، وتشدني إلى الأرض بالأوتاد، وتأْبَى إلا إن توثقني في الأصفاد، ونفسي تأبَى في عناد!
وفجأة تذكرت شيئًا غريبًا، قلت في نفسي وأنا أحاورها وأجادلها: لو أنَّ رئيسي في العمل طَلَب مني أن أعمل ساعاتٍ إضافية مقابلَ أجر، فهل كنت أرفض أو أوافق؟ قلت: بالطبع سوف أوافق، وأكون سعيدًا؛ لهذا الدخل الإضافي، ويكون عيدًا، ثم نظرت إلى نفسي وقلت لها: أيَّتُها النفس الخائرة المتعبة الكسولة، الدُّنيا ليست دارَ راحة واستقرار، فكيف أركَن إليك؟ هل آمنت الموت حين أَوَيْت إلى فراشك؟ فلعلَّ نومتَك التي تنامينَها لا تقومين بعدها إلاَّ في ضيق القبور، فاستعدي الآن، واعملي في حبور، ما دُمْتِ في دار المهلة، وأعدِّي للسؤال جوابًا، وليكن الجواب صوابًا.
ثم وجدتني كأنَّني دَبَّت فِيَّ الروحُ والحياة من جديد، فذهبتُ وتوضَّأت، ووضعت ملابسي على جسدي، وقلت لنفسي: "حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح".
الصلاة وأهميتها، والتحذير من تركها والتساهل في أدائها؛ لأننا جميعًا نرى من بعض الناس وخاصة من طبقة الشباب تساهلاً وتفريطًا في أمر الصلاة وكأنهم لا يعرفون أهمية الصلاة ووجوبها وقدرها وفائدتها.
لقد خف ميزان الصلاة لدى البعض، وتساهلوا في شأنها؛ فتجد أسرة كبيرة في بيت من البيوت لا يصلي منهم إلا أفراد قلائل، وبعض البيوت ربما لا يحضر الصلاة منهم أحد، وتجد الشوارع والأسواق مكتظة بالناس في أوقات الصلاة، وتجد من الناس من يصلي أحيانًا ويترك أحيانا وكأن الأمر سنة وليس بواجب، وتجد منهم من يصلي يومًا واحدًا في الأسبوع فقط وهو يوم الجمعة مشابهًا والعياذ بالله لحال النصارى الذين لا يصلون إلا يومًا واحدًا في الأسبوع وهو يوم الأحد ومن الناس من يصلي الصلوات كلها إلا الفجر فحاله كحال من يصوم ثم يفطر قبل الوقت فيصبح صومه كله باطلاً وصدق الله جل جلاله إذ يقول: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾.
إنها الصلاة يا عباد الله التي أمر الله جل جلاله بالمحافظة عليها دائمًا وأبدًا في الحضر والسفر والأمن والخوف والصحة والمرض ولم يرخص لأحد في تركها بل لم يسقطها حتى في أحرج الظروف وأحلك المواقف في حالة القتال والنزال: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ حتى الصبي الذي لم يبلغ مأمور بها يقول صل الله عليه وسلم ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر ) ولم يعذر أحدًا في تركها إلا المرأة الحائض والنفساء.
الصلاة التي هي غذاء الروح وقوة البدن والصلة التي بين العبد وبين ربه.
الصلاة التي كانت قرة عين النبي صل الله عليه وسلم كان يحن إليها ويتلهف عليها ويقول لبلال بن أبي رباح أرحنا بها يا بلال.
الصلاة هي العبادة الوحيدة التي فرضها الله سبحانه وتعالى على نبينا صل الله في السماء بلا واسطة وفرضت خمسون صلاة حتى خففت إلى خمس صلوات ومع ذلك يتركها البعض ويتساهل في أدائها مع أنها خففت من خمسين إلى خمس.
الصلاة أكثر الفرائض ذكرًا في القرآن الكريم لأنها عمود الإسلام كما أخبر بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام فقال (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) وهي الركن الثاني من أركان الإسلام فلا يقبل الله من العبد زكاة ولا صيامًا ولا حجًا إذا تركها.
الصلاة التي أمر الله بها جميع الأنبياء والمرسلين يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴾ ويقول سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ وينطق الله المسيح بن مريم في مهده فقال: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ ويقول إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ أما نبينا صل الله عليه وسلم فقد قال له ربه: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
الصلاة غذاء القلوب وزاد الأرواح لأن فيها الثناء والدعاء والتوسل والرجاء والاعتصام والالتجاء والتواضع والانحناء لله رب العالمين فمن عصى ربه بتركها فقد شابه إبليس الذي رفض السجود لله رب العالمين يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾.
الصلاة هي البلسم الشافي والدواء الكافي والغذاء الوافي هي خير عدة وسلاح وأعظم وسيلة للفلاح والنجاح أودع الله فيها من الأسرار والحكم والغايات والمقاصد ما الله به عليم يقول ابن القيم رحمه الله (الصلاة مجلبة للرزق حافظة للصحة دافعة للأذى مقوية للقلب مبيضة للوجه مفرحة للنفس مذهبة للكسل منشطة للجوارح شارحة للصدر مغذية للروح منورة للقلب حافظة للنعمة دافعة للنقمة جالبة للبركة مبعدة من الشيطان مقربة من الرحمن).
عباد الله:
إن ترك الصلاة أمر خطير وشر مستطير لأن ترك الصلاة ليس مجردَ معصيةٍ من المعاصي وإنما هو كفر أكبر مخرج من الملة يقول الله سبحانه وتعالى مخبرا عن أصحاب الجحيم: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴾ يقول النبي صل الله عليه وسلم ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ، ويقول ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) يقول أبو الدرداء رضي الله عنه ((أوصاني خليلي أن: لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر)).
لقد اهتم الإسلام بالصلاة وشدد كل التشديد في طلبها وحذر أعظم التحذير من تركها فمن حافظ عليها حفظه الله ومن ضيعها ضيعه الله يقول النبي صل الله عليه وسلم (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر العمل وإن فسدت فسد سائر العمل) يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى...) يقول الله: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾.
الخطبة الثانية
إن نبينا صلى الله عليه وسلم أوصى أمته في اليوم الذي مات فيه بالصلاة فقال (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) وقام صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من أيام حياته والناس صفوفًا في صلاة الفجر فنظر إليهم صلى الله عليه وسلم ثم تبسم ضاحكًا حتى هّم الناس أن يفتنوا في صلاتهم فيا ترى هل يرضى الواحد منا أن ينظر إليه رسول الله صل الله عليه وسلم يوم القيامة فيعلم عنه أنه لا يصلي.
كيف لو كشف رسول الله صل الله عليه وسلم الستار فرأى أصحاب المحلات التجارية في أوقات الصلاة يبيعون ويشترون؟! كيف لو كشف الستار فرأى الناس في صلاة الفجر نائمين ! كيف لو كشف الستار فرأى الشباب في وقت صلاة المغرب في الملاعب يلعبون وعلى القنوات والمواقع يتهافتون فهل سيبتسم أم سيقول سحقًا سحقًا وبعدًا بعدًا.
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي في صلاة الفجر أفاق فلما أفاق قال أصلى الناس قالوا نعم قال ها الله لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
فلنحافظ على هذه الصلوات الخمس محافظة شديدة ولنحذر من ترك الصلاة تركًا كليًا أو جزئيًا فمن يرضى أن يموت وهو قاطع للصلاة التي هي الصلة بين العبد وبين الله وكيف يستغني العبد عن الله ويقطع الصلة التي بينه وبين مولاه: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾.
كما يجب علينا أن نأمر أهلنا وأبنائنا بالمحافظة عليها وأن نحذرهم أشد التحذير من تركها يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾، ويقول سبحانه وتعالى عن إسماعيل عليه السلام: ﴿ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾، ويقول لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾.