أربعة عقود حافلة
بحلول يوليو العام المقبل، يكون إقليم الشرق الأوسط قد أتم أربعين عاماً بدأت مع الشهر ذاته، تموز 1978. تلك، بما فيها العقد المُستَهَل مطلع هذا الأسبوع، أربعة عقودٌ من الزمان العربي، وعمقه الدولي الأوسع، غير عادية، بأي المقاييس شئت أن تقيس. كلٌ منها حفل بأحداث شاب لبعضها وُلدانٌ. أذهل بعضٌ منها مُرضعةً فوّلت الأدبار، ومات الرضيع عطشاً وجوعاً. جفّت أنهر، تيبّست مزارع، وتصحرت أرض، فجاع أقوام وسِعَ خيرُ أرضهم ذات أيام كل الناس، في دارهم ومن حولهم. فجأة، دوّى في الظلمات هاتفٌ زعم أن ذلك كله قد ولّى لغير رجعةٍ، ولولا بقية أملٍ راح ينعش القلوب في غرف الإنعاش، لجرف اليأس ما تبقى من نبض، ولكاد أن يُقْبَل من أهل الزيف القول إن اللامعقول صار هو سيد العقول.
نعم، ما أسرع دوران الأيام، يداولها بين الناس ربُّهم أجمعين. مطلع يوليو 2018 تُطوى في سجل صحف الزمان أربعة عقود، سوف يحار رُصّاد التاريخ بأي الأوصاف يصفون أحداثها الجسام، والأرجح أن يخالف بعضهم بعضاً بأي مِداد يروون مآسي ويلاتها. يوم أول فبراير (شباط) 1978 عاد الخميني من منفاه الفرنسي إلى إيران. كم هي الملايين التي صفقت مبهورة بانتصار «ثورة الإمام» على تسلّط حكم الشاه محمد رضا بهلوي وجبروته؟ كثيرة. كنتُ أحدهم. إنما، كم من الوقت سوف يمر كي يتضح كم أنه مخادع كان ذلك الانبهار، وأن نهار تلك العودة كان مطلع عقد من المآسي سيطول حتى 1988؟ بضع سنين فقط. إذ لم تكد تمر سنتان على عودته، حتى أبان الهابط بمطار طهران على سلم طائرة الخطوط الفرنسية، عما كان يخطط له مذ زمن المنفى بالنجف. «ثورة» يزعم أنها «إسلامية» مهمتها أن تتزعّم المواجهة مع «الشيطان الأكبر»، حتى لو كلّف الأمر أن تعصف باستقرار دولٍ، وأن تعبث بأمن شعوب المنطقة.
بدا من عجائب ذلك العقد أن تصطف أحزاب تراوح بين أقصى اليسار الشيوعي وجموح التيار القومي، إلى جانب الخميني، وأن تصفق له منابر وأبواق تعبّر عن تلك القوى السياسية في العالم العربي، لمجرد الزعيق المتواصل: «تسقط أميركا». لكن سنوات طويلة سوف تمضي قبل انكشاف ما هو صاعق. لقد تبادل الخميني رسائل مع إدارة الرئيس جيمي كارتر أثمرت ضغط واشنطن على قادة الجيش الإيراني للحيلولة دون تسلمهم السلطة خلفاً للشاه. كشفت ذلك وثائق نشرتها مواقع وصحف عدة، بينها صحيفة «الغارديان» - عدد 11/6/2016. هل سيغيّر ذلك من اقتناع مستحكمٍ بعقول ساسة ومثقفين عرب يتوهم عداء إيران الخميني لأميركا وإسرائيل؟ كلا، بالطبع.
بين 88 و1998 مرت عشر سنوات عاشتها المنطقة كما القابض على الجَمر. أسوأ تواريخ ذلك العقد كان نهار غزو صدام حسين للكويت (1/8/1990) وما جرّ على أرض العراقيين، ومعهم العرب أجمعين، من ويلات لم يزل بعض آثارها ينفخ سموم الشكوك والفُرقة حتى الآن. ثم أتى عقد 98 - 2008 ليحمل للمنطقة تبعات «غزوة 11/9/2001»، أم جرائم إرهاب العصر الزاعم أنه مسلم، فيشتعل إقليم الشرق الأوسط منذ ذلك الحين بحروب إقليمية وفتن طائفية خرجت من الرحم الخبيث لتنظيم «القاعدة» ذاته، ولم تزل تستعر حتى اليوم.
أربعة عقود حافلة، لن تتسع هذه العجالة للتوسع في الحديث عن جِسام أحداثها. إنما أختم باستحضار حدث سوف يشكل هو الآخر أحد أهم مراجع البحث في محطات تلك العقود الأربعة. ذلك هو صدور العدد الأول من جريدة «الشرق الأوسط» يوم الثلاثاء الموافق رابع يوليو 1978. أمس، الثلاثاء أيضاً، أتمت هذه الصحيفة عامها التاسع والثلاثين وأصدر فريقها الدؤوب اليوم أول أعداد عامها الأربعين. عندما يُكتب تاريخ صحافة العرب خارج ديارهم، سوف يُشار لأول صحيفة عربية دولية بكثير من التقدير لجهدها الكبير في توثيق أربعة عقود عربية وعالمية غير عادية. من المهم أن يبدأ التفكير، منذ الآن، في كيفية الاحتفاء بأربعين «الشرق الأوسط» المقبل، على نحو يليق بجريدة العرب الدولية، وبكل من أسهمت وأسهم في أن تواصل التألق طوال أربعة عقود. والأمل أن هذا التفكير قائمٌ بالفعل.
عن الشرق الأوسط