تعددت الأسباب والقصيدة نقلت عذابات القيد: شعراء عرب خلف القضبان
عبد الواحد لؤلؤة
عقوبة السجن معروفة منذ أقدم الأزمان وفي أغلب بلاد العالم. فقد كانت تُعد «تأديباً» أو «انتقاماً» لمن يقترف جرماً أو يقوم بعمل يؤذي الناس أو الدولة. وفي الماضي القريب كانت عقوبة السجن تُعد «إصلاحاً». ولا علم لي بسجين خرج من السجن صالحاً، أو قد اصطلح أمره وسلوكه، بل ربما يعود كثير من «أصحاب السوابق» إلى ارتكاب جرائم أخرى، يعودون بعدها إلى السجن «لتجديد سوابقهم».
ولم تقتصر عقوبة السجن على المجرمين وأمثالهم، إنما امتدت إلى «أصحاب الرأي» من أهل السياسة، بل إلى الشعراء، في خصوماتهم مع أهل الحكم، في كثير من بلاد الله. ولم يسلم شعراؤنا العرب، على مَرّ العصور، من مذاق السجن، وثقل الأصفاد.
تذكر كتب تاريخ الأدب العربي أن أول شاعر عربي دخل السجن هو عُدي بن زيد التميمي النصراني من الحيرة بالعراق، وقد توفي في الجاهلية حوالي عام 590م، أي قبل الهجرة بحوالي خمس وثلاثين سنة. كان هذا الشاعر فارساً شغل عدداً من المناصب الرفيعة في بلاط الأكاسرة في المدائن ثم في بلاط المناذرة في الحيرة، وقد استوزره النعمان بن المنذر، لكن «دسائس القصور» أدت إلى حبسه ثم إلى قتله. وطوال مدة سجنه كان عدي ينظم شعراً من الشكوى يرفعها إلى الملك النعمان، تأكيداً لبراءته من تلك التهم التي أودت به إلى السجن:
ألا من مُبلغُ النعمان عني
وقد تُهوى النصيحة بالمغيب
أتاك بأنني قد طال حبسي
ولم تسأم بمسجون حريب
ويذكر عدي تقلب صروف الدهر بالملوك مثل كسرى وسابور الذين لم يبقَ منهم مذكور
ثم صاروا كأنهم ورقٌ جفّ
فألوَت به الصَّبا والدَّبور.
والنغمة السارية في شعر عدي هي الإنكسار والتقصير عن التحدي والعناد.
وثمة الحطيئة الشاعر المخضرم الهجّاء، الذي لم يجد ما يكفي ممن يهجوههم فهجا نفسه.
إنحنى ينظر في بركة ماء فرأى وجهه، فقال:
أبت شَفتايَ اليوم الا تكلماً
بهجو فما أدري لمن أنا قائلهُ
أرى ليَ وجهاً قبّح الله خلقَه
فقُبحّتَ من وجهٍ وقُبّح حامله
ولم يسلم أحد من هجاء الحطيئة، بما في ذلك أباه وأمه، فحبَسه الخليفة عمر (رض) تأديباً له على أمل أن يتوب، وفي السجن أرسل إلى الخليفة يستعطفه بهذه الأبيات.
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرخٍ
زُغبِ الحواصل، لا ماءٌ ولا شجَرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قعرِ مُظلمةٍ
فاغفِر عليك سلامُ الله يا عُمرُ
فرقَّ له الخليفة وأطلق سراحه، على الا يعود لمثلها.
وفي العصر الأموي، نقرأ عن يزيد بن مُفرِّغ الذي أثار سُخط الحكام عليه.
كان يزيد حِميَرياً يمنياً، إتصل بأحد أبناء زياد بن أبيه، الذي أعترف معاوية به أخاً. وقد وُلّي عبّاد بن زياد بن أبيه أقليم سجستان فصحبه الشاعر، لكن سرعان ما دبّ الفساد بين الشاعر وولي نعمته، أدى بالشاعر إلى هجاء عبّاد والسخرية من لحيته الضخمة فقال فيها:
ألا ليتَ اللحى كانت حشيشاً
فنَعلفَها خيول المُسلمينا
فحقد عبّاد على الشاعر وأضمر له السوء، فبدأ بحبسه وتفريق أمواله على من كان مديناً لهم ثم أطلقه من السجن، فراح الشاعر يطوف بالبلاد وينشر الهجاء في زياد بن أبيه وأولاده ومنهم عبّاد. وكان جميع الولاة يخشون مساعدة شاعر هجّاء لم يسلم من لسانه حتى الحكام، فاستدعاه البلاط الأموي وعنَّفه، فالتجأ إلى الموصل حيث توفي عام 688م.
كان شعر ابن مُفرّغ عنيفاً في الهجوم على الحاكم، وهو على النقيض من شعر الإنكسار والتذلل. بهذا المعنى يكون هجاء الحاكم نوعا من الشعر السياسي في تاريخ العرب.
وفي نهايات العصر الأموي ثمة الشاعر الثائر على الأمويين عبد الله الطالبي الذي قتله أبو مسلم الخراساني لأنه رفض الإنصياع للعباسيين. وفي شعره من اللوعة والحزن أثناء سجنه ما يتعارض مع روح التمرد في شعر يزيد بن المفرِّغ مثلاً. فهذا الشاعر الثائر على الأمويين لم يلقَ الرعاية التي كان يأمل من العباسيين، لذا راح يناشد المروءة من الناس جميعاً:
ألا أحدٌ يأوي لأهل محلةٍ
مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا!
وثمة عليّ بن الجهم العربي البغدادي الذي لم يتحمل سطوة الحاكم ولو كان الخليفة المتوكل العباسي، الذي وقعت له معه نفرةٌ فأمر بحبسه. لكن الشاعر كان عالي الهمة، وفي قصيدته التي قالها في محبسه تأثرٌ بأساليب الفلاسفة التي شاعت في العصر العباسي من مناقشة العلاقة بين الأضداد. فهو لا يسترحم ولا ييأس: وهو يناقش المتوكل وقاضيه مناقشة منطقية: لماذا لم تتبعا شرعة النبي في عدم الحكم غيابياً على الناس؟ يتحدى الحاكم في حكمه بالحبس على شاعر عالي الهمة:
قالوا حُبستَ، فقلتُ ليس بضائري
حَبسي، وأيّ مُهنّدٍ لا يُغمدُ؟…
أوما رأيتَ الليثَ يألفُ غِيله
كِبراً، وأوباش السّباع تَردَّدُ؟…
صبراً فإن اليوم يعقبه غدٌ
ويَدُ الخلافة لا تطاولها يدُ.
في شعر علي بن الجهم استمرار للتحدي في شعر يزيد بن المفرّغ. وفي شعر الطالبي امتداد للخنوع وطلب العفو من الحاكم، وهما ضدان من شعر المساجين في التراث العربي.
وماذا عن أكبر الشعراء في تراثنا: المتنبي؟ في شبابه ذاق المتنبي الحبس على يد والي حمص. لكن شموخ همته تخاطب السجن بهذا التحدي الساخر:
لو كان سُكناي فيك مَنقصةً لم يكن الدرّ ساكن الصدف!
وقد عرف المتنبي نوعاً من السجن يوم لم يسمح له كافور الإخشيدي بمغادرة مصر.
هنا نجد الروح الوثابة تتجاوز:
أيّ مكانٍ أرتقي
أيّ عظيم أتّقي
وكل ما قد خلقَ الله
وما لم يخلق
مُحتقرٌ في نظري
كشعرةٍ في مفرقي
تراه في قصيدة ضد هذا الحبس المعنوي حرّض شعبَ مصر على حاكمه، وأي شعر أكثر من هذا مثقلاً بالسياسة والتحريض:
نامت نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها
حتى بَشِمنَ وما تفنى العناقيد
ما كنتُ أحسَبُني أحيا إلى زمنً
يُسيء لي فيه عبدٌ وهو محمود
وربما كان أبو فراس الحمداني أشهر الأمراء الشعراء المساجين في تراثنا العربي.
فهو لم يدخل السجن في القسطنطينية لسبع سنوات لجريمة اقترفها أو لثورة ضد حاكم، او لمذهب سياسي لا يرضي المسؤولين في الدولة، كما هو الحال مع أغلب السجناء السياسيين في عصرنا الحاضر، شعراء كانوا أو غير شعراء. كان أبو فراس يحارب الروم دفاعاً عن مُلكِ ابن عمه سيف الدولة الحمداني. لذا كان شعره في السجن حسرةً وحنيناً إلى الحرية، لا هجوماً على حاكم ولا تضرُّعاً وخنوعاً. وقصيدته في مخاطبة الحمامة في هديلها الحزين أبلغ مثال على شعر سجين شاعر غير ثائر ولا خانع.
وفي عصرنا الحاضر ثمة مثال على شاعر نظم من السجن قصائد عجيبة جمعها في كتاب بعنوان «حصاد السجن». ذلك هو الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897 ـ 1977). هذا شاعر متشرِّد عجيب. قابلتُه في صيف 1963 في «مقهى الهافانا» بدمشق وكان يحدِّثني دون توقف عن هروبه من العراق عام 1941 إثر اتهامه بالنازية، وهو منها بريء. وخلال لجوئه إلى إيران وإقامته ثماني سنوات فأتقن اللغة الفارسية وترجم «رباعيات الخيام» بما يعدّه العارفون أفضل ترجمة. حكمت عليه القوات الفرنسية ـ البريطانية في دمشق بالسجن، فقضى ثلاثة وأربعين يوماً وكتب عدداً كبيراً من القصائد والمقطعات عن حياة السجن بروح من التمرد والفكاهة. في جميع ما كتب يخاطب الشعب، حتى في تعبيره عن حزنه الشخصي لتهمة باطلة. ومن سجنه بلبنان يصف «حكاية» أربع دول تسعى لإطلاق سراحه:
حكومة لبنان قد راجَعت
فرنسا لفكّي فلم تسطِعِ
وراحت فرنسا إلى الأنكليز
تُراجعهم، جلّ من مرجِعِ
وقد راجع الإنكليز العراق
ولليوم بالأمرِ لم يُصدَعَ
فقلتُ اعجبوا أيها السامعون
ويا أيها الخلق قولوا معي:
أمِن قوّتي صرتُ أم ضِعفهم
خطيراً على دولٍ أربعِ؟
وقصيدته «ليل السجن» تزيد عن خمسين بيتاً، هي اللوعة البشرية بعينها حول شاعر سجين بتهمة باطلة.