معرة النعمان السورية: وعن أهل العواصم فاسألوا
رند صباغ
شمال غرب سوريا، وفي النقطة الواصلة بين حماة وحلب، تقع مدينة معرة النعمان، حاملةً تاريخاً طويلاً، شهد على حضارات حلت وزالت، بعمارها وخرابها، بفظائعها وأمجادها، لكن المدينة بقيت وازدهرت لتروي لنا، حاملةً «رسالة الغفران» لابنها المعري في يد، وفي الأخرى جدارياتٍ هائلةٍ من الفسيفساء.
تتبع معرة النعمان إدارياً لمحافظة إدلب السورية، وتحيط بها أكثر من ثلاثين قرية وبلدة تتبع لها، من بينها مملكة إيبلا التاريخية، حيث اعتبر موقع المعرة استراتيجياً منذ أقدم العصور. فقد كانت مملكة أفاميا في جنوبها، ومملكة شاليسين قنسرين شمالها، بالإضافة إلى كونها تقع على الحزام الزراعي في الشمال، وتعتبر نقطةً وسطى ما بين وادي نهر العاصي غرباً والبادية شرقاً، صارت محط راحةٍ للمسافرين من تجار وغيرهم، ما زاد في ازدهارها والطمع بها.
اشتهرت المدينة في كونها مسقط رأس الشاعر الشهير أبو العلاء المعري، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب 150 ألف نسمة، في حين يصل عدد سكان المنطقة مع القرى المجاورة إلى 400 ألف، قبل ان يتم تهجير الكثير منهم إثر قصف النظام السوري وحلفائه.
أصل التسمية
تتعدد النظريات حول تسمية المدينة بـ «معرة النعمان» حيث يشير بعض الباحثين إلى أن اسمها الأصلي هو «أرّا» ما يعني «القديمة» والذي ورد ذكره في اللقى الأثرية الآشورية، عندما كانت تعتبر واحدة من المدن التابعة لحماة أثناء العهد الروماني، أما في العهد البيزنطي فيقال إن اسمها صار «مارّ» وفي العباسي سميت بالعواصم، فيذكرها أبو العلاء المعري في قصيدته.
متى سألت بغداد عني وأهلها
فإني عن أهل العواصم سآل.
في حين يذهب فريق آخر للاعتقاد بأن كلمة «معرة» جاءت من اللفظة السريانية «مغرتا» وهي المغارة أو الكهف، وذلك ما يعيده أصحاب النظرية لكثرة الكهوف فيها. أما لاحقة النعمان، فلها قصتان رئيسيتان، الأولى تنسبها إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وهو صحابي وكان والياً على حمص، بيد أن ابنه توفي أثناء عبوره في المعرة، ليقيم له عزاءً لأيام فيها، أما النسبة الثانية فتقول أن النعمان هو النعمان ابن المنذر.
لمحة تاريخية عن المدينة
عرفت معرة النعمان أسوةً بالمنطقة كلها معظم الحضارات التي تعاقبت على بلاد الشام، فغزاها الآشوريون واليونان والبيزنطيون والفرس والرومان، ويعتقد بأنها كانت محطة للقوافل العابرة من حماة إلى حلب ومن منطقة الغاب والبحر إلى بادية الشام وبالعكس، ودخلها الفاطميون عندما انتصروا على البيزنطيين في عام 996 لتعود إلى ملاك حلب.
بيد أن التاريخ الفارق في حكاية معرة النعمان أتى مع الحملة الصليبية الأولى، حيث قام الصليبيون بحصار المدينة في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1098 وبعدما قاوم أهلها مدة أسبوعين، قام بعض وجهاء المدينة بالتفاوض مع قائد الفرنج بوهيموند، ليعد الأهالي بالحفاظ على حياتهم في حال التوقف عن القتال والانسحاب من الأبنية. ولكن مع فجر يوم 12 كانون الأول/ديسمبر 1098 دخل الصليبيون المدينة وقاموا بمذبحة كبرى، وسبي الكثيرين، وحسب ابن الأثير، فإن عدد الضحايا تجاوز المئة ألف. بيد أن أمين معلوف لا يتوقع أن عدد السكان في حينها تجاوز العشرة آلاف، في حين يذكر المؤرخ الفرنسي رالف دي كين بعض الحوادث، فيقول أن «الصليبين قاموا بطبخ جثث البالغين في قدور، وشك الأطفال في أسياخ والتهامهم مشويين». وكذلك كتب المؤرخ «Alberti Aquensis»، الذي شارك في تلك الحملة: «لم تتوان جماعتنا عن أكل قتلى الأتراك والعرب، بل وكانت تأكل الكلاب أيضاً».
ولكن التاريخ الدامي لم ينته، فبعد عدة قرون وتحديداً عام 1832 بالتزامن مع استيلاء إبراهيم محمد علي الباشا المصري عليها، تم تجنيد الكبار والصغار وتسخير الناس في أعمال شاقة، وتم الاعتداء على المدينة ونهبها في عام 1840 لتعود إلى العثمانيين في العام نفسه الذين استمروا في تخريبها إلى خروجهم في 1918 وانضوائها تحت لواء الحكومة العربية.
معالم المعرة
تمتاز المعرة بوفرة المباني الأثرية التي ما زالت صامدة إلى يومنا هذا، ومن أهمها ربما خان مراد باشا أو ما يعرف اليوم بمتحف المعرة، إلى جوار قلعة المعرة وخان أسعد باشا العظم، والمدرسة النورية وضريح أبي العلاء المعري، إلى جانب التراث الإسلامي الذي تجلى في عدد من المساجد الهامة كالجامع الكبير ومسجد نبي الله يوشع.
في حين تذكر المراجع التاريخية وجود سورٍ ضخم أحاط يوماً بالمدينة، إلا أنه تهدم بالكامل على يد عبد الله بن طاهر سنة 821 فتذكر الكتب حادثةً بأن صالح بن مرداس كان قد حاصر المعرة ورماها بالمناجيق، ليخرج أبو العلاء المعري للقياه من أحد البوابات، والتي يقال إنها كانت سبعاً، وهي حلب، وحمص، وشيس، وحناك، ونصرة، والجنان والكبير.
مدينة أبي العلاء
اشتهرت معرة النعمان بشكل واسع، لارتباطها باسم الشاعر أبي العلاء المعري، صاحب رسالة الغفران، حيث كانت المدينة مسقط رأسه وتوفي فيها عام 1507. وفي أربعينيات القرن الفائت تم تحويل ضريحه إلى مزار سياحي يجاوره مركز ثقافي، والذي أصبح بدوره نقطة رئيسية من علامات المدينة، حيث يمتاز البناء بطابع أثري، وترتكز عمارته على الزخارف الغنية، ليطل مدخله إلى باحة مكشوفة على ضريح الشاعر أبي العلاء المعري، وكان المركز الثقافي قد تم إنشاؤه بناءً على اقتراح الأديب الراحل طه حسين زمن الوحدة بين سوريا ومصر، ليتم إحداثه عام 1960 وشارك في الافتتاح عدد من الشعراء الكبار مثل بدوي الجبل، إلى جانب محمد مهدي الجواهري الذي انطلق من هذا المهرجان، وألقى قصيدةً في المعرة، كان مطلعها:
قف بالمعرّة وأمسح خدّها التّربا
واستوح من طوّق الدنيا بما وهبا
أما قبر المعري فيتوضّع ضمن إيوان يجاوره مدخلان يؤديان إلى قاعة المكتبة العلائية (نسبة لاسم الشاعر) والتي كانت تضم خزائن خشبية تحتوي على مجموعة ضخمة من الكتب، إلى جانب آثار الشاعر أبي العلاء وما كتب عنه الأدباء والشعراء.
خان مراد باشا (متحف المعرة)
بناه مراد جلبي أمين بعيد دخول العثمانيين إلى سوريا عام 1595 والذي كان أمين الخزائن السلطانية، وكان الهدف من الخان أن يكون مكاناً لاستراحة وإطعام المسافرين وأبناء السبيل إلى جانب كونه فندقاً وتكية، وذلك حسب ما كتب على اللوح الذي يعلو قنطرة المدخل، ويعتبر هذا الخان الأكبر في سوريا، ويضم حماماً وسوقاً، وقد تم تحويله إلى متحف للفسيفساء، ليقال بأنه أكبر متاحف الفسيفساء في بلاد الشام.
ويتألف إلى جوار المبنى الأساسي من 18 بستاناً، و22 طاحونة مائية في حوض العاصي، و35 ناعورة للسقاية، إلى جانب المكتبة الأثرية التي تحمل اسم مكتبة ابن الشحنة.
القلعة التاريخية
ما تزال بقايا قلعة المعرة في الطرف الشمالي من المدينة شاهدةً على الزمن، ويقال أنها بنيت في العصور الوسطى، ليتم تشييدها على هضبة كلسية أُناء العصر البيزنطي، لكن الأيوبيين قاموا بترميمها وتحصينها أثناء حكمهم، ويتحدث باحثو الآثار عن أنها كانت تضم عشرة أبراج ضخمة، وأقبية ومستودعاتٍ ومسجداً، لكنها بدأت تشهد الخراب منذ سقوطها في عهد المغول عام 1260.
الصناعة والزراعة
إلى جانب أهمية معرة النعمان التاريخية، وموقعها على الخط التجاري، فقد اشتهرت بعدد من الصناعات، ومن أهمها صناعة سلال القصب المخصصة للاستخدام الزراعي في الدرجة الأولى، كما تشتهر المدينة بصناعة الحصر، والتي تتم صناعتها من نبات يسمى البردي. وكبقية مدن المنطقة، فإن صناعة الصابون تعتبر واحدةً من الصناعات التقليدية في معرة النعمان، إلى جانب صناعة بيوت الشعر اليدوية من شعر الماعز، وبسبب توافر التربة الصلصالية، ازدهرت في المدينة وقراها تاريخياً صناعة الفخار والخزف، كما تميزت بصناعة الزجاج الذي يقال أن مدينة أرمناز التي تجاورها كانت المهد الأول لصناعته في العالم، ليصبح حرفةً دارجةً في منطقة إدلب.
أما بالنسبة للزراعة، فتشتهر المعرة بزراعة الحبوب بكافة أنواعها، ومن أهمها القمح والشعير والعدس، إلى جانب الكمون وحبة البركة والكزبرة والشوندر السكري، والبطاطا، والخضراوات الموسمية بالإضافة إلى القطن، ويساعد موقع المدينة على الحزام الزراعي بوجود أنواع مختلفة من الزراعات المروية.
معرة النعمان والثورة
عرفت معرة النعمان أولى المظاهرات في الثورة السورية في وقتٍ مبكر، وذلك في 25 آذار/مارس 2011 لتستمر المظاهرات بشكل دوري، وفي 10 حزيران/يونيو 2011 حدثت أولى المواجهات العنيفة جداً، حيث قام النظام بإطلاق النار بمشاركة المروحيات العسكرية ما أودى بحياة 11 شخصاً من المتظاهرين، وذلك فيما عرف حينها بـ «جمعة العشائر». ونمت وتيرة الغضب الشعبي، وحركة الانشقاقات من الجيش ومؤسسات الدولة إلى ان خرجت المدينة بشكل كامل عن سيطرة النظام الســوري في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2012.
لكن المدينة أثارت غضب النظام، لتقع ضحية القصف اليومي باستخدام الطيران الحربي والمروحي إلى جانب المدفعية والصواريخ، ليتم تدمير القسم الشرقي منها بشكل كامل، وتشير التقديرات المتوفرة إلى وصول عدد الضحايا فيها إلى أكثر من 1400 في السنوات الأولى للثورة، كما سيطرت بعض الفصائل المتشددة (جبهة النصرة) التابعة لتنظيم القاعدة على المدينة، ليحصل أكثر من صدام مع الأهالي في عام 2017 الذين تظاهروا ضد وجود هذه الفصائل مطالبين إياهم بالخروج رافعين علم الثورة السورية الذي ترفضه هذه الفصائل بشكل قاطع، وتمت مقابلة مطالبهم بإطلاق النار على المتظـــاهرين كما فعل معهم النظام من قبل.
في النهاية، كما مرت جيوش كثيرة على المدينة، لتعرف الدمار والموت والحقد، كانت معرة النعمان تعود مرة تلو أخرى، بهمة أهاليها، لتبقى مدينةً تشهد على التاريخ، وهكذا تمر اليوم هذه المدينة في مخاضٍ على طريق الحرية، وإن كانت من أولى الأماكن التي خرجت عن سيطرة النظام، بيد أنها لم تشهد الاستقرار بسبب تحول قوى الأمر الواقع فيها مرةً تلو الأخرى، ومحاولتها التأثير على نسيج المدينة الثــقافي والاجتماعي، إلى جانب القــصــف الــجــوي الذي لم يهدأ لسنواتٍ، وأدى إلى نزوح الكثير من أهلها، ووقوع أعداد كبيرة من الضحايا، لكن ربما ما لا يدركه المارون عنوةً في معرة النعمان، أنها مدينة تعرف كيف تقاوم، وتعرف كيف تستعيد الحياة مهما قسى عليها الزمن.