تلوث العقلية العربية المعاصرة
عبد اللطيف مجدوب
مدخل لإشكالية عامة
في ضوء عواصف ومتغيرات ؛ شهدتها الجغرافية السياسية العربية منذ الثورة الخمينية 1979 ، ومرورا بحرب الخليج ثم انتهاء بما أصبح يدعى بالربيع العربي ؛ سنحاول ملامسة وتتبع كل العناصر والعوامل الفاعلة والمصاحبة للعقلية العربية ، من عدة مواقع مؤسساتية ؛ أسرية ومجتمعاتية وإعلامية وسياسية .. قبل أن نرصد انعكاسات ثقافات أخرى وموقف الانسان العربي منها ؛ في أوروبا و العالم الغربي بشكل عام .
ولعله من المنطقي ؛ وتبعا لوجود هذا الانسان في سياقات سوسيوقتصادية متعددة ؛ أن نتساءل في البداية ، لماذا كان الانسان العربي الحالي عموما ؛ بحكم محدودية ثقافته ؛ يتصدر مزاجه هويته الفكرية ؟ .. لماذا هو سباق إلى الكشف عن مواقفه وردود أفعاله تجاه المحيط بالتذرع وراء مزاجيته وتقلبها أو لنقل احتكامه إلى نزواته ليجعل منها أحيانا معيارا في تقييم العالم من حوله ؟!
موطن الانسان العربي ومهده الأول
تعم البيئة الأسرية التي نشأ فيها هذا الإنسان عناصر متنافرة ؛ تسودها وما زالت بالكاد السلطة الأبوسية ، وإن كان لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي الريادة في احتلال مكانة مركزية داخل منزل الأسرة ؛ مما همش أو بالأحرى انقلب على أدوار ديناميكية في تنشئة الفرد ، وتمرير القيم كلبنات أساس في تشكيل شخصية الفرد ، لتصبح هذه الأخيرة ؛ وبناء على عدة دراسات وأبحاث ميدانية ( سوسيولوجية تربوية ) Educational Sosiology شخصية مهزوزة تستند إلى الإنوية كصفة ملازمة لصاحبها ؛ يضحى هذا الأخير في ضوئها شخصية أنانية ؛ تسعى دوما إلى إشباع نزواته ، لا تتقبل النقد وتعتبره مسا بحريته وكرامته ، ومن حقه أن يثور ويتمرد مهما كانت الدواعي ، طالما كانت هذه الأخيرة لا تتوافق ولا تتوازى مع نزواته وما يصدر عنها .
هذه الشخصية ؛ وبهذه المواصفات الأولية ؛ إذا أطلت على المجتمع من بابه الواسع ، من حيث مؤسساته التربوية والإعلامية تجد ما يبررها ؛ إذ أن المجتمعات العربية في معظمها مازالت تروج لقيم النكوص والخنوع والقيم اللاأخلاقية محكومة بعلاقات يسودها النصب والاحتيال ، في غياب شبه تام لقيم العدالة وصيانة الحقوق ، فتتغول النرجسية داخل الفرد العربي ، ويضحى لديه مفهوم الشاطر والحاذق والذكي ... هو المتحايل على القانون والقيم بكل الوسائل.
شخصية باستثناءات ولكن ..
نصادف ؛ في غمار بحثنا عن مواصفات الإنسان العربي ؛ نماذج نشأت داخل أسر " محافظة" ذات انتماءات أو تعاطف مع تيارات راديكالية متشددة ؛ سنية وشيعية أو بالأحرى سلفية متطرفة ، فيتشبع فكره منذ وقت مبكر بقيم نبذ الجديد والعقلانية المجردة .. وتعتبر كل عمل فيه إعمال للفكر ، أو تجاوز ما درج عليه الأقدمون "بدعة" ، هذا فضلا عن نظرته إلى الآخر والمحكومة في الغالب بالشعور بالكراهية والعداء .
نعم يجب الوقوف عند استثناءات ولو أنها ضعيفة الأثر والتأثير ، كتيارات علمانية وحداثية ؛ يزعم أصحابها أنهم يصدرون ؛ في أفكارهم ومواقفهم ؛ عن قيم وقناعات منفتحة على العالم ، غير مقيدين لا بأغلال الدين ولا بطابوهات المجتمع .. لكن حداثتهم ؛ على ما هي عليه ؛ تظل منعزلة لا يتوفر لها مناخ اجتماعي صرف للعطاء وتبادل التأثير ، ويمكن وصف وعيهم " بالوعي الشقي" المتقوقع حول ذاته .
جاليات عربية أو ما يشبه الغيطوهات
كما تجب الإشارة إلى جاليات عربية بأوروبا وأمريكا.. خلقت لنفسها؛ داخل هذه المجتمعات ؛ بيئة عربية بما يشبه الغيطوهات في التعامل والتسوق بمقاهيها ومطاعمها ودور عبادتها... تمضي على إقاماتهم السنوات... ويرفضون البتة الاندماج في المحيط الثقافي العام لهذه البلاد أو تلك... بيد أن أبناءهم الذين ولدوا هناك؛ على النقيض من هذا؛ يجدون أنفسهم مضطرين للاندماج في المناخ العام... ويرفضون في سن معينة العودة إلى أرض الأجداد، أو مجرد صلة الرحم بذويهم... وهكذا تنشطر معظم العائلات المهجرية إلى شطرين زيجة الآباء أو التعصب للجذور، وزيجة الانفتاح، ولو أن نسبة هذه الأخيرة تظل ضعيفة محكومة بالميديا تارة وإملاءات الأسرة تارة أخرى.
خصوصيات بيئة العقلية العربية
لا غرو في أن هناك داء فتاكا وقاتلا لكل نهضة فكرية عربية ؛ يتمثل في ارتفاع نسب الأمية الأبجدية داخل الأوساط الاجتماعية العربية ، إلى جانب سواد الفكر الخرافي الذي تتغذى منه معظم الزيجات العربية فضلا عن احتلال البحث العلمي بالوطن العربي رتبة جد متدنية في السلم العام . هذا ولا يمكن الإغفال عن وجود مناخات سياسية هي أقرب إلى أنظمة الحكم الشمولي بيد أسر حاكمة ما زالت مهيمنة على الثروات والمتصرفة فيها ؛ بيئة سياسية ملوثة كانت لها وما زالت بالكاد اليد الطولى والأثر البليغ في توليد فكر متطرف كبديل للواقع السياسي الفعلي ؛ نجد له تمظهرات في المرجعيات الدينية المتطرفة ، يتبنى خطاب العنف على أيدي شيوخ سلفيين أو وهابيين وشيعيين ؛ جسدت موجة الإرهاب التي تجتاح العالم توجهاتها في إقصائها واجتثاثها لكل فكر معارض له ، وما الحركة الداعشية إلا عنوانا لها وللنظرة الأحادية المتطرفة التي تنظر منها إلى العالم.
ظواهر فوبيائية طارئة عمقت الشعور بالكراهية
حبلت العشر سنوات الأخيرة بظواهر فوبيائية Phobic Phenomena نجمت بالأساس عن الاعتداءات الدموية التي جرت أحداثها بالعديد من العواصم الأوروبية على أيدي أطراف داعشية ، وما كان لها من وقع في ميلاد عنصرية مقيتة تجاه العنصر العربي بوصفه إنسانا عنيفا سفاحا غير مرغوب فيه ، ومن ثم التقطتها العقلية العربية كقضبان نارية في تأجيج نيران الحقد والكراهية تجاه الإنسان الآخر ، وما كان لها من تداعيات في ظهور ثقافة ؛ في الأوساط العربية عموما ؛ تنادي بضرورة إبادة هذا الآخر بكيفية أو أخرى .
تشخيص أوليات العقلية العربية
من خلال استعراضنا للبيئة السوسيوقتصادية التي نشأ فيها العنصر العربي ، وموجة التأثيرات الإعلامية الغربية التي يتعايش معها عن قرب أو بالمباشر ، يمكن للباحث أن يهتدي إلى العناصر الأولية في تشكيل عقلية هذا الإنسان ، يمكن التأشير عليها في النقاط التالية :
* مرجعياته أكثرها متطرفة ؛
* مناظراته ؛ تنتهي في أحسن الأحوال ؛ إلى التزام المواقف المهادنة والمسالمة إذا لم تكن قطعية وإقصائية ؛
* عواطف مشبوبة وبنزقية بادية في مواقفه ونظرته إلى من حوله ؛
* تعليمه يقوم على شحن المعلومات وتفريغها في غياب أدوات التحليل وإعمال الفكر ؛
* ما زال تمجيد ماضي أسلافه مدخلا لكل مقارنة نفسه بالآخر ؛
* هيمنة ثقافة الاختلاف فقط للاختلاف وليس للبحث عن عناصرالتوافقات ؛
* فقدانه للثقة في الواقع الذي يجري حوله ، لطالما لا يحمل عناصر انتمائه ؛
* حياة تحكمها الارتجالية في غياب كل تنظيم أو برمجة ؛
* مواقفه منحصرة بين مع أو ضد ، والحياد فيها ضعيف ؛
* نظرته إلى الغرب مطبوعة بخلفية متطرفة , ومزاجية فجة مضمرة أكثر منها واقعية .
إثنيات ثقافية ودينية عامل تشظي
تكتسح أرجاء العالم العربي إثنيات دينية وثقافية ؛ خلقت من هذه المجتمعات أقليات مستقلة بطقوسها الدينية وكياناتها ، تعلق الأمر بالقبطية أو المارونية أو المسيحية العربية .. أو إثنيات ثقافية كالأمازيغية والحسانية ... وهي في عمومها تشكل عامل ميز بين ثقافة وثقافة أو بين ملة وأخرى ، ورغم غياب دراسات سوسيولوجية رصينة في رصد العلاقة بين هذه التجمعات الإثنية ، فإننا نكاد نجزم بوجود جدران سميكة فاصلة بين هذه الثقافات . فالأمازيغي مثلا متعصب للغته وثقافته ، وينادي بتكريس لغته داخل المرافق العمومية ، ويزعم أن الجغرافية في تاريخها ملك له ، والعنصر العربي مجرد فاتح "وغاصب" لها . ومن ثم كان لهذا الاحتكاك الإثني حساسية ما زالت ملقية بظلالها على القرار السياسي في مستوياته المتقدمة ، فضلا عن التميز الذي أوجدته لنفسها بين عقلية عربية وأخرى أمازيغية ، رغم أنه في نهاية المطاف عامل تشظي وتصدعات في بنية المجتمع الواحد .