الأقصى وكسينجر.. و"عرب النّار"
خالد عمر بن ققه
رغم انشغال العرب والمسلمين، أفرادا وجماعات وأحزابا ودولا، بقضايا ذات طابع محلّي، تجسّد مقولة «يا روح ما بعدك روح» إلا أن أحداث المسجد الأقصى تُشكَّل اليوم على أرض فلسطين عنوانا لاستمرارية المقاومة، وفي خارجها حيث يوجد المسلمون، أكثرية كانوا أم أقلية، هي حالة وجدانية جامعة، صحيح لم تتحول بعد إلى رفض مطلق، يدفع إلى جهاد حقيقي، يتجاوز مخاوف السياسيين، ولكنها آتية لا محالة، وما يؤخرها هو الاستئناس والاستناد لما يقوم به أولئك المرابطون حول المسجد الأقصى.
واضح أن دول العالم كلها وخاصة إسرائيل، لم تستفد من دروس الماضي لفعل المقاومة الفلسطيني، والصمود على الأرض بتكلفة عالية، وذلك عبر ثلاث انتفاضات رئيسة غيرت أساليب العمل السياسي، وحالت دون تحقيق نتائجها المرجوة عوامل كثيرة، فقد الانتفاضة الأولى فى الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 1987، وقًدر عدد الضحايا من الفلسطينيين بألف و300 شهيد، و160 قتيلا إسرائليا، وهدأت تلك الانتفاضة في العام 1991، وتوقفت نهائياً مع توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.
أما الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي تعرف أيضا باسم انتفاضة الأقصى، فقد اندلعت في 28 سبتمبر 2000 وتوقفت فعلياً في 8 فبراير 2005 بعد اتفاق الهدنة الذي عقد في قمة شرم الشيخ، وتميزت تلك الانتفاضة مقارنة بسابقاتها بكثرة المواجهات المسلحة وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، وكانت تكلفتها البشرية أعلى من الأولى، حيث راح ضحيتها ( 4412) شهيدا فلسطينيا و(48322) جريحا، في حين بلغت خسائر الجيش الإسرائيلي 334 قتيلا ومن المستوطنين 735 قتيلاً وليصبح مجموع القتلى والجرحى الإسرائيليين 1069 قتيلا و4500 جريح، وعطب 50 دبابة من نوع ميركافا وتدمير عدد من الجيبات العسكرية والمدرعات.
أما الانتفاضة الفلسطينية الثالثة أو انتفاضة القدس، والتي سُميت أيضا بـ «انتفاضة السكاكين»، فقد انطلقت مع بداية أكتوبر 2015 في قطاع غزة، وفي دولة الكيان الإسرائيلي، من خلال موجة احتجاجات وأعمال عنف لا تزال متواصلة إلى الآن، وتميزت هذه الانتفاضة بقيام فلسطينيين بعمليات طعن متكررة لعسكريين ومستوطنين إسرائيليين، وكذلك قيام إسرائيليين بطعن فلسطينيين، وأيضا إعدام بعضهم ميدانيا بحجج منها: القول بمحاولتهم تنفيذ عمليات طعن.
واليوم يفجر الفلسطينيون المرابطون حول الأقصى انتفاضتهم الرابعة، على خلفية البوابة الإلكترونية التي زرعتها إسرائيل حول المسجد الأقصى، غير منتظرين لنجدة قريب أو بعيد، وفي موقفهم هذا صمود عهدناه منهم منذ احتلال بلادهم في 1948، وفيه أيضا احراج لنا جميعا في إقامتنا حدودا فاصلة بين دولنا، وفيه أيضا مساءلة للجماعات الإرهابية التي تدمر دولنا من الداخل، ومنها على سبيل المثال ما يعرف بجماعة «أنصار بيت المقدس»، التي تُنفِّذ مشاريع الأعداء في المنطقة، وتعمل على عزل الفلسطينيين عن محيطهم العربي، وخاصة مصر.
الواقع أن المرابطين حول الأقصى يقيمون الحُجَّة علينا، وهم نار تشتعل ضد العدو الإسرائيلي ومشاريعه المستقبلية لتهويد الأثار الإسلامية، يُسَطِّرُون ملحمة كبرى، غير مَفْتونين ولا خائفين من تلك الرسائل التي يتبادلها إخوانهم اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر رسائل الهوتف الذكية (الواتساب مثلا)، ومنها نقلهم حرفيا لحوار مترجم أدلى به هنري كيسنجر ـ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لجريدة «ديلي سكيب» الأمريكية في يوليو 2016.
من بين ما جاء في ذلك الحوار قوله: «إن الحرب العالمية الثالثة باتت على الأبواب وإيران ستكون هي ضربة البداية في تلك الحرب.. لقد أبلغنا الجيش الأمريكي أننا مضطرون لاحتلال سبع دول في الشرق الأوسط نظرًا لأهميتها الإستراتيجية لنا، خصوصا أنها تحتوي على البترول وموارد اقتصادية أخرى ولم يبق إلا خطوة واحدة، وهي ضرب إيران.
من غير الواضح إن كانت تلك مجرد توقعات أم هي تخطيط استراتيجي، لكن حين نواصل ما قراءة حوار كيسنجر تسيطر علينا مخاوف حقيقة، لا يُنْهي تأثيرها إلا ما يقوم به الفلسطينيون اليوم في القدس، لنتابع حديث كسينجر.. عندما تتحرك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون الانفجار الكبير والحرب الكبرى قد قامت، ولن تنتصر فيها سوى قوة واحدة هي إسرائيل وأمريكا، وسيكون على إسرائيل خلالها القتال بكل ما أوتيت من قوة وسلاح، لقتل أكبر عدد ممكن من العرب واحتلال نصف الشرق الأوسط.. إن طبول الحرب تدق بالفعل في الشرق الأوسط، و الأصمُّ فقط هو من لا يسمعها.. وإذا سارت الأمور كما ينبغي ذ من وجهة نظره «فسوف تسيطر إسرائيل على نصف منطقة الشرق الأوسط».
لم تعد خطط تدمير دولنا خفية، بل أن وجود الأجانب ضمن الجماعات الإرهابية في كل من سوريا والعراق (داعش على سبيل المثال) هو تحضير مقصود لتلك الحرب المتوقعة، والدليل ما ذكره هنري كسينجر: «أن الشباب الأمريكي والأوروبي قد تلقوا تدريبات جيدة خلال القتال في السنوات العشر الماضية، وعندما ستصدر لهم الأوامر بالخروج إلى الشوارع لمحاربة تلك (الذقون المجنونة) فسوف يطيعون الأوامر ويحولونهم ــ يقصد المسلمين ـ إلى رماد».
وحتى لا يتحقق حلم كسينجر، ورؤيته للأحداث، ومنها: «تمكُّن أمريكا (الماسونية) ــ كما يسميها ـ من بناء مجتمع عالمي جديد، لن يكون فيه مكان سوى لحكومة واحدة تتمتع بالقوة الخارقة» وأيضا تحويلنا إلى رماد، فإن الفلسطينيين اليوم بصمودهم يحوِّلُون واقع إسرائيل إلى نار.. هم بلا شك وقودها، لكنهم يُعلُّون من قيمة المواجهة، وفي ذلك حماية لنا على المستوى القيمي والوجودي، حتى لا نصبح يوما ما رماداً تذروه الرياح في يوم عاصف.
عن الاهرام