الاقتصاد العربي والأزمة الخليجية
الخميس 10 آب / أغسطس 2017.
د. جواد العناني
الأزمة الخليجية الحالية التي انطلقت يوم الخامس من يونيو (حزيران) من هذا العام 2017 قد مضى عليها الآن أكثر من شهرين، وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فإن الأزمة أمام خيارين: الأول أن تدخل في بيات طويل دون حدوث أي مؤثر كبير عليها يغير من اتجاهها أو من وتيرتها وشدتها، والثاني هو التوجه نحو التصعيد وسياسة «إما غالب أو مغلوب»، وتحدث الهزات المتتابعة التي لا تحمد عقباها ليس على اقتصاد الخليج فحسب، بل وعلى الوطن العربي كله.
وبالطبع، فإن استمرار الأزمة وتصعيدها له أبعاد دولية كذلك، فالعالم الذي يشهد تقلبات سريعة في أسعار صرف العملات وفي أسعار النفط، والذهب، والبورصات، لن يبقى في منأى عن آثار تلك الأزمة خاصة وأن الحساسية الاقتصادية الدولية مرتفعة جداً.
وإذا تضافرت أزمة الخليج مع عدد كبير من القضايا المطروحة والمقلقة عالمياً، فإن أثرها سيكون أكبر بكثير من المتوقع. فعدا عن أزمة الخليج فإن الاتحاد الأوروبي يعاني من تبعات التصويت البريطاني المؤيد للخروج من الاتحاد (البريكست)، خاصة وأنه تبين حتى للمسؤولين البريطانيين حجم التعقيد الناجم عن العلاقة مع باقي دول الاتحاد الأوروبي بعد سبعة وأربعين عاماً من عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي.
وهنالك الأزمة المتزايدة في تقلبات الظرف السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، بسبب الحملات المتتالية على رئيس الولايات المتحدة الحالي دونالد ترامب، بهدف إجباره على الاستقالة، أو التصويت بعدم الثقة فيه. وبالمقابل فإن علاقات الولايات المتحدة مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية خصوصاً، والصين وأوروبا بدرجة أقل، قد تخلق واقعاً صعباً جديداً. فالعقوبات الاقتصادية المفروضة بقانون على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، والتهديد بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية البيئة المقرة في مؤتمر باريس في نهاية عهد الرئيس الفرنسي «أولاند»، واستمرار أكثر من (30) حرباً محلية وإقليمية في العالم، كل هذه التطورات لا تنبئ بأخبار سارة، بل وتلقي بظلالها الثقيلة على وضوح الرؤية الاقتصادية، ويُعقد من إمكانية التعامل معها.
وحتى نربط بين المتغيّرين، وهما احتمالية الأزمة الخليجية وتصاعدها ولو ببطء من ناحية، واستجابة المتغيرات الاقتصادية العربية معها من ناحية أخرى، لا بد لنا أن نستذكر بعض الحقائق الأساسية التي تعين على وضوح الاحتمالات والنتائج من منظورها الصحيح.
الحقيقة الأولى أن اقتصادات دول الخليج التي كانت تشكّل من حيث الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 60% من الناتج الإجمالي لكل الدول العربية في فترات ارتفاع اسعار النفط فوق حاجز الـ(100) دولار للبرميل الواحد، قد تراجعت الآن إلى أقل من 50% بالدولار الدولي. ووفق الاحصاءات المتاحة للعام (2016)، فإن الناتج الإجمالي السنوي لا يشكّل حالياً أكثر من 47% من الناتج المحلي العربي الإجمالي، أما الناتج المحلي السعودي (618) بليون دولار دولي، فهو يساوي اقتصادات عشر دول عربية.
أما الحقيقة الثالثة فهي أن عدد سكان الخليج يبلغ حوالي (51) مليون نسمة بمن فيهم الأجانب المقيمون فيها، والذين يقدرون بثلث مجموع السكان على الأقل، بينما يبلغ تعداد الوطن العربي المقدّر في نهاية عام (2016) حوالي (395) مليونا، أي أن ثُمن سكان الوطن العربي يقطنون الخليج ويحوزون على نصف دخل الوطن العربي.
أما الحقيقة الرابعة فهي أن معظم الدول العربية تعتمد في دخلها من العملات الأجنبية بين (20%-60%) على تعاملاتها الاقتصادية مع دول الخليج، بما في ذلك الاستثمارات، والمساعدات دون مقابل، والتبرعات، والقروض الميسرة من صناديق التنمية الخليجية أو العربية الممولة في معظمها من دول الخليج، ومن السياحة والنقل والخدمات الخليجية الأخرى. ولكن الأهم هو الحوالات من العاملين العرب في دول الخليج والتي تشكّل رصيداً هاماً لبعض الدول العربية مثل الأردن، ولبنان، وسوريا، ومصر، وتونس، والمغرب، والسودان، وبالطبع اليمن.
والحقيقة الخامسة أن دول الخليج متداخلة في بعضها البعض رغم التنافس الكبير فيما بينها، والذي ازداد حدة بعد البدء بتنفيذ البرامج الساعية لتنويع اقتصادات الخليج بعيداً عن النفط والغاز، وأي ترتيبات جديدة تخل بتلك العلاقة سيكون لها نتائج وخيمة على اقتصادات دول الخليج كلها.
لا نريد أن نقول ان إسرائيل هي الفائز الأكبر من احتمالات تفكك مجلس التعاون، أو تراجعه أو تقلصه، ولكن الواضح أن هذه ستكون ضربة قاسية لكل الدول العربية، وبخاصة تلك الدول التي ترتبط اقتصاداتها بحكم الجوار، والتاريخ، والتحالفات السابقة وغيرها مع دول الخليج برباط اقتصادي واجتماعي وسياسي واستراتيجي متين.
والخشية كل الخشية أنه إذا استمرت هذه الأزمة لفترة طويلة حتى لو بقيت على وتيرتها الحالية دون تصعيد كبير، فإنها سوف تضع ضغوطاً متزايدة على الدول العربية الأخرى لأخذ مواقف من هذا الفريق أو ذلك. وإذا استمر الحصار ضد دولة قطر، فإنها ستكون مضطرة إلى الرد على المقاطعة، مما يعزز من فرصة تذويب مجلس التعاون أو تقليصه.
وحيث إن دول مجلس التعاون تواجه تحديات متزايدة في الإقليم، وزيادة استهداف لها من الدول الثلاث غير العربية في المنطقة، ومن تراجع في مداخيلها وزيادة في ضرائبها وبخاصة على المقيمين فيها، أو الزائرين لها، فإن الوطن العربي سيضطر للبحث عن بدائل حتى يتمكن من تعويض مداخيله المتراجعة من دول الخليج.
لا نريد أن نذكّر أبناء الوطن العربي كله بما تفعله إسرائيل، وما تستغله من انشقاق الصف العربي الكلي والإقليمي لكي تنفذ مخططاتها في الأرض المحتلة، وبخاصة القدس.
المطلوب الآن هو تعقيل المواقف السياسية بالفهم الاقتصادي والواقع الاقتصادي، ولكن مطلوب أيضاً رصّ الصفوف لمواجهة المخاطر التي تحيط بنا من كل جانب.