هجاء فلسطين في مديحهم لها!
إبراهيم نصر الله
من أسوأ المظاهر، في كثير من الكتابات الفلسطينية والعربية عن فلسطين، أنها تختزلها في أسماء محددة، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وتتحدث عن هذه الأسماء باعتبارها، وحدها، الهوية الثقافية، الإنسانية، النضالية، لوطن المائة عام من الجراح النازفة.
يكتب هؤلاء، منطلقين من بديهية أنهم يحبون فلسطين ويقفون معها، ويدافعون عن حريتها وحقّها في الحياة، ومكانها تحت الشمس؛ لكنهم وهم يفعلون ذلك، ولكل منهم أسبابه، يقومون باختزال فقير لفلسطين وتاريخها، ثقافيا، حين يتغنون بأسماء بعينها، وهي غالبا في إطار الكتابة.
نحن نعرف أن هناك كتابا وفنانين بارزين في كل الأمم، وهم عناوين كبيرة، لكن هذه العناوين الكبيرة ليست مُعلّقة في الهواء، لأنها ابنة الثقافة التي أنجبتها، ولا يمكن لثقافة فقيرة أن تُنتج مبدعين كبارا، فثمة روح هنالك في عمق تلك الثقافة، هي حاضنة ذلك الإبداع، عبر خصوصية محليّته التي تفيض نورا، وتغمر العالم كله في حالات كثيرة.
ولحسن الحظ، أن ليس هناك من يدّعي، علنًا، من الكتاب الفلسطينيين، أنه والد شعبه، فكلهم أبناء هذا الشعب، ويعترفون غالبا بفضل أساتذتهم، وفضل ثقافة شعبهم التي لم تنقطع.
منذ سنوات كان مختزلو الثقافة الفلسطينية يكتبون عن مبدعين أحياء، الآن قد رحلوا، وخسرنا برحيلهم الكثير، لكن تلك المقالات التي أتحدث عنها هنا، تتواصل اليوم بالوتيرة ذاتها، وبالسذاجة ذاتها، أو اللؤم ذاته.
كِتابُ الثقافة الفلسطينية لم يكتبه هذا العدد القليل من الكتّاب، بل ساهم فيه مبدعون وفنانون ومؤرخون ومخرجون وأساتذة ومسرحيون، إضافة إلى قلة من سياسيين بارزين. لماذا يتجاهل هؤلاء حين يكتبون الأثر الذي تركه شعراء مثل: إبراهيم طوقان، فدوى طوقان، أبو سلمى، سلمى الجيوسي، معين بسيسو، عبد الرحيم محمود، محمد القيسي، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، فواز عيد، مريد البرغوثي، وليد سيف، توفيق زيّاد، حنا أبو حنا، سالم جبران، نوح إبراهيم، أبو عرب، والأجيال الفلسطينية التالية لهؤلاء، مثلما ساهم محمود درويش، وسميح القاسم وغيرهما؟ لماذا لا يعترفون بأثر: محمود شقير، يحيى يخلف، رشاد أبو شاور، فاروق وادي، توفيق فياض، والأجيال التي تلتهم، وصولا لكتاب فلسطينيين يكتبون بلغات مختلفة في هذا العالم، مثلما ساهم إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني؟
ألم يساهم في تشكيل الهوية الثقافية الوطنية الفلسطينية أيضا: إسماعيل شموط، تمام الأكحل، ناجي العلي، سليمان منصور، نبيل عناني، محمود طه، أحمد نعواش، عزيز عمّورة، نصر عبد العزيز، وسواهم، والأجيال التي تلت؟
ألم يساهم في تشكيل الهوية الفلسطينية مؤرخون وباحثون ونقاد ومحامون مثل: خليل السكاكيني، عارف العارف، محمد عزت دروزة، أكرم زعيتر، أنيس صايغ، إدوارد سعيد، إحسان عباس، هشام شرابي، وليد الخالدي، جوني منصور، مصطفى كبها، عادل مناع، نمر سرحان، تودّد عبد الهادي، حنا نقارة، جواد بولص، إبراهيم أبو لغد، صالح برانسي، إلياس نصر الله، شريف كناعنة، سليم تماري، حنا ناصر، كارل صباغ، إبراهيم مهوي، والأجيال التالية لهم؟!
ألم يساهم في تشكيل الهوية الفلسطينية مخرجون سينمائيون مثل: باسل الخطيب، هاني أبو أسعد، صلاح أبو هنود، رشيد مشهراوي، مي المصري، محمد البكري، إيليا سليمان، والأجيال الجديدة من المخرجين؟!
وماذا عن المغنّين والفرق الفنية والمسرحية، أين موقع فرقة العاشقين، الفنون الشعبية، صابرين، الحكواتي، بلدنا، المخيم، مصطفى الكرد، أغاني الثورة الفلسطينية، ومن أبدعوا هذه الأغاني، وليد عبد السلام، فرقة وشاح، تانيا ناصر، أمل مرقص، ريم البنا، ريم تلحمي، عبد الحليم أبو حلتم، ومن جاورهم … ومن تلاهم؟
ماذا عن كتّاب ومبدعين وصحافيين غير فلسطينيين ساهموا في تشكيل الهوية الفلسطينية من أمثال: فيروز، مارسيل خليفة، الشيخ إمام، أحمد فؤاد نجم، أمل دنقل، زين العابدين فؤاد، عدلي فخري، إلياس خوري، ممدوح عدوان، شعراء الجنوب اللبناني، جوليا بطرس، سيد مكاوي، حاتم علي، حليم بركات، رضوى عاشور، ومحمد فليفل، اللبناني الذي لحن نشيد موطني…؟
لا يستطيع المرء في مقال كهذا أن يورد كل الأسماء التي ساهمت فعلا في تشكيل الهوية الفلسطينية، ولعل هذا هو أفضل ما في المقال، لأن عدد الأسماء التي لم تذكر هنا يفوق أسماء الأعداد الواردة، ولعل هذا أسوأ ما فيه لأنه لا يتسع المجال فيه لإيراد أسماء أخرى.
إن الغرض الأساسي من هذا المقال هو أن يقول إن فلسطين أغنى من مديح أولئك الذين يختزلونها في أسماء بعينها، سواء لربط أسمائهم بتلك الأسماء، أو الظهور بمظهر المترفع عن مشاهدة الحياة الغنية التي تولد كل اليوم، كما أن الغرض منه القول أيضا، إنه مقال ينقصه الكثير، ولا يستطيع كاتبه إلا أن يعتذر لكل الرائعين الذين لم ترد أسماؤهم على هذا التقصير الذي تفرضه المساحة المتاحة هنا، مع أنه يريد أن يقول بتقصيره إن الإحاطة بكل الأسماء المؤثرة أمر مستحيل.
مواصلة ذلك النوع الاختزالي لفلسطين، هو إنكار أيضا لدوْر الانتفاضات، والثورات، وآلاف الشهداء، والجرحى والأسرى، الذين أصبحوا جزءًا أصيلا من التكوين الروحي لهوية هذا الشعب.
سيكون من السذاجة إلى حدّ مرعب أن نقول مثلا: إن الهوية النضالية الفلسطينية كرّسها خمسة شهداء مثلا، أو عشرة، كما يصرّ أولئك الذين يهجون فلسطين بمديحهم لها، حين يكتبون عن إبداعها ومبدعيها بتلك الطريقة الفقيرة القاتلة.
وبعد:
هؤلاء لا يختلفون أبدًا عمّن يريدون إقناعنا اليوم بأن فلسطين هي رام الله وحدها، أو القدس وحدها، أو غزة وحدها..
فلسطين، هي فلسطين كلّها.