سلاحف الماء
عبد الحكيم برنوص
الناس كائنات مائية، قد تجد غنى عن السيارة والهاتف والأخ "غوغل"، لكن قطعا لا مندوحة لها عن الماء، منه انبثقت، وبه قوام حياتها، ولو ركبت المريخ. وما يميزها عن الكائنات الأخرى المائية، شغفها بالماء، وباللعب به والعوم في لججه الكبيرة والصغيرة، مهما علا شأنها أو صغر.
عندما يشتد أوار الشمس وتصير الدنيا جمرا قائظا ملتهبا، وتقترب الجوناء من الهامات وتضحى البيوت كالأفران المشتعلة، ويأتي "الشوم" من وراء الجبل يشوي الوجوه، تزحف جحافل البشر إلى حيث يوجد الماء، عذبا (في طور الانقراض) أو أجاجا أو ملوثا، لا يهم... المهم أن يلبس رب الأسرة سرواله القصير، وهو يرى سلاحفه الصغيرة تتمرغ في الماء.
لإيلاف الناس إذن رحلة الصيف، التي لا مفر منها ولو كلف ذلك دينا دائنا، يحجز على مال المستقبل المفترض، يتحسسون نقط الماء ليس بشفاهم العطشى فقط، بل أيضا يلتقطونها بمجساتهم الجلدية المنكسرة. فللماء سحره العجيب على الأجساد الناشفة، ويجعلها تنصب الشمسيات والخيم، ويتبادل أهلها النظر إلى الأجساد المجاورة الأخرى المكشوفة والمغطاة، في تواد وانسجام لا مثيل لهما... لا أحد يتأفف أو ينزعج أو يعترض، فالموسم موسم الماء، والطقس طقس الحر والعرق، وللماء طقسه ومراسيمه، أولها الكشف والدّهن ثم الاستلقاء، فالماء ساحر يغطي العيون.
ليست الدول وحدها تقاتل من أجل موطئ قدم على بحر أو محيط، الكائنات البرمائية هي الأخرى تحاول جاهدة أن تكون لها شرفة على التربة الندية المبلولة بماء البحر، وإن لم تدفع مقابل هذا، فمصيرها التواري إلى الوراء، إلى المقاعد الخلفية، حيث الرمال القائظة، شبيهة رمل الصحراء.
تصطف هذه الكائنات البرمائية تُطل على موكب البحر، يأتي ويذهب، ساكنا أو هائجا، وتبعث بكهولها، دون نسائها ــ غالبا ــ وتقعد تتفرج وتحرس صغارها يحفرون في الرمل الندي، ويلقون بأجسادهم الصغيرة المكورة فوق المويجات المتكسرة، كأنها سلاحف الماء.
تجلس ربة البيت، بوقار مصطنع، وخلف نظارتين سوداوين، تحرس المخيم، وتراقب بحذر شديد سلاحفها الصغيرة حتى لا يزدردها البحر، تصيح وتحذر وتتوعد، تماما كما يفعل منقذ الشاطئ. وقبل موعد المغادرة بقليل، وقبل أن يهدم القوم خيمهم وبسطهم وأفرشتهم، تتسلل صاحبة الوقار، وفي غفلة من الجمع، تطفئ لهب الجسد العطشان في الماء... الماء الساحر، الماء المُغوي الذي لا يقاوم نداؤه، الماء الذي جاءته من بعيد من بلاد القيظ والجمر والرمضاء.