في ذكرى آخر الخلفاء: مقال الدكتور عبد الرحمن عزام (1944) في رثاء عبد المجيد الثاني آخر خلفاء العثمانيين
10 أغسطس 2017 | الكاتب:محمد شعبان صوان
تركيا بوستهذا هو مقال الدكتور عبد الرحمن عزام في الأهرام (22/10/1944) بمناسبة وفاة آخر الخلفاء العثمانيين عبد المجيد الثاني قبل شهرين من ذلك التاريخ (23/8/1944) في منفاه بباريس وسيدفن آنذاك في المدينة المنورة، وسيصبح الدكتور عزام فيما بعد أميناً عاماً للجامعة العربية الوليدة، ولعل في آرائه فائدة للأجيال المعاصرة بصفته مخضرماً عاش في العهود العثمانية والاستعمارية والاستقلالية (1893-1976)، وقاتل إلى جانب العثمانيين كما تقلب في الوظائف الرسمية العربية، وكتب هذا المقال بعد انقضاء العهد العثماني:
“آخر الخلفاء”نعت الصحف في هذه الأيام المغفور له السلطان عبد المجيد آخر الخلفاء من آل عثمان، الذي توفاه الله في ديار الغربة بعيداً عن آله ووطنه.
وهكذا مات ابن من تربعوا على ملك الدهر ستة قرون مهاجراً منكوراً، فكأن ذلك لم يكن طياً لتاريخ حافل مجيد في حياة الشرق والغرب.
مات ابن عبد العزيز سلطان البرين وخاقان البحرين، مات الذي إذا عد آباءه عد فيهم ثلاثين ملكاً امبراطوراً وخليفة لم يخطر لواحد منهم أن في الدنيا من هو أرفع نسباً ولا أعز سلطاناً، مات من كان بعض آبائه يخاطب ملوك أوروبا خطاب السيد للتابع، ومن كانوا إذا نطقوا فكأنما أجرت بإرادتهم السنية الأقدار فأطاع من على (أنهار) الدنيبر والدانوب والفرات والنيل ومن على جبال البلقان والقفقاس والأطلس.
سلطان ظل يقهر الدنيا مئات السنين فانطوى منقطع النظير فلما توالت الأيام بعد معاهدة “كرناجي” (1774) بقي آل عثمان يصارعون الدهر مائتي سنة، فلما ولوا ظهورهم لأعدائهم، بل تراجعوا، ووقار البطولة يصون رايتهم وهم يخندقون جيلاً بعد جيل على طريق رجعتهم الطويل، ويقاتلون عن العزة والمجد الذي لهم بقوى حطمتها الشيخوخة فصارت دون مستوى عزتهم.
وإذا كانت النفوس كباراً … تعبت في مرادها الأجسام
وظلوا يبلون البلاء الحسن المنقطع النظير حتى دنا القدر بالخاتمة لهذا البيت فأراد الله إكرامه فسقط بين يد أبناء العشيرة، لا تحت أقدام عصبة الأعداء الأقدمين والخصوم التاريخيين من أهل أوروبا.
ولقد امتاز آل عثمان في دولتهم بأن ملكهم ووطنهم وأمتهم جميعاً من صنعهم: أنشأوا ملكاً ثم تولوه، ووطناً ثم سكنوه، وأمة ثم تبنوها، فهم في هذا منقطعو النظير، جاءوا إلى آسيا الصغرى مشايخ عشيرة من رحل الأتراك فاتخذوا من أوطان أعدائهم وطناً ومن أبنائهم جنداً ومن عامتهم مواطنين، ثم صهروا الجميع فأخرجوا أمة عثمانية حملوا بعد ذلك رسالتها خمسة قرون.
“وكانت هذه الرسالة تنطوي على فضائل كثيرة أهمها في نظري رسالة المساواة والعدل التي مهدت لظهور الديمقراطية في أوروبا المظلمة، وقد كانت فريسة لنظام الإقطاع وكانت كثرة الفلاحين في جنوبها الشرقي عبيداً لأسيادهم “البويار”.
لقد عبر الأتراك العثمانيون المضايق، وبيزنطة تلهو بالقسوة والمظالم، وعبروا الدانوب، ودول أوروبا الوسطى تتعاقد على استدامة استعباد الطبقات، فبولنيا وملدافيا والمجر متعاقدة على تسليم الفلاح الذي يفر من أسياده ولو هاجر في سبيل حريته إلى دولة أخرى.
كانت الحقول لما وصل العثمانيون إلى شرق أوروبا وكأنها سجون أبدية يتوالد فيها الفلاحون للعبودية، فكسروا أغلال السجون وأقاموا مكانها صرح الحرية الفردية، فهم الذين قضوا على نظام الإقطاع والأرستقراطية ليحل محله نظام المواطن الحر والرعية المتساوية الحقوق، فوصل في دولتهم الرقيق الشركس والصقلبي وغيره إلى أكبر مقام في الدولة، كما وصل النابه من عامة الناس حتى المجهول الأصل إلى مقام الصدارة العظمى والقيادة العليا.
وتعلمت أوربا الشرقية على يد محرريها سيادة القانون على الأحساب والأنساب والطوائف والملل والنحل، فترتب على ذلك تطور هائل في اتجاه الحرية والديمقراطية الغربية الحديثة، وكانت القرون الأولى لسيطرة آل عثمان عصوراً ذهبية شمل فيها الناس الأمن والرخاء والسلام الروحي، ولم تكن قوة آل عثمان كما يظن بعض الناس مستمدة من سيف وشجاعة، بل مما هو أعظم من السيف والشجاعة، احترام الحق والوفاء بالعهد والخضوع لسلطان القانون والشرع، ولو كان الأمر كما يتصوره الذين ينخدعون بآثار دور الانحطاط من استخدام الطوائف والغيرة بين العناصر والبطش لتغطية الضعف لاستحال أن يدوم ملك آل عثمان ستمائة سنة منها مائتان لا يسندهم فيها إلا سيف مبتور.
لقد رويت لي في رحلاتي بالبلقان وملدافيا أمثلة باقية من لغة العامة عن عدل آل عثمان، فإذا جاء الحق ووضع الميزان فسيجد الناس آل عثمان بين بيوت الملك الذي طال أمده وتنوعت رعاياه وقد ثقلت كفته بالخير والرحمة والمروءة والشرف.
“ففي ذمة الله أيها الخليفة الكريم، وكل شيء هالك إلا وجهه”
المصدر:تركيا بوست