إمكانات المقاومة الفلسطينية والجغرافية العسكرية لغـزة
معروفٌ أن قطاع غزة شريط ساحلي جغرافي طولي صغير المساحة ومستوي السطح ويخلو من التضاريس، حيث تبلغ مساحته 365 كم2 ويبلغ طوله 46 كم، فيما يبلغ متوسط عرضه 7 كم، أي 14 كحد أقصى و 6 كحد أدنى، وهذا يعني من منظار الجغرافية العسكرية وعلم الاستراتيجية أن القطاع ساقطٌ عسكرياً. ويتخذ بعض المحللين السياسيين من هذه المسلمة مبرراً لانسحاب الاحتلال الصهيوني من القطاع في نوفمبر 2005م بجانب العوامل الأخرى.
وأثناء عدوانه الأول (2008-2009) على قطاع غزة، قام الجيش الصهيوني بتقطيع غزة لأكثر من جزء، واعتلى أسطح المنازل ليكشف بذلك غالبية المناطق غير المقام عليها المباني. إلا أنها قواته المدججة بأحدث أنواع الأسلحة لم تستطع اجتياح غزة بالكامل واضطرت صاغرة أن توقف العدوان من طرف واحد.
وفي ضوء هذه المسلمة ومع الاستفادة من التجارب العسكرية السابقة وورش العمل والحلقات العلمية؛ كان لزاماً على المقاومة الفلسطينية أن تغير استراتيجياتها وتكتيكاتها فيما يتعلق بالتعامل مع الكيان الصهيوني عسكرياً، وهو ما بدا واضحاً في تصريح القيادي في حركة حماس الدكتور محمود الزهار أثناء مشاركته في مسيرة ليلية بمناسبة انتصار المقاومة الفلسطينية في العدوان الصهيوني السابق (14-21/11/2012م)، إذ قال الزهار حينها "اليوم نغزوهم ولا يغزوننا"، وصدرت بعض التصريحات عن الشهيد أحمد الجعبري قبل استشهاده ملخصها أن بإمكان حماس اليوم أن تقتحم مواقع عسكرية قريبة من غزة.
ومنذ أواخر العام الماضي (2013م) وحتى قبل العدوان بأقل من شهر؛ شرعت كتائب القسام في تنفيذ سلسلة استعراضات عسكرية بالسلاح بأنواعه أو بالإنزال من أعلى الأبراج أو المظليين، وكان من السهل جداً على القارئ المتفحص لتلك الاستعراضات أن يلتقط الإشارة الدقيقة لما وصلت إليه حماس وجناحها العسكري من درجة من الاحتراف القتالي والمهنية العالية في الجانب العسكري.
لقد أظهرت المقاومة الفلسطينية وخاصة حركة حماس مفاجئات كثيرة في قدراتها خلال هذا العدوان، حيث تنوعت القدرات ما بين صواريخ طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى، وصواريخ مضادة للطائرات والدبابات، وأنفاق عسكرية ومنصَّات إطلاق صواريخ، هذا فضلاً عن تنفيذ المهمات الخاصة من خلال وحدة الكوماندوز.
غـزة: تحت الأرض وفوق الأرض
ليس سراً القول إن المقاومة الفلسطينية وخاصة حماس ومنذ انتهاء العدوان الصهيوني السابق قد قامت بتجنيد عددٍ لا بأس به من عناصرها في حفر الأنفاق، كما حوَّلت كثيراً من مقدرات قطاع غزة لهذه الأنفاق مثل الأسمنت والحديد وبقية مواد البناء، حيث استفادت الحركة وبجانبها الفصائل المسلحة من فترة التهدئة ومن فترة حكم محمد مرسي في مصر في تمكين نفسها بشكل كبيرٍ جداً.
وخلال العام المنصر تم الكشف عن نفقٍ كبيرٍ جداً كانت كتائب القسام قد حفرته من أجل استخدامه في عمليات تفجيرية داخل الأراضي المحتلة، ويصل طوله حوالي 2.5كم، منها حوالي 300 متر داخل الأراضي المحتلة، وأشارت كتائب القسام في حينها أن النفق استغرق مئات الأيام من الحفر على أيدي مئات من عناصرها، حيث تضمن بناء النفق على جملة من أعمال الحفر ونقل التراب وأعمال الخرسانة وتركيبها...
وقامت كتائب القسَّام أيام العدوان الحالي بتفجير منطقة معبر "كرم أبو سالم" شرق مدينة رفح من خلال نفقٍٍ كبيرٍ حفرته من قبل، وكان هذا التفجير من أكبر عمليات حماس النوعية/ز شبيه إلى حدٍ بما يعرف بـ"عملية محفوظة" أو "ثقب في القلب" التي نفذها الاستشهادي القسامي عمر طبش على حاجز أبو هولي وسط قطاع غزة يوم 18 مارس 2005م، ولم تكشف القسام عن تفاصيل العملية إلا بعد مرور عشر سنوات على تنفيذها.
وتعتبر الأنفاق أحد أخطر التحديات التي تواجه الاحتلال الصهيوني إذا ما قرر دخول غـزة برياً، حيث من المؤكد أنه سيواجه مئات الأنفاق المنتشرة تحت الأرض، في كل حارة أو شارع أو زقاق، هذا فضلاً عن مئات الأنفاق الأخرى الخاصة براجمات الصواريخ، وهو الأمر الذي جعل من قادة الاحتلال الصهيوني يخشون من غزة المتواجدة تحت الأرض أكثر من غزة المتواجدة فوق الأرض على حدٍ تعبيرهم في إشارة منهم إلى الحجم الكبير للأنفاق.
الصواريخ: من البدائية إلى المتطورة
لم تكن المقاومة الفلسطينية تعرف الصواريخ إلى بعد سنة من الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى 2000م)، وحينها بدأت الصواريخ الفلسطينية بدائية جداً، تنحصر في مجرد أنبوب من الحديد فيه بعض المكونات المتفجرة، وتستطيع هذه الأنبوبة أن تحلق في السماء وربما تنفجر في مطلقيها.
لقد اجتهدت المقاومة الفلسطينية في إيجاد آليات محددة من أجل تطوير صواريخها، فاستطاعت صناعة صواريخ قسام 1، قسام 2، قدس 1، قدس 2، وغيرها من المسميات لصواريخ قصيرة المدى لا تتعدى 12 كم، وبعد العدوان الصهيوني على غزة 2008-2009، حاولت المقاومة استيراد صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، فقامت إيران بتزويدها بعددٍ يسيرٍ من الصواريخ متوسطة المدى مثل صاروخ غراد وهو صاروخ روسي الصنع، ورفضت أن تزودهم بصواريخ أخرى، ومن هنا كان لزاماً على المقاومة أن تعتمد على نفسها ليس لأن إيران ماطلت في تزويدهم بالصواريخ؛ بل ولأن غزة غير صالحة للقتال وفق الجغرافية العسكرية، وهو ما يتطلب نقل المعركة إلى أرض العدو إن جاز التعبير أو على الأقل (أو نقلها إلى الأراضي المحتلة).
لقد وجدت المقاومة الفلسطينية في السودان معيناً لها في نقل بعض التكنولوجيا، وهو ما ساعدها على تجهيز حزمة من الصواريخ المتقدمة، ومن المتوقع أن تعلن عن حزمة أخرى ضمن مصطلح "المفاجئة"، ومن هذه الصواريخ: قسام، M75 ، J80، R160، براق 80. هذا فضلاً عن الصواريخ الأخرى الخاصة باستهداف الطائرات مثل سام 7، و 107، وصاروخ كورنيت، وهي صواريخ مستوردة.
لقد ظهر التطور النوعي للقوة الصاروخية للمقاومة الفلسطينية في عدوان 2012م، حينما كشفت حماس عن صاروخ (M75) بعيد المدى تيمناً بالشهيد الدكتور إبراهيم المقادمة، حيث استطاعت قصف العمق الصهيوني وخاصة مدينة القدس المحتلة وجعل نصف سكان الكيان الصهيوني في مرمى الصواريخ. ولم تصدِّق دولة الكيان الصهيوني ان حماس تمتلك هذا الصاروخ، فاتهم حماس بأنها تقصف القدس باستخدام صاروخ فجر الإيراني.
أما منذ بداية العدوان الحالي، فقد أعلنت حركة حماس عن تطور نوعي آخر في منظومة السلاح الصاروخي، حيث أعلنت كتائب القسام أنها قصفت مدينة حيفا (وهي تبعد عن غزة حوالي 140 كم) لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني بصاروخ جديد يحمل اسم (R160) تيمناً بالشهيد عبدالعزيز الرنتيسي، وهو صاروخ يصل إلى 160 كم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي مفاجئة جديدة أيضا، أعلنت كتائب القسام عن قصف مدينة الخضيرة (وهي تبعد نحو 100 كلم شمال قطاع غزة) بصاروخ يحمل اسم (J80) تيمنا بالشهيد احمد الجعبري القائد السابق لكتائب القسام، وهو صارخ يصل مداه ما بين 80-100كم، وهو الصاروخ نفسه الذي قٌصِفت به مدينة تل أبيب المحتلة.
ولا تقتصر المنظومة الصاروخية للقسام على هذا الحد، فقد أعلنت الكتائب عن قصفها، مستوطنتي "روحوفوت" و"بيت يام"، بصاروخ محلي الصنع من طراز "سجيل 55"، وتأتي تسميته تيمناً بحرب حجارة السجل (عدوان 2012م).. كما تتحفظ الكتائب على العديد من المفاجئات التي ربما تأتي تيمنا بأسماء شهدائها خلال الفترة السابقة.
أما صاروخ "براق 70"، فهو أيضا محلي الصنع من إنتاج سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، ويصل مداه إلى حوالي 70 كم، وهو المفاجئة الوحيدة لسريا القدس، لكنها اعتادت على استخدام صاروخ "فجر 5" في قصف مدينتي تل أبيب والقدس، وهو صاروخ منقول من حزب الله اللبناني إلى غزة.
وتشير صحف صهيونية إلى أن كتائب القسام تمتلك عشرات الصواريخ من طراز (M302 )، وهذه الصواريخ من إنتاج سوري تم نقلها إلى قطاع غزة قبل سيطرة البحرية الصهيونية على سفينة (كلوز سي) أي أواخر عام 2013م، لكن كتائب القسام لا تؤكد ولا تنفي هذه المعلومات، وبالتالي تبقى معلومات غير مؤكدة.
وعلى ما يبدو أن الاحتلال الصهيوني سيفكر يوماً ما وبشكلٍ جدِّيٍ في نقل مغتصباته (مستوطانته) من محيط أو غلاف قطاع غزة إلى مكان آخر أكثر أمناً بالنسبة له، وهو ما يعني حلاً مؤقتاً لمعضلة الصواريخ، لأنها في تطور مستمر.
لقد تحولت صواريخ المقاومة بعد 13 عاماً من بدء استخدامها من سلاح بدائيٍ بسيطٍ جداً إلى تهديد استراتيجي للكيان الصهيوني ولأمنه القومي، هو ما عبَّر عنه موقع "والا" العبري الصهيوني بالقول "صواريخ حماس باتت تهدد كل الكيان الصهيوني ... نحو خمسة ملايين صهيوني باتوا ليلتهم في الملاجئ والتحصينات وخارج المناطق المأهولة، فضلا عن الشلل الذي أصاب مدناً بأكملها وخاصة مدينة عسقلان التي تعتبر أهم مدينة صناعية داخل الكيان الصهيوني على ساحل البحر الأبيض المتوسط".
وحدة الضفادع البشرية: مفاجأة نوعية غير متوقعة
لم يكن أحد من المراقبين يتوقع أن تقدم كتائب القسام على اقتحام قواعد عسكرية داخل الأراضي المحتلة مثل قاعدة "زيكيم" العسكرية ولأكثر من مرة بواسطة البحر، حيث كانت هذه العملية نوعية جداً ومفاجئة للجيش الصهيوني رغم ما شابها من عملية تعتيم أمني وإعلامي من الجانب الصهيوني.
لقد عرض الاحتلال الإسرائيلي مقطع فيديو للكنوماندوز القسامي منذ اللحظات الأولى لخروجهم من تحت الماء إلى أن تمَّ اغتيالهم، وذكرت وسائل إعلام الاحتلال أنهم بمجرد خروجهم من الماء قاموا بإطلاق النار على الحارس المتواجد على برج المراقبة. لكن مقطع الفيديو لم يعرض المشهد، ولعل هذه إشارة إلى أن المقطع إن لم يكن مدبلجاً فإنه يحمل مفاجئات مختلفة.
وثمَّة تعارض بين الرواية الصهيونية والأخرى الفلسطينية، حيث أن الرواية الفلسطينية (أي رواية كتائب القسام) تفيد بمقتل نحو سبعة من الجنود الصهاينة.
أما روايات شهود العيان فتكاد تجمع على أنهم سمعوا إطلاق نارٍ كثيفٍ مصحوبٍ بإطلاق قذائف من قاذفات محمولة على الكتف. أما رئيس ما يعرف بالمجلس الإقليمي لعسقلان "يئير فرجون" فقد أشار أن "حماس حاولت القيام بعملية نوعية وجريئة تتعدى إطلاق الصواريخ، وكادت تنجح وتؤدي لحادثة قاسية جداً لولا يقظة الجيش".
ومهما يكن من أمر، لا يمكن إغفال أن هذه العملية النوعية أشارت إلى تقدمٍ كبيرٍ في العمل العسكري لدى حماس، وشكَّلت مفاجئةً بالغة الخطورة كادت أن تقلب موازين القوى في الأراضي الفلسطينية لصالح حركة حماس.
العدوان على غزة.. حقبة جديدة من الصراع
مثّل العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة حقبة جديدة تمامًا من الصراع في فلسطين؛ حيث استطاعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لأول مرة أن تحدث اختراقات نوعية من حيث تقنيات الحرب الإليكترونية والتقليدية، واستطاعت أن تحدث تقدمًا ملموسًا في "توازن الرعب" بين الجانبين؛ واخترقت عمق الكيان الصهيوني بصواريخها التي غطت كل الكيان الآن، وبطائرة بدون طيار حملت صواريخ واستطاعت أن تصل إلى مسافات لم تصل إليها طائرة عربية من قبل، كما أنها اخترقت البث التليفزيوني للقناة العاشرة الإسرائيلية وأوصلت رسائل تهديد ووعيد لكل الشعب الإسرائيلي، بالإضافة إلى قدرتها على اختراق قاعدة "زيكيم" البحرية بقوات كوماندوز بحرية لأول مرة في تاريخ الصراع بين الجانبين.
كل تلك النجاحات مثلت نقلة نوعية غير عادية في معادلة الصراع، فبالرغم من الدماء التي تسكب، وبالرغم من الحصار البري والبحري والجوي، إلا أن حركة حماس استطاعت ولأول مرة أن تقترب من معادلة التوازن مع الكيان الصهيوني، الذي وقف عاجزًا ومترددًا عن اجتياح غزة بالرغم من استدعائه للاحتياط، بالرغم من كونه أحد أقوى جيوش المنطقة بل والعالم كله، وضربت حركة حماس مثالاً غير مسبوق لحركات المقاومة التي استطاعت تطوير تسليحها وتكتيكها في ظل تلك الظروف المحلية والإقليمية والدولية الخانقة لأي مقاومة ضد إسرائيل.
فقطاع غزة عبارة عن شريط مكتظ بالسكان محاصر من جميع جهاته حتى من الجانب المصري، الذي يختلف نظامه الحالي أيدلوجيا مع حركة حماس، التي ترى أن خيار المقاومة يجب أن يظل خيارًا مطروحًا في معادلة القوة في المنطقة، في حين ترى قوى إقليمية أخرى وعلى رأسها مصر أن السلام مع إسرائيل هو المخرج الوحيد للقضية الفلسطينية بتطبيع للعلاقات مع الكيان الصهيوني، اتساقًا مع الرؤية الاستراتيجية للنظام المصري منذ اتفاقية كامب ديفيد وهي أن الالتحاق بالمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة هو ضمان الأمن الإقليمي، وأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب مع إسرائيل، مما يعني ضرورة التعايش مع حقيقة وجود الكيان في المنطقة كأحد حقائق الجغرافيا.
وتتفق مع الرؤية المصرية رؤى العديد من الدول الأخرى في المنطقة، فقد صرح رئيس شرطة دبي السابق ضاحي خلفان قائلاً أن "إسرائيل لا تشكل خطرًا على الوطن العربي ما دامت كبريات البلدان على هذا الوئام فما في مشكلة (...) إسرائيل لا تشكل خطرًا على الوطن العربي لأن الوطن العربي غير قادر على مواجهة إسرائيل، لذلك لايوجد معركة مع إسرائيل"[1]، وهذا في معرض رده على سؤال عن أهم التهديدات على المنطقة؛ وتفترض تلك الرؤية أن إسرائيل يمكن التعايش معها نظير ثمن يدفعه العرب وهو التنازل عن الأراضي التي احتلتها وأن ذلك هو نهاية الاستسلام العربي.
إلا أن الوقائع على الأرض تتحدى تلك الرؤية وتثبت أن الكيان الصهيوني هو كيان توسعي دموي لا يفهم إلا لغة القوة، وأن أهدافه لا تقتصر على الأراضي التي يحتلها حاليًا، وأنه بمجرد تغير الظروف الإقليمية والدولية فإنه لن يتورع عن سفك مزيد من الدماء واحتلال مزيد من الأراضي خارج نطاق فلسطين، لذا فإن استمرار حركة حماس في المقاومة وتطويرها من أساليبها وتكتيكاتها وتقنياتها العسكرية تثبت الرؤية الأخرى للأمن القومي العربي، وهي أن الاستسلام ليس حلاً، وأن السلام ليس بالضرورة خيارًا استراتيجيًا إلا إذا جنح الطرف الآخر للسلم، وأن مقولة أن العرب عاجزون عن مواجهة إسرائيل هي مقولة مرفوضة شكلاً وموضوعًا.
إن إسقاط خيار المقاومة وضرب الحركات التي تتبناها في الوطن العربي ووسمها بالإرهاب لن يصب سوى في مصلحة الكيان الصهيوني، وسيؤدي إلى مزيد من الانقسامات الداخلية في الأوطان صعودًا حتى المستوى الإقليمي بشيطنة حركات سياسية لها رؤى مغايرة للرؤية الرسمية للأمن القومي العربي، بينما تقوم إسرائيل باستيعاب الحركات التي تصفها بالمتطرفة، وتسمح لها بالممارسات السياسية والانخراط في جيشها، من أجل الحفاظ على اللحمة الداخلية لكيانها، في الوقت الذي تعمل فيه بعض الأنظمة الإقليمية على وأد كل صوت معارض، بل وتعمل من أجل القضاء عليه.
فقد صرح الدكتور داني روبنشتاين، أستاذ العلوم السياسية فى الجامعة العبرية، إن التحركات التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد قطاع غزة، تقوم بالتعاون والتنسيق مع النظام المصري لإسقاط سيطرة حركة حماس عن قطاع غزة. وأضاف روبنشتاين فى نشرة قناة الجزيرة الإخبارية، أن ما تقوم به مصر ليس تنسيقًا لتهدئة الأوضاع ووقف القصف، ولكن لتشديد الخناق على حماس ومن ثم إسقاطها من حكم القطاع، معتبرًا أن فى ذلك فائدة مزدوجة لتل أبيب والقاهرة، وهو أن مصر ستتخلص من جوار حركة حماس التابعة للإخوان وتل أبيب تفرض سيطرتها على القطاع.[2]
بل وصل الأمر إلى تسليم السلطات المصرية رسالة تهديد إسرائيلية لكل من حركتي حماس والجهاد، مفادها أنه مالم يتوقف إلقاء الصواريخ من قطاع غزة على البلدات الإسرائيلية الجنوبية، فإن غزة ستُضرب بقوة، حسبما كشف قيادي فلسطيني رفيع عن اتصالين هاتفيين أجراهما مسؤول في الاستخبارات المصرية مع كل من القيادي في «حماس» موسى أبو مرزوق، ونائب الأمين العام لـ «الجهاد»زياد النخالة مفادها بأن إسرائيل ستضرب غزة بيد غليظة في حال لم تلتزم الحركتان التهدئة[3].
وربما تشجع تلك الظروف الإقليمية الجديدة إسرائيل على اجتياح غزة من أجل القضاء على حركة حماس، لاسيما بعد تفوقها النوعي وتطويرها لقدراتها الصاروخية، إلا أن الثمن الباهظ المتوقع من الدماء في كلا المعسكرين سيجعل إسرائيل تفكر ألف مرة، لاسيما مع توقع انتفاضات شعبية عبر العالم الإسلامي في حالة سقوط عدد كبير من الشهداء في تلك العملية البرية، وما سيمثله ذلك من زعزعة استقرار البلدان المجاورة لاسيما تلك التي تعاني من أوضاع داخلية هشة مثل الدولة المصرية.
كما أن التوغل البري الإسرائيلي سيأتي بتكلفة عالية من دماء الجنود الصهاينة، وسيحيد سلاحها الأساسي بتفوقها التقني وإمكانيتها للضرب من بعيد عن طريق طائراتها، فسقوط دماء إسرائيلية وارتفاع تكلفة الحرب عليها وامتداد أمدها سيؤدي إلى تقويض قدرات الردع الإسرائيلية لاسيما في ظل عدم تمكنها من حسم المعركة كما حدث في حرب ديسمبر 2008 وعدم قدرتها على تجفيف منابع المقاومة الفلسطينية، وإنهاء العدوان في النهاية بدون حسم عسكري، وهو ما يعني انتصار مبدأ المقاومة الفلسطينية.
لذلك فإنه في كل الأحوال فإن حماس استطاعت تحقيق انتصارات ملموسة في الميدان بعدم الاستسلام أمام الآلة العسكرية الصهيونية، وتمكنت في الوقت ذاته من تطوير قدراتها العسكرية، مما يعني أن عامل الوقت ليس في صالح الكيان الصهيوني، وأنه بالرغم من نجاة إسرائيل من تضييق الربيع العربي الخناق عليها بعد صعود ثم إسقاط نظام د. مرسي في مصر، إلا أن التهديد الأمني عليها ازداد بعد وصول الصواريخ الحمساوية إلى مفاعل ديمونة في صحراء النقب، وإلى مطار "بن جوريون"، مما يعني قدرة تلك الصواريخ، بالرغم من وصفها بـ "العبثية"، إلا أنها قادرة على شل الحياة في الكيان الصهيوني في أي وقت وإيقاف حركة الطائرات، والتهديد الأمني الكبير بضربها مفاعل ديمونة.
لذلك فإن المرحلة القادمة من الصراع ربما تشهد تطويرًا حمساويًا للقوة التفجيرية لتلك الصواريخ التي استطاعت أن تغطي كافة الأراضي المغتصبة من الكيان الصهيوني، وهنا ستتمكن حماس من تحقيق توازن الردع بقدرتها على إسقاط قتلى من قصفها للمدن الصهيونية، تمامًا كما تفعل إسرائيل الآن بقصفها لمنازل المدنيين في غزة، وهنا لن تستطيع إسرائيل أن تستخدم دماء المدنيين كورقة للضغط على حماس، وسيدخل الصراع في مرحلة جديدة تمامًا لاسيما مع المتغيرات التي تجري على الأرض من حول الكيان الصهيوني، والتي ربما تؤدي إلى توسيع نطاق الحرب عليه من أقطاره الأربعة، وإدخاله في حرب استنزاف وحروب عصابات ممتدة تؤدي إلى إرهاقه ربما إلى درجة الكسر في وقت ليس ببعيد، وهذا هو الكابوس الذي يخشاه نتنياهو، ويجعله مترددًا ألف مرة قبل اجتياح غزة ودخوله في صراع ممتد بتداعيات إقليمية غير مأمونة العواقب.
:: ملف خاص بعنوان "غزة تقاوم"
[1] يمكن مراجعة تصريحاته في حوار مع قناة "دبي" على الرابط التالي:
[2] تصريحات لبرنامج ما وراء الخبر على فضائية الجزيرة،
[3] مصرسلمت «حماس»و«الجهاد»رسالةتهديدإسرائيلية،الحياةاللندنية، 8 يوليو 2014،علىالرابطالتالي:
http://alhayat.com/Articles/3458531