غريبة فى وطنى
جيهان فوزي
لا شك أن حجم المأساة التى يعيشها السوريون منذ أن ضربت الحرب الأهلية عصب الحياة وحولت مدنهم وقراهم وشوارعهم وبيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم إلى جحيم وخراب ودمار، فكان من الطبيعى أن يتحول الشعب السورى إلى لاجئين منتشرين فى أصقاع الأرض ينشدون السلام والأمان الذى أصبح مستحيلاً فى بلدهم، بعد أن سكنها الخراب ونعيق البوم وتحولت أراضيها هدفاً طيعاً للإرهابيين والمتطرفين، ولقمة سائغة للمتآمرين الطامعين فى ثرواتها والطامحين إلى تقسيمها وتفكيكها.
سوريا كانت على رأس الدول التى تتبنى محور المقاومة والتصدى لكافة أشكال التطبيع العربى مع إسرائيل، حافظت على تلك المبادئ وحرصت على ترسيخ هوية الصمود والدفع بروح ومبادئ القومية العربية التى نادى بها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فكانت تلك المبادئ هى قوت الشعوب العربية التى تتغذى عليها فكرياً منذ أن احتلت إسرائيل فلسطين وجزءاً من الأراضى السورية، متمثلة فى هضبة الجولان وجزيرة سيناء المصرية، التى عادت إلى أحضان الوطن بإبرام معاهدة كامب ديفيد، ومن بعدها جولات طويلة ومضنية من المفاوضات.
تغير الزمان وتبدل الواقع العربى، ليصبح أكثر مرونة وبراجماتية سياسية، وبالتدريج أصبح التطبيع مع إسرائيل أكثر سهولة والحديث عنه علناً دون محاذير على الأقل فى سياسات بعض أنظمة الحكم العربية التى تطبّع مع إسرائيل سراً وتشجبه علناً، خوفاً من ردود الفعل الشعبى والرأى العام العربى الكاره لإسرائيل كدولة مغتصبة للحقوق العربية ومحتلة لأراضيها، فضلاً عما خلفته حروبها العدوانية من آثار سلبية فى عقل ووجدان المواطن العربى، لكن يبدو أن إسرائيل يئست من حالة الفصام التى تعيشها الأنظمة العربية فى علاقتها الملتبسة بها، فقررت أن تخترق الشعوب العربية ذاتها، التى كانت تقف حائط الصد والرفض لأى علاقة مباشرة مع إسرائيل وهو الهدف الذى حاولت الدولة العبرية تسخير كل طاقتها لإنجازه لتحسين صورتها فى عقل المواطن العربى، ومحو الصورة الذهنية المقيتة التى تسكن وجدان العرب وترسخت عبر السنين بأن إسرائيل هى العدو الأول للأمة العربية.
نجحت إسرائيل أخيراً فى الوصول إلى غايتها، واستطاعت بذكاء أن تتسلل داخل العقل العربى، وأن تخترق عاطفته، ولم يعد هناك ما يدعو للشك بعد أن نشر الجيش الإسرائيلى مؤخراً رسائل دونها جرحى سوريون تلقوا العلاج الطبى فى إسرائيل شكروا فيها دولة الاحتلال على ما قدمته من خدمات إنسانية وطبية لهم وذلك بعد هروبهم من ويلات الحرب المشتعلة فى سوريا، وما عبّرت عنه مواطنة سورية فى رسالتها تعد واحدة من عشرات الرسائل التى نشرها الجيش الإسرائيلى فى إطار حملة إعلامية لتسليط الضوء على المساعى الإنسانية التى يبذلها الجيش لمساعدة السوريين! تقول المواطنة السورية التى وصلت لإسرائيل لتلقى العلاج فى رسالتها الموقعة بـ«غريبة فى وطنى»: «نشكر الشعب فى دولة إسرائيل بكافة شرائحه لوقوفهم إلى جانب الشعب السورى المنكوب» وتتابع: «نحن اليوم موجودون فى دولة إسرائيل لعلاج الأطفال وتقديم الدعم النفسى والروحى لهم، جازاهم الله عنا خيراً، شاكرين حسن ضيافتهم واستقبالهم لنا حتى أصبح لدينا إحساس بأننا شعب واحد تفصل بيننا الحدود الجغرافية فقط»!. ومثل هذه الرسالة تعبر عن مشاعر المئات من السوريين الذين يعانون أوضاعاً مأساوية فى سوريا ويريدون الأمن والسلام، يتلقون العلاج فى إسرائيل عندما فتحت أبوابها لاستقبال آلاف الجرحى لا سيما فى السنتين الأخيرتين -كما وصفت شابة سورية الحال- قائلة: «بدنا سلام.. يكفينا دم.. لا فى شغل ولا كهرباء.. الناس عم بتموت على البطىء.. كانت سوريا أحلى دولة بالدول العربية.. ليش هيك عم بيصير فينا»، لنجد رسائل دوّنها أطفال سوريون أيضاً بخط غير متقن عبروا فيها عن امتنانهم لما تقوم به إسرائيل، حتى إن أحدهم كتب: «لكل من يقول إن إسرائيل عدو، نقول له أنت كذاب.. السلام لسوريا وإسرائيل»!
لقد استطاعت إسرائيل بخبث ودهاء أن تغير من الحالة الذهنية فى العقل العربى، ولم تجد فرصة مواتية أفضل من الوضع السورى لاختراق عواطفهم ومشاعرهم وتحويلها من النقيض إلى النقيض من الحقد والكراهية إلى الود والامتنان، رغم أنها تحتل جزءاً أصيلاً من وطنهم. استطاعت إسرائيل أن تظهر الجانب الإنسانى وتبدد المفاهيم التى ارتبطت بها سنوات طويلة لتذيب جليد الكره والرفض المرتبط بوجودها، ومن مفارقات القدر فى الوقت الذى يجد اللاجئ السورى نفسه محاصراً فى مخيمات اللجوء على حدود الدول العربية ينهشه البرد وتقتله وحشة العراء وقسوة المرض والجوع وغدر الأشقاء العرب الذين أسهموا فى تأجيج الحرب الأهلية فى موطنهم بما ترتب عليها من تشريد وتهجير قسرى، تمتد يد إسرائيل بالعطاء والإنسانية! تربّت على كتف مريض يعانى، ولاجئ لا يجد مأوى!.
ووفق المعطيات التى ينشرها جيش الاحتلال الإسرائيلى، فقد تلقى أكثر من 3000 جريح فى الحرب الأهلية علاجاً طبياً فى إسرائيل، ووصل إليها نحو ألف طفل لإجراء فحوص طبية، خلافاً للأطفال السوريين الذين يصلون مع أمهاتهم أسبوعياً، لتلقى العلاج الطبى، وتتحمل فيه إسرائيل تكاليف العلاج والإقامة فى المستشفيات، فقد أسهمت هذه المساعدات بشكل مباشر فى تغيير نظرة الكثير من السوريين إلى إسرائيل، وهى بداية لعصر جديد ومغاير فى الصراع العربى الإسرائيلى!.
عن الوطن المصرية