أمانة الولاية العامة وحقوقها
بسام ناصر
من يعرف ثقل المسؤولية الملقاة على عاتق من يتولى الولايات العامة، فإنه يعزف عن طلبها ويُلجم شهوة التطلع إليها، لكنه إذا ما كُلف بها، أو أُرغم عليها فإنه يستعين الله على حملها أماناتها والقيام بمسؤولياتها.
حينما سأل الصحابي أبو ذر رسول الله أن يوليه، قائلا له : «يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها».
وفي رواية أخرى أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا،وإنَّي أحبُّ لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تَولين مال يتيم».
استخلص الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم أنه «أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف الولاية».
وكان صلى الله عليه وسلم ينصح أصحابه أن لا يتطلعوا للإمارة، ولا يسألوها، كما جاء في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صل الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها».
إن تولي الولايات العامة تحمل لجزء من الأمانة الثقيلة المذكورة في قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (الأحزاب: 72).
ومما يجعل مسؤولية الولاية العامة ثقيلة، تلك التحذيرات الواردة في الأحاديث النبوة المبينة لعاقبة عدم القيام بواجبات رعاية شؤون الناس التي وكلها الله الأئمة والأمراء وأصحاب المسؤوليات بها، يقول عليه الصلاة والسلام «ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة»، وفي رواية أخرى «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة».
فما من أحد يسترعيه الله رعية، إلا كان مسؤولا عن رعيته تلك، كما بينه رسول الله صل الله عليه وسلم في حديثه القائل: «ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته».
من الواضح أن المسؤولية تتفاوت بحسب الوظيفة التي يتولاها كل شخص، وتبعا للدور الذي يناط بكل راع، فمن كان على رأس السلطة العليا فإن مسؤوليته تشمل كل أفراد رعيته، وهو مؤتمن على هذه الأمانة العظيمة التي حملها، وسيسأل عنها، ويُحاسب عليها، وهكذا حال كل من تحمل مسؤولية رعاية غيره.
وحينما يرتقي المسلمون في تدينهم إلى مستوى إدراك تلك المعاني، فيحولونها إلى سلوكيات يعيشونها في حياتهم، فإنهم حينئذٍ سيستشعرون عظم مسؤولية رعاية شؤون الآخرين، وستحملهم الرقابة الإيمانية الذاتية على المحافظة على تلك الأمانة التي تحملوها، لأنهم يخافون تبعة السؤال والحساب يوم القيامة.
وإن مما يعين صاحب الولاية على أداء مسؤوليات وظيفته بحقها، أن تكون سياساته وقراراته خاضعة لجهات رقابية ذات صلاحيات حقيقية في مساءلة صاحب الولاية العامة ومحاسبته، تماما كما هو الحال في الدول الأوروبية، التي يكون فيها الرئيس خاضعا للقوانين النافذة في البلاد، فلا يكون طليق اليد يتصرف في المال العام كما يشاء ويشتهي.
وإن المرء ليتساءل: كيف تمكنت الدول الأوروبية من إلجام شهوات ساستها في بقائهم على كراسي الحكم طوال حياتهم؟ فالرئيس منهم يحكم لولاية محددة السنوات، وهو يعلم تماما أن أداءه خاضع للرقابة، فإن كره الشعب سياساته عاجل إلى إسقاطه وعزله في الانتخابات الرئاسية التالية، أما في دولنا العربية والإسلامية، فالرئيس باق على كرسي الحكم ولا يزيحه عنه إلا الموت أو الانقلاب عليه.
إن من أعظم الوعي الذي يجب نشره في صفوف المسلمين، إشاعة ثقافة الحقوق بينهم، وتربيتهم عليها، فهم في ظل هذه الثقافة يرفضون قبول مكرمات الرئيس، ويأنفون تلقي مننه وعطاياه، لأنها حقوق طبيعية يتمتعون بها بلا منة ولا تفضل من أحد أولا، ولأن الرئيس لا يملك ذلك الحق ثانيا، فهو واحد من أبناء شعبه، يدير أمورهم، ويرعى شؤونهم في ظل المنظومة القانونية النافذة عليه وعليهم جميعا.