مناقشة التشكيك في هيئات الرقابة الشرعية والبنوك الإسلامية
الأخت الفاضلة إيمان الفقهاء أثرت نقاطاً ثلاث (الرقابة على الفتاوى، حملة التشكيك، البنك المركزي الإسلامي) في صلب قضايا المرحلة الحالية للرقابة الشرعية والبنوك الإسلامية، وكل نقطة منها تحتاج إلى حوار معمق بشأنها، وهي قضايا حوارية بحد ذاتها، ولا أدري هل نكمل الحوار بشأنها هنا أم ننتقل معا لمنتدى الرقابة الشرعية؟ أمر محير، ولكن أود من الأخ الدكتور بشر أن يسمح لنا بمتابعة الحوار هنا ويمكن وضع رابط منتدى الرقابة الشرعية لهذا الحوار أو أي وسيلة تقنية أخرى لا تخفى على الأخ بشر. وأنوه أن تناول القضايا التي طرحتها الأخت إيمان الفقهاء من واجبات المرحلة ولا يجوز لنا المرور عليها وتسطيحها وإغلاق الموضوع، بل لا بد من الحوار بشأنها بشكل معمق. ولعلها تكون من ثمرات حوارنا الهادف في منتديات الموسوعة.
سأبدأ بالقضية الثانية: ونصها كما جاءت في تعليق الأخت إيمان ما يأتي:
2. خطورة الترويج بعدم شرعية البنوك الإسلامية ،والتجريح بأعضاء الهيئات الشرعية ؟ وإن كانت هناك أخطاء تطبيقية أو مآخذ على أعضاء الهيئات الشرعية ، فهناك الانتقاد العلمي ،والحوار العلمي ، واتخاذ خطوات مدروسة للتغيير والإصلاح !! وليست زعزعة الثقة في نفوس المتعاملين مع البنوك الإسلامية أو في نفوس المشتغلين بالصيرفة الإسلامية
وتعليقي على هذه القضية إجابتي المختصرة على الأسئلة الأربعة الآتية:
1. ما الأسباب التي تسوغ الترويج بعدم شرعية البنوك الإسلامية في نظر المشككين والمروجين؟
2. هل الأسباب الذي ذكرها المشككون والمروجون كافية للتشكيك؟
3. كيف نتعامل مع حملة الترويج والتشكيك؟
1. الأسباب المزعومة للتشكيك: تفيد المتابعة الدقيقة والشاملة لحملة الترويج والتشكيك إلى الأسباب الآتية:
1/1 القول بالوعد الملزم في المرابحة المصرفية.
وذلك على أساس أن الوعد الملزم يجعل المرابحة المصرفية كالقرض الربوي. وقد وصلت حملة التشكيك إلى التصريح بالقول: إن المرابحة مع الوعد الملزم و القرض الربوي سواء بسواء. أي ذهبت حملة التشكيك للقول بأن الربا والبيع سواء.
1/2 تعدد بعض أعضاء الهيئات الشرعية في أكثر من بنك أو مؤسسة إسلامية:
وذلك على أساس أن العضو لن يجد من الوقت ما يكفي للنظر في المسائل المعروضة عليه، وبالتالي بدا التشكيك ظاهرا ًفي نزاهة الأعضاء وانهم يوافقون لرجال الأعمال على كل شيء.
1/3 تقاضي أعضاء الهيئات أجرا على الفتوى
وكان هذا الأمر كبيرة الكبائر، وركزت حملة التشكيك بأن الأجر الزائد إنما هو رشوة على الفتوى في تشكيك عميق بنزاهة بعض أعضاء الهيئات.
هذه جملة الأسباب التي تم حصرها، وما زالت حملة التشكيك ترددها. ولكن هل هذه الأسباب تسوغ التشكيك؟
2. هل هذه الأسباب كافية للتشكيك بالمشروعية والترويج لعدم المشروعية:
هناك عدة أسباب لعدم كفاية هذه الأسباب للتشكيك وبيان ذلك فيما يلي على التوالي:
2/1 عدم تحرير محل النزاع في الوعد الملزم، وقد عجزت حملة التشكيك حتى الآن عن ذلك وهنا أحرره فأقول:
2/1/1 الوعد الملزم محل الخلاف بين المعاصرين هو الملزم لطرف واحد.
وتطبيقه في المرابحة المصرفية غالباً ما يكون للعميل الواعد بالشراء من المصرف، ومعناه طبقا للمعايير الشرعية والمجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي وللهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية قاطبة هو أن الواعد لا يلزم في الدخول في العقد، وإنما إن نكث عن الوعد فيعوض الموعود بالتعويض عن الضرر الفعلي الذي وقع على الموعود الذي دخل في كلفة بناء على الوعد، ويقدر بالفرق بين تكلفة الشراء وسعر البيع، ولا يشمل ذلك تعويضه عن مخاطر الحيازة والقبض الشرعي والتلف الذي يحدث للبضاعة أثناء حيازة المصرف لها وبالتالي فإن الخلاف في الوعد الملزم هو تغطية مخاطر النكول عن الوعد، وليس في تغطية مخاطر الملكية (لا تبع ما ليس عندك) والحيازة والقبض الشرعي للسلعة (الخراج بالضمان-نهى عن ربح ما لم يضمن)، فجميع هذه الأحكام مرعية في المرابحة المصرفية مع الوعد الملزم، فالمصرف الإسلامي لا يبيع ما لا يملك، ولا يبيع قبل القبض والحيازة الشرعية.
2/1/2 إن الوعد الملزم ليس في حكم العقد، فلا يخفى أن حكم العقد من الناحية الشرعية يترتب تلقائياً بمجرد الإيجاب والقبول وهو: انتقال ملكية السلعة إلى المشتري رغم عدم التسليم، وانتقال ملكية الثمن إلى البائع رغم عدم التسليم، والتزاما بالعقد يكون الواجب المبادرة للتسليم من الطرفين كل فيما وجب عليه بالعقد. وهذا يا إخوتي لا يترتب في الوعد الملزم.
وهنا ألفت النظر إلى تحرير محل النزاع دون أن أنسب لنفس القول بالوعد الملزم، رغم انه قول المجمع الفقهي للمنظمة والمجلس الشرعي للمعايير والعديد من الهيئات.
2/2 تعدد الأعضاء ليس مسوغاً للتشكيك:
تعدد الأعضاء مشكلة حية على صعيد هيئات الرقابة الشرعية والعمل المصرفي الإسلامي، ولكنه ليس مسوغاً للتشكيك، وأعرف أغلب الأعضاء الهيئات الشرعية في العالم وكل على قدر كبير من العلم والفضل والخلق ولا نزكيهم على الله، ولا يسوغ لأحد التشكيك في دين أحد منهم أو خلقه، خاصة أن حملة التشكيك لم تتطرق إلى موجب لذلك. ولكن مقتضى التنظيم والتطوير المهني لهيئات الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية هو التصدي لمناقشة هذا الموضوع وتقديم الحلول الناجعة بشأنه، وهو عنصر من مجموعة عناصر تدفع إلى المبادرة من السلطات الإشرافية في كل بلد لمعالجة هذه الظاهرة، والأمر ليس برفع الشعارات والانتقادات الجوفاء، بل ببرامج مهنية متكاملة تقف على أسباب المشكلة وتقدم الحلول العملية بشأنها، ومن اطلع على أبحاثي في الرقابة الشرعية يصل إلى المعالجات المهنية المقترحة لهذه المشكلة.
2/3 الأجر المرتفع لعضو الهيئة ليس رشوة:
الأجر على الفتوى بحد ذاته ليس مطروحاً كالأجر على الإمامة مثلاً أو على الأذان فهل هو أجر مقابل الصلاة أو الأذان. لم يقل بهذا أحد. وإنما هو أجر على حبس الإنسان نفسه في الوقت المحدد. ولعل حملة التشكيك تجيبنا عن أجر مفتي الجمهورية، أو المفتين الآخرين التي يتقاضونها من الدولة فهل هو مقابل ما يقدمونه من فتاوى للدولة أم هو مقابل ما حبسوه من أوقاتهم للعمل في هذا النطاق.
وعلى صعيد البنوك الإسلامية نتحدث عن خبراء في فقه المصارف الإسلامية وهؤلاء يتسمون بالندرة وكل البنوك تحرص على التعاقد معهم لتسهل أعمالها طبقا للشريعة، وهذا يدل على أمرين الحرص على الشريعة، وفي نفس الوقت دفع ثمن الندرة المتمثلة في الخبرة لدى الأعضاء المذكورين الذين هم بمثابة الخبراء الشرعيين.
وبالتالي فإن هذا الجانب ليس مسوغاً للتشكيك بقدر ما يدفعنا لابتكار المعالجة المهنية وهي من نوع معالجة السبب الثاني آنف الذكر.
3. كيف نتعامل مع حملة الترويج لعدم مشروعية البنوك الإسلامية:
يجب أن ينطلق العاملون في حقل الاقتصاد الإسلامي من ثوابت أهمها:
3/1 الثقة بما وصلت إليه الصناعة المصرفية الإسلامية من تقدم. وخاصة أن الصناعة تتعرض لتقويم مستمر من المؤسسات الداعمة والفعاليات المختلفة، ولا يغيب عن هذه الفعاليات التحديات والمعوقات وهي مسألة مستمرة ولا تقف عند حد.
3/2 الثقة بالعلماء والخبراء وأن كل واحد منهم يقف على ثغرة، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد وأن يجنبهم حظوظ النفس وأن ينفع بعلمهم وخبرتهم مسيرة العمل المصرفي الإسلامي.
3/3 المشاركة الإيجابية في نقد الصناعة على أسس علمية ومهنية عميقة، وتجنب التسطيح للمسائل والقضايا الكبيرة.
4/3 أن يكون النقد على بصيرة، وأن يكون الحوار عن وعي بمأخذ الخلاف ومحل النزاع، وإلا أضعنا وقتنا فيما لا نفع فيه.
4/4 تمحيص الهدف من التشكيك، فهل الإصلاح أو التخريب أو مجرد التشكيك، فإن كان الإصلاح، فلا بد من قرائن على ذلك وأهمها الإيجابية في الطرح ومن قرائن الإيجابية هي تقديم حلول واقتراحات ومن ذلك ما وجدناه في مداخلة الأخت إيمان الفقهاء. وواجبنا حينئذ التفاعل مع المقترحات وإثراؤها، أما إن كان الهدف التخريب والتشكيك فواجبنا أن ندحض هذه الشبهات كل في مكانه ومجتمعه.
5/4 على العاملين في حقل الاقتصاد الإسلامي أن يفرقوا بين أنواع من النقد بالنظر إلى الناقدين أنفسهم . فهل هو من الشباب الفاعلين في داخل الصناعة أم من الناشطين في البحث العلمي وهل هو ممن تخصص في شأن ما ينقد أم هو أمر عارض لديه؟ وهل يتضمن نقده حلولا أم هي شهوة النقد؟ يعني هل يعرف ما يريد أم هو يعريف أن يقول دون أن يحدد ما يريد؟ كثير من مداخلات المروجين لحملة التشكيك بمشروعية البنوك الإسلامية هي من هذا النوع لا تتضمن مقترحات للحل، سوى مقترح واحد فقط هو هدم البناء، وتسويته بالأرض. دون تقديم بديل مكافئ ومفيد.
هذه مداخلتي في القضية الثانية وهي حملة التشكيك بمشروعية البنوك الإسلامية والترويج لعدم مشروعيتها، أما القضيتان الأولى والثالثة فأؤجل مداخلتي بشأنهما لوقت آخر, ولكم أطيب التحيات
عبدالباري مشعل