في غزة لا شيئ يهزم الحياة ولو مليون حصار، ولا شيئ يغيب العيش بتحدي ولو منعوا عنها الهواء، في غزة الحبّ يبقى أقوى حراس الحياة فيها.
غزة: تجلس والخوف يحاصرها، ملامحها من خلف النافذة توحي، أنها تنتظر ضيفاً غير مرغوب فيه، أسمه "الموت"، كلما جاءت الى قسم غسيل الكلى في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، ترنح شبابها على كرسي الغسيل لساعات، وكادت أنفاسها تنغلق عن رئتيها، كلما اشتغلت برحلة ما بعد الحياة، حتى رأته حولها يرتب سريرها، ويبدل شراشفه، ويمسح الغبار عن خزانة صغيرة وضعت بالقرب منها.
رصدت نظراته وهو يكرر محاولات التقرب إليه، وفجأة تبدلت مشاعرها التي برمجتها بداية على أنها"شفقة" لتزرع بذرة اللطافة وتنبت فيما بعد وتصبح حكاية"أمير وصفاء" قصة عاشقين جمعهما مرض الشابة، الى عرش المحبة، ليصبحا فيما بعد خطيبين، على سكة الزواج.
صفاء في العشرينيات من عمرها، قاومت مشاعر "عامل النظافة" أمير أبن الثلاثين عاماً، ولكنها لم تصمد أمام مشاعره الحقيقية، تجاهها، ومن بعد "غزوات" متكررة في ميادين الحبّ، استسلمت ورفعت رايتها البيضاء، لثائر على كل التقاليد، والمنطق، فمريضة الكلى التي كانت تعد أياماً لتمسك بيد الموت، أصبحت اليوم في حديقة الحب الغناء، تطير بلا أجنحة كالفراشات حول نار حبها، لأمير سيأخذها الى عرشها الجديد، بتراجع كبير لسوداوية كانت مسيطرة على صفاء الجميلة، والمثقفة والمبدعة.
صفاء التي تمكنت من قلب أمير خريج السياحة والفنادق، والذي أجبر على أن يعمل في مجال ليس مجاله، بالتنظيف، نجحت أيضاً في إقناع أهل حبيبها على أنها تستحق الحياة معه، فوافقوا على زواجهما دون أن يفتحوا أبواب التقديرات السيئة، والاحتمالات السوداوية، فراحت أيام صفاء وأمير تتبدل دون كلفة ولا تجميل، الى حياة جدية.
أمير الذي خطب صفاء وهي مريضة بالكلى، دفع مهرها وفاءً، ومن بعد إصراره اجرى فحوصاً طبية من أجل أن يتبرع بكليته لمخطوبته صفاء، ويزرع جزء منه في جسدها، في حال تطابقت الانسجة، وتوافقت الإمكانيات، وإلا فسيبقى يبحث لها عن كلى تطابق وتتوافق مع جسدها، ويسهر على راحتها، ليكمل عمره معها، ما استطاع الى ذالك سبيلا.
قصة صفاء الحرازين وأمير براش، أثارت ضجة إنسانية كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتباينت الآراء والمواقف، من زواج شاب بمريضة كلى، ولتفتح غزة عينيها على واحدة من أجمل قصص التحدي، والبقاء رغم كل المعيقات، لينتصر صوت الانسان بوجوده الفطري، على صوت الوسواس الخناس المغيب لطبيعة البشر، وتعايشهم مع الحياة، مهما كانت قاسية.
والحكاية لم تنته عند حبّ انتصر، بل بدأت مع رغبة المريضة في تحدي مرضها، وإصرارها على الشفاء، لا من أجلها هي فحسب، ولكن من أجل حبيبها الذي أصبح خطيبها وسيكون يوماً زوجها، ولتنكسر بقصتهما رعونة الحصار، وملفات التكديس لتسويف العلاج، وتكنيس الغبار عن رفوف اتعبها الانتظار، على أنين لا يشبع المسامع وجعاً، ربما صفاء وأمير فتحا بوابة خلفية للحياة، يحاول كل من يحاول إغلاقها عن قطاع غزة، وربما البطالة محطة أخرى في الحكاية، صورها شاب خريج بتخصص لو كتب له أن يشغل وظيفة تناسبه، لكانت الحياة أجمل، ورغم ذلك لم يعيبه المكنسة وقطعة القماش لمسح غبار الأجهزة الطبية، وتنظيف شراشف المرضى.
وفي الحكاية عبرة أخرى وهي تقبل الأهل لحبّ لم يعد عيباً، ولا مرض عائق، بل أصبح صورة من صور التباهي بالانسانية والانتصار لها، لتكتب غزة قصتها على صفحات من ورق العشاق.
في غزة لا شيئ يهزم الحياة ولو مليون حصار، ولا شيئ يغيب العيش بتحدي ولو منعوا عنها الهواء، في غزة الحبّ يبقى أقوى حراس الحياة فيها.