ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: تجربة الحكم اليساري في أميركا اللاتينية الإثنين 11 سبتمبر 2017, 5:27 am | |
| تجربة الحكم اليساري في أميركا اللاتينية يستنتج باحثون في الأنثربولوجيا بعد قراءات معمقة في عادات وثقافات عدد من الشعوب البدائية، إلى نتيجة مفادها، أن الطبقات الاجتماعية بصفتها الغالبية الشعبية ظلت تتمسك بموروثها الإنساني الرافض للتمايز في التملك والملكية. ومن هذه الشعوب البدائية، على ما تروي عالمة الأناسة مارغريت ميد، من يلجأ إلى تنظيم احتفالات مسهبة بعد الحصاد لتوزيع المحصول بالتساوي. وقد وصفت "ميد" هذه الاحتفالات عند شعب آرابيش البابو في غينيا الجديدة، حيث يجتمع جميع الذين حصدوا محصولا فوق المتوسط، فيدعون عائلاتهم بكاملها وجيرانهم جميعا للمشاركة في احتفالات تستمر حتى استهلاك القسم الأعظم من فائض ذلك المحصول. مارغريت ميد تخلص إلى "أن هذه الاحتفالات تشكل إجراء ملائما لمنع الفرد من مراكمة الثروات". هاجس العدالة اللاتيني أحد علماء الأناسة كتب عن نظام وتقاليد قبيلة قطنت جنوب الولايات المتحدة، وهي قبيلة الهوبي. فعند هذه القبيلة، كما كتب هذا العالم، يعتبر مبدأ المزاحمة الفردية، مبدأ مدانا من وجهة النظر الأخلاقية. فعندما يلعب أولاد الهوبي ألعابا رياضية لا يحسبون أبدا العلامات وهم يجهلون من "ربح" أساسا.ما تسرب من هذه الثقافة العميقة في إنسانيتها وجد له بيئة مناسبة في القارة اللاتينية التي كان القاسم المشترك بين شعوبها هو الموروث الثقافي القادم من خليط هندي أحمر وافريقي ومن الجنوب الاوروبي الفقير، وتحديدا من اسبانيا والبرتغال. هذه الظلال الانسانية العميقة ألقت بمحمولها النفسي على غالبية افراد المجتمعات الصغيرة في أميركا اللاتينية التي لم تعرف في بداية تشكل جماعاتها البشرية نظاما قاسيا لتقسيم العمل. مذ ذّاك، بدأ الموروث الانساني يتفاعل مع الثقافة الدينية الباحثة عن العدالة في مواجهة التعسف غير المسبوق القادم مع الاستعمار الاسباني والبرتغالي والأميركي الشمالي، مما ادى إلى شيوع فكرة قلقة ورجراجة عن ملاحقة حلم العدالة ورفع الظلم بالقوة. تجسد هذا الاشتباك بين الموروث الثقافي الشعبي والمفاهيم الدينية في قول احد القساوسة الذي اصبح عابرا للبلدان، حتى استقر في الوجدان اللاتيني الشعبي "لماذا علينا ان نعيش عبيدا. الله خلق جميع البشر متساوين. إن الذين نسميهم بالأأسياد وتعمل الملايين لصالحهم هم فعليا يستهلكون ما ننتجه نحن. إن ترفهم ناتج عن كدحنا".ربما كان هذا هو سر "اللاهوت الثوري" الذي هيمن على الكنيسة اللاتينية بانحيازها ضد الديكتاتوريات العسكرية التي امسكت بتلابيب بلدان القارة منذ عقود طويلة. لكن كثيرا من المتخصصين في الشأن اللاتيني يجمعون او يكادون على وصف البحث عن العدالة بـ"الفكرة الغائمة "، في اشارة إلى عدم تبلور الفكرة مدرسيا ومنهجيا، ما ادى إلى مراوحة الفكرة بين اشكال متعددة في تجسيدها. كان هذا الامر باديا في مخاضات السلطات الشعبية التي جاءت باسم "الموجة اليسارية الجديدة" المشتبكة مع ارث اللاهوت الثوري. فمع وصول القوى اليسارية إلى السلطة في فنزويلا والاكوادور والبرازيل وبوليفيا بدا ان الامور ستستتب، نظرا لأن هذه الحكومات كانت محمولة بتوق شعبي للتحرر الاقتصادي والاجتماعي. في الواقع واجهت هذه الحكومات الشعبية دون خطة سياسية واضحة، القوى القديمة التي كانت تمسك بالزمام. حدثت حركة التأميم متأرجحة، واشاعة التعليم والتامين الصحي بلا خطة تستند لبنى تحتية تقوم عليها الحركة الشعبية ذاتها او انصارها. ومن مفارقات انتكاسة القوى اليسارية في بلدان أميركا اللاتينية، ان احد اسبابها هو الحضور الطاغي والالحاح الشدي للتوق للعدالة في السيكولوجيا الشعبية، مما شكل سندا للقوى القديمة التي استثمرت في التذمر الشعبي من سوء الخدمات او انخفاض سعر صرف العملات الوطنية بتوجيه من الولايات المتحدة واذرعها الداخلية في بلدان القارة، وذلك من اجل اطاحة الانظمة اليسارية. هذا الامر يبدو درسا قاسيا في فنزويلا والبرازيل، وقبلهما تشيلي التي عانت الأميرن مبكرا حين اسقط انقلاب عسكري الحكومة الاشتراكية المنتخبة برئاسة سلفادور الليندي في ايلول (سبتمبر) 1973. كانت انتكاسة تشيلي مأساة لكل بلدان القارة. بدا ان القوى المتحالفة تاريخيا مع الولايات المتحدة رفعت شعارا: نحن لكم بالمرصاد. فلن تمروا الا عبر بوابتنا.هذا الوعيد تحقق في حلة مختلفة في البرازيل المجاورة، حيث اسقطت مؤخرا الرئيسة اليسارية ديلما روسيف باختراق حلفاء واشنطن للتحالف الحاكم. جرى الامر بشكل مسرحي لا بل وهزلي دون اي اعتبار للناخبين وخياراتهم. لفقوا سلسلة من الاتهامات لإطاحة الرمزية التي كانت تشغلها الرئيسة روسيف وحزبها الذي تمكن من نقل البلاد عبر 13 سنة لتصبح من اقوى الاقتصادات العالمية.يقول محللون، ان كل المكتسبات الشعبية التي انتجتها سياسات حزب العمال البرازيلي اضحت موضع تساؤل بعد اطاحة رئيسته من حكم البلاد. المحللون يتساءلون: ما هي الوجهة التي كان على الحزب اتخاذها؟ هل يسلك طريق فرض الضرائب فقط على الاغنياء والشركات التي اثرت نخبتها على حساب عموم الشعب البرازيلي؟ هل تلكأت حكومات العمال في تنفيذ سياسة اقتصادية تنزع من قوى الثروة المتحالفة مع واشنطن كل ما يمكنها من تعطيل مسار البلاد؟ أسئلة كثيرة تواجه بلدان القارة التي ترى في البرازيل مثالا صارخا في مأساته على تبدد احلامها في التحرر وايجاد مكان لها تحت الشمس في بلدان مستقلة تماما. مخاضات كثيرة وعسيرة في انتظار هذه الدول المتأججة في سعيها للحاق بالعالم المعاصر. بيد أن وعيا عميقا تتسلح به القوى الجديدة، عبرت عنه فكرة تجوب القارة وتطفو عل سطح احداثها: على عقلنا الجمعي ان يبدع في مواجهة ارث ثقيل من التبعية للولايات المتحدة. علينا ان نواجهة موروثا ثقافيا من اسطرة الاغنياء والفاسدين. هؤلاء تسللوا إلى صفوفنا في غفلة منا حين كنا نصدق اننا امسكنا بالسلطة وأجهزتنها، فاغفلنا ان السلطة شيء مختلف. انها ليست الحكومة وقواها الفاعلة. انها ليست التشريعات فقط التي اخفقنا في جعلها محفزا لاقتصاد لم نحدد هويته. هل نبقية راسماليا ام نحوله اشتراكيا خالصا على الطريقة السوفييتية، ام سيكون بين بين؟ تمضي هذه الفكرة بكل وضوح إلى حد القول: نسينا اسس الصراع ومقتضاياته التي تبدو في غير صالحنا اليوم. ان دولة تكاد ان تصبح فاشلة مثل فنزويلا لهو امر في غاية الاحباط على الرغم من ثرواتها الهائلة وقدرات ابنائها الخلاقة. يقول محلل، ان الحرب الاقتصادية والخيارات السياسية الخارجية لم تكن هي السبب الرئيسي في إخفاق اليسار اللاتيني، ذلك ان إلاشتراكيين مسؤولون تماما عن الفشل في تحقيق آمال الناس وإعطاء خصومهم الذرائع الكافية لتحويل الرأي العام من مساند بالمطلق إلى محبط ويائس.يفصل هذا المحلل: أتى اليساريون على صهوة الحلم اللاتيني في طَي صفحة مأساوية من تاريخ هذه المنطقة وعقدت الآمال على تغييرات جذرية تعيد الحقوق إلى أصحابها، حقوق تبدأ في توزيع عادل للثروة وتنتهي عند حفظ السيادة والكرامة الوطنية التي طالما ناضل اللاتينيون لكسبها وقدّموا على مذبحها تضحيات جسام. إغراق الفقراء بالأيديولوجيا محلل آخر يلقي اللوم على الحركات اليسارية قائلا: قد لا يعجب كثيرا من اليساريين الحديث عن عدم اكتراث مواطنيهم لأيديولوجيا اليسار، بقدر ما كانوا تواقين للتغيير والرهان على قرب الطبقة السياسية الجديدة من واقع الناس الأليم. ويستنتج انه كان لا بد من حسابات تراعي طموح الفقراء بعيدا عن الغرق في النظريات العقائدية، على أن يكون السلوك السياسي العملي هو الفيصل في التصديق على هذه التجربة والإيمان بصدق شعاراتها.تحت وطأة هذه الآمال، حصد اليساريون انتصارات متتالية متسلحين بتفويض ناخبيهم اللامحدود، وانتقلت التجربة التي أصابت مكامن الجرح في بداياتها إلى معظم الدول اللاتينية بانتظار تحقيق النتائج المرجوة. عاش الحكام اليساريون فترة حكمهم الذهبية، الممتدة منذ تسلم الزعيم الراحل أوغو تشافيز الحكم في فنزويلا العام 1998، على وقع نجاحات متراكمة، تجربة حالت دون تقدمها إخفاقات جسيمة عادت بالناس إلى مربع الاحباط الاول حيث بدات عملية البحث عن البدائل التي باتت شديدة الصعوبة، خصوصا وان الخيارات ضاقت بين يمين يبني سياساته على تغليب مصالح الشركات الكبرى والابتعاد عن ملامسة احتياجات الطبقات الفقيرة وبين يسار لم يستطع الحفاظ على إنجازاته وأخذته زهوة السلطة إلى ارتكاب الأخطاء القاتلة. ويتساءل المحلل : ما هي الأسباب التي أدت إلى إخفاق اليسار المنتشي وما هو سر تراجع شعبيته إلى الحد الأدنى بهذه السرعة القياسية؟يتوقف هذا المحلل عند رزمة من الاسباب: أجاد اليساريون التعبير عن ألام شعوبهم وبنوا شعاراتهم السياسية على رفع الحرمان عن الفقراء ومكافحة الفساد واحتكار الشركات للثروات الوطنية، إلا أن تقلدهم السلطة حد من التزامهم بهذه الوعود على الرغم من انكبابهم على إنجاز كثير من البرامج الاجتماعية. فالحسابات السياسية وضرورة التحالفات جعلت من مكافحة الفساد كمشروع أساسي أمرا صعبا، وما زاد الطين بلة انضمام عدد من السياسيين الفاسدين إلى التيار اليساري الذي فتح ذراعيه للتمدد الخارج عن السيطرة وهو ما أوقع عدد من اليساريين التقليديين في عقد الصفقات المشبوهة واستغلال السلطة لمصالح شخصية، وعليه فإن الحزب الموكولة إليه مهمة مكافحة الفساد وملء السجون بالفاسدين تقاعس عن أداء دوره وبات بحكم تورط بعض قياديّيه شريكا في الآفة التي انهكت اقتصاد بلاده.اما ثاني الاخطاء او الخطايا التي ارتكبها اليسار اللاتيني، فهي التباينات بين اجنحته. فعلى الرغم من التقارب الأيديولوجي بين الأحزاب اليسارية الحاكمة في أميركا اللاتينية، إلا أن التباين بينها كان جليا إلى حد نشوء أزمات في العلاقات الاقتصادية تمثلت في خلاف حاد بين البرازيل والأرجنتين أدى إلى تراجع كبير في التبادل التجاري، وهنا لم تكن سعادة العماليين البالغة بعد صعود اليمين الأرجنتيني مستغربة، فمساحات التعاون بدت أفضل وأسهل، حقيقة أظهرها الرئيس اليميني المنتخب ماوريسيو ماكري في موقفه المناهض لإقصاء الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف لاعتبارات اقتصادية بحتة. الخلاف نفسه وقع بين اليساريين في الأرجنتين والأوروغواي، الأمر الذي دعا بالرئيس الاشتراكي السابق خوسيه موخيكا إلى التهديد بالخروج من منظمة "مركوسور" بعد فرض الأرجنتين سياسات حمائية حدّت بموجبها من التبادل التجاري مع بلاده.على الصعيد ذاته، لا يمكن إغفال تهديد سابق للرئيس البوليفي إيفو موراليس بفك الشراكة النفطية مع البرازيل اذا ما استمرت شركة بتروبراس في استغلالها غير العادل لنفط بلاده، ولا يمكن إغفال قرار التخلي عن رئيس الباراغواي الأسبق القس فرناندو لوغو الذي ترك وحيدا أمام تحشيد الداخل والخارج وهو الذي ناشد مرارا البرازيل والأرجنتين إسداء بلاده بعضا من حقوقها كبدل عن استخدام السدود المائية التي تستفيدان منها لتوليد الطاقة الكهربائية، وصولا إلى الأزمة بين فنزويلا والبيرو، وليس آخرها تخلي كل الحكومات اليسارية المنتجة للغذاء عن فنزويلا في أصعب أزمتها الغذائية. هذه الخلافات أبرزت واقعا سيئا يظهر اللاإنسجام بين التيارات اليسارية، بل يصل توصيف بعض العلاقات بالعدائية. الإعلام المعادي داخليا يقول المراقبون، "أعلن يساريو أميركا اللاتينية مواقفهم السياسية المناهضة للنظام الاستعماري العالمي، و ناصروا القضايا العادلة وتطور خطابهم السيادي إلى حد المطالبة في تمثيل مستحق داخل الأروقة الدولية وخاصة مجلس الأمن، إلا أن هذه الإنجازات والمواقف لم تصرف في الداخل الذي بقي متأثرا بالتوجهات الإعلامية المعادية لليسار. وقالوا ان الاعلام المعادي للحكومات اليسارية استطاع بماكينته الضخمة ان يغيّب كل النجاحات على الصعيد الدولي ليحولها إلى تهمة، حين صور للرأي العام اللاتيني أن حكوماته تتجه إلى محور دكتاتوري يجمعها مع الصين وروسيا وتناهض التحرر والمدنية المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. ولفت هؤلاء إلى ان هذا الاعلام المعادي والناشط في أميركا اللاتينة لم يكن صعبا عليه إيجاد ما يكفي من المواد الإعلامية لتشويه كل الإنجازات بل إلى دب الرعب في قلوب الناس والحديث عن مغامرات "شيوعية" قد تودي بالمنطقة إلى الهاوية".ولفتوا إلى أن السياسات الاقتصادية التي اتبعها اليسار لم تنتبه للحاجة الماسة لإنشاء بنية إقتصادية بعيدة الأمد، بل اعتمدت على البرامج الرعائية المؤقتة التي حلت جزءا من مشكلة الفقر والبطالة من دون أن تضمن استمراريتها أو على الأقل الحفاظ على إنجازاتها. فالبرازيل مثلا أطلقت برامج مهمة كالإعانة العائلية المتمثلة براتب متواضع تتقاضاه الأسر الفقيرة شهريا و"بيتي حياتي" الذي يسعى إلى تأمين منازل للمشردين، وحذت فنزويلا حذو جارتها فأطلقت أكبر مشروع إسكاني حيث آوى مليون عائلة، إضافة إلى المشاريع الصحية، عبر استدعاء أطباء كوبيين لتغطية العجز الطبي. أما الأرجنتين واحتيالاً على أزمتها فقد أوصدت حدودها أمام الاستيراد وخفضت من سعر صرف الدولار الأميركي مقابل البيسو في السوق الداخلية، بينما كان سعر الصرف في الخارج يتضاعف، وضعت الحكومة الأرجنتينية ميزانية هائلة لدعم المواد الغذائية وتحسين الرواتب لكسب الطبقات العمالية، إلا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لتفادي مضاعفات الأزمة الإقتصادية.فتح الاسواق خطأ استراتيجيخبراء اقتصاديون يذهبون إلى توصيف فتح الأسواق اللاتينية أمام الأسواق العالمية وخصوصا الصينية بالخطأ الاستراتيجي، موضحين ان المنتوجات الصينية التي أغرقت الأسواق اللاتينية حدّت من إنتاجها المحلي وجعلتها منطقة استهلاكية بعدما كانت تعتمد على الصناعة والإنتاج. ويرى الخبراء بأن انضمام البرازيل مثلا إلى منظمة البريكس أعطاها ثقلا سياسيا معنويا لكنه أرهقها إقتصاديا، فالرهان على وعود الحلفاء كان مجرد قراءة مبسطة للواقع العالمي الذي باتت قواه الأساسية تتعامل بواقعية سياسية تتيح لها تجاوز الاعتبارات الإيديولوجية، فالصين مثلا التي راهن اللاتينيون على دعمها كانت ترتب ملفاتها تبعا لمصالحها الاقتصادية وأهمها حفظ الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية، أما الشريك الروسي فقد عبر فوق حلفائه وفتح بدوره شراكة سياسية مع الولايات المتحدة الأميركية مما أفضى جوا من الإحباط اللاتيني الذي أحس بأن حلفاءه استفادوا من القدرة الاستهلاكية لبلادهم واقتصر دعمهم على وعود ومشاريع بقيت حتى الساعة حبرا على ورق.ويستنتج المحللون، أنه إذا كانت هذه الأسباب ساهمت في إخفاق المشروع اليساري اللاتيني فإن استخدامها من قبل خصوم اليسار في الخارج وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية يعد أمرا طبيعيا، فالولايات المتحدة التي أدركت حجم خسارتها في فقدان حديقتها الخلفية وتنامي الشعور المعادي لسياستها لم تغفُ لحظة واحدة عن متابعة مجريات المرحلة الجديدة في أميركا اللاتينية حيث قادت صراعا باردا تمثل في ربط علاقات وثيقة مع التيارات المعارضة وتوجيهها بإرشادات ونصائح ومتابعة إعلامية ولوجستية. يقول محلل مختزلا المشهد المأساوي: نجح الخارج في استدراج اليسار عبر مراوغته بسياسة الاعتراف وأحيانا الامتداح، وانقض عليه في لحظة الضعف، فأنهك الثورة البوليفارية في فنزويلا عبر حرب اقتصادية تجويعية مستغلا ركاكة الأداء السياسي والفساد داخل الحزب الإشتراكي. أسقط اليسار الأرجنتيني بنفس السلاح مضافا إليه التعبئة الإعلامية التي قادتها شبكة "كلارين" النافذة واستطاعت محو إنجازات الرئيسة الإشتراكية التي أنقذت البلاد من براثن الإفلاس. ارتدادات التراجع اليساري أصابت البرازيل التي شهدت إخراجا مشغولا بتقنية عالية، حملة قضائية واسعة في أدق الأوقات وأصعبها مرفقة بحملة إعلامية واسعة وصفقات سياسية خرقت قاعدة التحالف بين اليساريين والأحزاب الشريكة ووضعت بلاد السامبا أمام انقسام اجتماعي حاد سيفضي بالضرورة في أحسن الأحوال إلى إضعاف اليساريين وفي أسوئها إلى القضاء عليه لفترة زمنية طويلة. أوروغواي: بلا إخفاقات استراتيجية المحللون يعتبرون ان أوروغواي وحدها عاشت التجربة من دون إخفاقات استراتيجية بفعل الرئيس الأسطورة خوسية موخيكا الذي بات رمزا عالميا للقائد المتقشف والحريص على أموال الدولة، فسلم خلفه تجربة ناجحة مبنية على إيمان الناس بصدق برنامجها على الرغم من الأزمات الاقتصادية. أما جارتها بوليفيا فقد أعطت إشارات فرملة حلم إيفو موراليس بعد رفض معظم البوليفيين إعطاءه فترة حكم ثالثة وبالتالي قد ينضم هذا البلد الفقير إلى جواره في الخروج من تجربة اليسار إلى خيارات قد يجدها أقرب إلى تحقيق مطالبه.ويرى المحللون انه لا الحرب الاقتصادية ولا الخيارات السياسية الخارجية هي السبب الرئيسي في إخفاق اليسار اللاتيني، فالإشتراكيون مسؤولون تماما عن الفشل في تحقيق آمال الناس وإعطاء خصومهم الذرائع الكافية لتحويل الرأي العام من مساند بالمطلق إلى محبط ويائس. المسوح وحدها لا تصنع راهباًكتب غابريل غارسيا ماركيز ذات يوم: المسوح وحدها لا تصنع الراهب. ولعل إسقاط قول الروائي العظيم على اليسار في بلدان القارة التي حلم بها ماركيز حرة وسيدة يعني، أن اليسار اللاتيني القادم من رحم المعاناة الشعبية اشبع فضاء الفقراء استطرادات إنشائية عن العدالة، وسياحة إنشائية تغنت بالحكم النهائي للشعب الذي وجد نفسه في مواجهة اخفاقات حكومات حملها اماله واحلامه. لكن الواقع العياني اثبت أن هذه القوى لم تتقن جيدا فن واساليب الدفاع عن مصالح ناخبيها لتحسم امر هيمنة اعداء الداخل المرتبطين تاريخيا باليانكي الشمالي. ولم تحسم امر عودة الديكتاتوريات بحلة جديدة وعبر صندوق الاقتراع ذاته. انه سؤال صندوق الخيار الشعبي الذي لا يعني ابدا بلوغ الديمقراطية والحرية في بلدان ما تزال اقتصاداتها تابعة وبناها الاجتماعية رخوة، فيما طبقاتها المتنفذة تاريخيا لا يعنيها الا الربح المادي عبر التبعية للولايات المتحدة والمعسكر الغربي عموما. وفي مقاربة عميقة يسوق محلل تشبيها للسطو المعلن الذي يمارسه الدائنون الدوليون والمعسكر الغربي عموما على الدول الساعية للاستقلال الاقتصادي والسياسي، قائلا :"إذا كنت من عشاق أفلام المافيا، فأنت تعرف كيف يمكن للمافيا أن تسيطر على مطعم شعبي. في البداية يقومون بأمر مثير للانتباه، مثل قتل أحد الأشخاص أو إشعال النار في المكان. وعندما تبدأ الأعمال التجارية في التدهور يقدم العرّاب الأموال بسخاء كعربون صداقة. وفي المقابل يسيطر على حسابات المطعم وعلى التوريدات. لا احتاج لأن أقول إنها كانت رحلة بائسة وحزينة لمالك المكان الذى اقترب من الإفلاس، فإن كان محظوظا سيبقى على قيد الحياة". فنزويلا تحت الحصار حتى تثوب عبر صندوق الاقتراع، جاء هوغو تشافيز إلى رئاسة فنزويلا في 6 كانون الأول(ديسمبر) 1998. كانت تلك لحظة استثنائية اتسقت مع دفقة اليسار الجديد في بلدان أميركا اللاتينية التي اخذت تخلع طغاتها التابعين للولايات المتحدة الأميركية بالديمقراطية التي ذهب اليها هؤلاء الحكام مضطرين تحت الضغط الشعبي. ورثت حكومة شافيز، اقتصادا معتمدا على النفط بصورة كبيرة وعدم توازن هيكلي، يتضمن عجزا ماليا ضخما وعجزا للحساب الجاري ومعدلات بطالة مرتفعة ونبهت هذه الأزمة إلى ضرورة العمل بسرعة. وقد طبقت الحكومة العديد من السياسات الاقتصادية، منها تخفيض النفقات العامة والحفاظ على سياسة سعر صرف قوية، وحاولت الحكومة تشجيع الاستثمار الأجنبي، الذي كان يخشى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، خصوصا مع صدور قانون الطاقة في العام 2001 وبموجبه سيطرت الحكومة على 51 % من أسهم كل مشروع، كما أنه يرفع الضرائب التي تدفعها الشركات الأجنبية.لكن في نيسان (ابريل) 2002، كان هوغو تشافيز يواجه أكبر خطة لاسقاطه حاكتها الاستخبارات الأميركية، ونفذتها المعارضة الداخلية، لإطاحة حكمه.كاد التدخل الأميركي ان يحقق أهدافه، لولا أن الشعب التف حول تشافيز، الذي اعاده المتظاهرون إلى قصر ميرافلوريس، بعد 48 ساعة، من الاحتجاز.التدخل الأميركي باذرعه الداخلية اقنع تشافيز بأن النضال بطابعه الاقتصادي ــ الاجتماعي أكثر ثباتاً من الانقلابات العسكرية، التي خاض أحدها في مطلع التسعينيات.على هذا الأساس، أطلق تشافيز ثورته الكبرى، من موقعه رئيساً لواحدة من أكثر الدول اللاتينية غنىً بالثروات الطبيعية، وفي مقدمها النفط، الذي راح يستثمر عائداته في مشاريع تنموية تجاوزت الإطار المحلي، لتتخذ منحى قارّياً، بعد تأسيس "البديل البوليفاري"، الذي تحوّل بسرعة قياسية إلى مشروع تكاملي بين الدول اللاتينية.بيد أن اليسار اللاتيني اللاتيني شهد خلال السنوات الخمس عشرة المنصرمة انتكاسات، وحالات مد وجزر، سواء في عهد تشافيز، أو بعد رحيله في 2013، إلا أن فنزويلا لا تزال تقاوم، وتحاول حماية تجربتها، برغم كل الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة، من الخارج والداخل.ويرصد المراقبون أنه المحاولات الأميركية لم تتوقف لإسقاط ما تبقى من أنظمة يسارية في أميركا اللاتينية، وهو ما يرونه متجسدا في الازمة الحالية في فنزويلا، اذ اعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قرر إسقاط نيكولاس مادورو، بـ"الوصفة" الجمهوري ذاتها، التي لجأ إليها سلفه جورج دبليو بوش، لإسقاط هوغو تشافيز قبل 15 عاماً.مادورو في المواجهةوتبعا لذلك، يعتبر المراقبون أنه يمكن فهم طبيعة الأزمة السياسية القائمة في فنزويلا حالياً، والتي تقترب من أن تكون حرباً فعلية، تشنها الولايات المتحدة، عبر أدواتها الداخلية، لإطاحة نيكولاس مادورو، خليفة تشافيز، الذي يخوض أكبر النزالات السياسية، وأشدها خطراً، منذ أن نجحت المعارضة اليمينية في استغلال مكامن الخلل في النظام السياسي من جهة، والأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد نتيجة لانخفاض الأسعار العالمية للنفط الخام، من جهة ثانية.وتبدو المعارضة اليمينية، الممثلة للمصالح الرأسمالية في البلاد، ماضية في التصعيد ضد النظام اليساري في فنزويلا، في سياق ثأري، للانقضاض على الإجراءات الاقتصادية، التي اتخذها تشافيز خلال سنوات حكمه الاثنتي عشرة، ومن نتائجها تأميم مئات الشركات للقضاء على الاحتكارات الرأسمالية، وتمويل برامج التنمية الاجتماعية.لهذا الغرض، يؤكد المراقبون أن المعارضة الفنزويلية، لم توفر عبر شبكة المصالح الرأسمالية المرتبطة بها، سلاحاً لشن الهجوم المضاد على النظام البوليفاري، والتي اتخذت منحى تصاعدياً منذ رحيل تشافيز، ووصول مادورو إلى الحكم.وقالوا انه الاقتصاد كان السلاح الأمضى في يد اليمين الفنزويلي، الذي اقتنص فرصة تراجع العائدات العمومية، نتيجة لانخفاض سعر النفط من جهة، والخلل في الجهاز البيروقراطي للدولة الفنزويلية، ولا سيما في المجال الخدماتي، فراح يفاقم الأزمة المعيشية التي تمثلت في شح السلع الاستهلاكية، وذلك من خلال مضاربات غير مشروعة أدت إلى ارتفاع جنوني في الأسعار.وسرعان ما استفادت المعارضة اليمينية من ذلك، في انتخابات 2015، التي انتهت باستحواذها على غالبية المقاعد في الجمعية الوطنية، وهو ما شكل فرصة تاريخية للانقضاض على الإصلاحات الاقتصادية ــ الاجتماعية التي وضع تشافيز أسسها، بدءاً بإلغاء مشاريع توفير السكن للفقراء، وصولاً إلى عرقلة الشراكة بين شركة النفط الحكومية "بي دي في أس آيه" وشركات طاقة روسية.وعلاوة على ذلك، فقد جرت محاولات ــ لا تزال مستمرة ــ لتقليص صلاحيات الرئيس من جهة، والعمل على إسقاطه، سواء بانتخابات مبكرة، أو بتحريض الجيش الفنزويلي على القيام بحركة انقلابية، تحت شعار "حماية الدستور"!وفي ظل الاستمرار في التصعيد على المستوى الاقتصادي ــ ومن أحدث أشكاله طلب من البرلمان اليميني السابق إلى المصارف الدولية الكف عن تقديم قروض مالية لحكومة مادورو ــ تدخلت المحكمة الدستورية، فقررت انتزاع بعض الصلاحيات من البرلمان، لكن ذلك اصطدم بمعارضة جهات أخرى في السلطة القضائية الفنزويلية، حتى تلك المقرّبة من مادورو، وذلك لأسباب مبدئية.تلك التطوّرات كانت كافية، كما يرى المراقبون، لمنح اليمين فرصة جديدة، للمضي قدماً في الهجوم على مادورو. وانطلاقاً من ذلك، عمد اليمين الفنزويلي إلى تعطيل كل مساعي الحوار، التي تتم بوساطة من رئيس الدومينيكان ليونير فيرنانديز، ورئيس الوزراء الإسباني السابق خوسيه لويس زاباتيرو، ورئيس بنما السابق مارتين توريخوس، قبل أن يعطي الضوء الأخضر للنزول إلى الشارع، في تظاهرات شبه يومية، لم تخل من أعمال العنف، وتسببت بخسائر للاقتصاد الفنزويلي بعشرات مليارات البوليفارات. وبالرغم من أن الرأي العام الفنزويلي يفضل، بغالبية كبيرة، التوصل إلى تسوية سياسية، في مقابل قلّة تريد إسقاط الرئيس، حسبما تشير استطلاعات الرأي، إلا أن المعارضة اليمينية تسعى إلى رفع نسبة المعارضين لبقاء مادورو في الحكم، من خلال تصعيد الضغط عبر الشارع. |
|