مكانة العقل ودوره في الإسلام
د. سمير مثنى علي الأبارة
وللعقل في الإسلام منزلة كبيرة ودرجة رفيعة، يتبوأ فيها ويتفيأ ظلالها، فليس ثمة عقيدة تحترم العقل الإنساني وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب خاطب العقل وغالَى بقيمته وكرامته ككتاب الإسلام، ونظرة إلى آيات القرآن الكريم تلقى عبارات ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73] ﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24] ﴿ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 98] تتكرر عشـرات المرات، مؤكدة المنهج القرآني الفريد في الاقتناع العقلي للإيمان، كل هذا يؤكد ما للعقل من منزلة كبرى في الإسلام.
وإذا ما ذهبت تلتمس مظاهر أخرى عديدة لتكريم الإسلام للعقل برزت لك جوانب مشـرقة؛ أذكر منها:
أولًا: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي: وتظهر سمات ذلك بأساليب شتى؛ مثل:
الدعوة إلى التفكر والتدبر في كتابه ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] [1] ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه، وما شـرع فيه من شرائعه، فيتعظوا ويعملوا به [2]، ثم يستثير العقل الإنساني متحديًا له أن يأتي بمثل هذه القرآن، حتى إذا ما عجز سلَّم مقتنعًا بأنه من عند الله ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [3] لقد تحداهم القرآن الكريم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا فتحداهم بسورة فعجزوا، وقد صور الزمخشـري أن الانتقال من العشـر إلى الواحدة تَنَزُّل في التحدي كمن يقول لمن يتعلم الكتابة، اكتب عشـرة أسطر فلا يستطيع، فيقول له اكتب سطرا فإذا لم يكتب كان ذلك دليلًا على العجز المطلق، ولقد ادعوا على النبي صل الله عليه وسلم أنه افتراه، فتحداهم أن يأتوا بعشـر سِوَرٍ مثله مفتريات [4]. ودعا العقل إلى التدبر في مخلوقات الله ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [5] يقول تعالى منبها على التفكر في مخلوقاته، الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه، فقال: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الروم: 8] يعني به: النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلا بل بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة؛ ولهذا قال: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 8] ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات، والدلائل الواضحات، من إهلاك من كفر بهم، ونجاة من صدقهم [6]. ثم يستثيره مرة أخرى أن يجد خللًا في شيء منها حتى إذا ما عجز زاد تسليمًا واقتناعًا ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [7] الذي خلق سبع سموات متناسقة، بعضها فوق بعض، ما ترى في خلق الرحمن - أيها الناظر - من اختلاف ولا تباين، فأعد النظر إلى السماء: هل ترى فيها مِن شقوق أو صدوع؟ ثم أعد النظر مرة بعد مرة، يرجع إليك البصـر ذليلا صاغرًا عن أن يرى نقصًا، وهو متعب كليل [8]. ودعاه إلى التدبر في تشريعاته، ففيها عبرة وفيها إعجاز ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [9]. ودعاه إلى التدبر والنظر في أحوال الأمة الماضية وعاقبة معاصيهم التي أصـروا عليها ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [10]. ودعاه إلى التدبر والنظر والتأمل في هذه الحياة الدنيا ونعيمها الزائل﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [11].﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ ﴾ [الكهف: 45] يا محمد﴿ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 45] وحسنها وبهجتها؛ مع سـرعة زوالها وانقضائها ﴿ كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [الكهف: 45] بيسـر وسهولة ﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾ [الكهف: 45] أي شـرب منه، ونما وازدهر بسببه؛ غير أنه ذبل بعد ذلك﴿ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا ﴾ [الكهف: 45] يابساً متكسـراً﴿ تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ﴾ [الكهف: 45] تنسفه وتطيره [12]. هذه بعض مظاهر التأمل التي دعا القرآنُ العقلَ إليها، وهو حين يدعوه إلى ذلك لا يريد منه أن يقف عند حدود التأمل والنظر، فليس ذلك بمراد لذاته؛ وإنما ليعبر منه إلى ثمرته وفائدته؛ فيقوِّم به عقيدته، ويرسي أركانها، ويثبت قواعدها ثباتًا لا تزعزعه هبات؛ بل رياح الشهوات؛ وحينئذ يكون الفلاح، وحينئذ يكون الإيمان الحق؛ ذلكم هو المراد وهو الهدف؛ لكنه ليس هو نهاية المطاف.
ثانيًا: وحين يصل القرآنُ بالعقل إلى هذه الدرجة فإنه لا يدعه هملًا؛ بل وجه طاقته إلى هدف آخر أوسع رُقعة وأعظم نتيجة؛ تلكم هي مراقبة الحياة الاجتماعية مراقبة إصلاح وتوجيه لما فيه فلاحها وسعادتها﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [13] وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أمة مُنْتَصِبَةٌ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104] قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ خَاصَّةُ الصَّحَابَةِ، وَخَاصَّةُ الرُّوَاةِ يَعْنِي الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءَ [14]. وليست هذه المهمة لإصلاح المجتمع مسئولية مؤسسات المجتمع فحسب؛ بل هي مسئولية كل فرد فيه، فلا قيمة للصلاح إذا اقتصـر على إصلاح الذات ولم يتسع لإصلاح الآخرين مع القدرة على ذلك ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [15] يحذر تعالى عباده المؤمنين ﴿ فِتْنَةً ﴾ [الأنفال: 25] أي: اختبارا ومحنة، يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشـر الذنب، بل يعمهما، حيث لم تدفع وترفع [16]. ثالثًا: والقرآن حين يدعو إلى الإيمان ينعى على المقلدين الذين لا يُعملون عقولهم، ويتبعون نظريات واهية وآراء زائفة، لا لشيء إلا لأنهم ألفوا آباءهم عليها ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [17] وإذا قال المؤمنون ناصحين أهل الضلال: اتبعوا ما أنزل الله من القرآن والهدى، أصـروا على تقليد أسلافهم المشـركين قائلين: لا نتبع دينكم، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون عن الله شيئًا، ولا يدركون رشدًا [18] ، وحذر من هذا السلوك، وأن يتبع الإنسان ما ليس له به علم﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [19] أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك،﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36] فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يعد للسؤال جوابا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله وإخلاص الدين له وكفها عما يكرهه الله تعالى [20]. رابعًا: وكرَّمه ودعاه إلى العلم، وطلبه وقرن سبحانه ذِكْرَ أولي العلم بذِكْرِه عز وجل وذِكْرِ ملائكته ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [21] بين الله لخلقه الدلائل وَالْآيَات ﴿ لَا إِلَهَ ﴾ [آل عمران: 18] أَيْ لَا مَعْبُود في الوجود بحق ﴿ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 18] شهد بذلك ﴿ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [آل عمران: 18] بالإقرار ﴿ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 18] مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤْمِنِينَ بِالِاعْتِقَادِ وَاللَّفْظ ﴿ قَائِمًا ﴾ [آل عمران: 18] بِتَدْبِيرِ مَصْنُوعَاته وَنَصْبه عَلَى الْحَال وَالْعَامِل فِيهَا مَعْنَى الْجُمْلَة أَيْ تَفَرَّدَ ﴿ بِالْقِسْطِ ﴾ [آل عمران: 18] بِالْعَدْلِ ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 18] كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ [آل عمران: 18] فِي مُلْكه ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18] فِي صُنْعه [22]. وجعل العلم مشاعًا؛ لأنه غذاء العقل، ولعن أولئك الذين يحتكرونه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [23] علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، و﴿ الْبَيِّنَاتِ﴾ [البقرة: 159] التي أنزلها الله: ما بيّن من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما، ويعني تعالى ذكره بـ﴿ وَالْهُدَى ﴾ [البقرة: 159] ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صل الله عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم، ﴿ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159] [24]. خامسًا: وكرَّمه فأسند إليه استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
سادسًا: وتوَّج تكريمه له بالأمر بالمحافظة عليه، وتحريم كل ما يغطي فعله وأثره، فضلًا عما يزيله؛ فحرم شـرب الخمر﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [25] يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة، ويخبر أنها من عمل الشيطان، وأنها رجس ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ [المائدة: 90] أي: اتركوه ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90] فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله، خصوصا هذه الفواحش المذكورة، وهي الخمر وهي: كل ما خامر العقل أي: غطاه بسكره، والميسـر، وهو: جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين، كالمراهنة ونحوها، والأنصاب التي هي: الأصنام والأنداد ونحوها، مما يُنصب ويُعبد من دون الله، والأزلام التي يستقسمون بها، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها، فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا. والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها، ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان.
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه، وتحذر مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منها، والخوف من الوقوع فيها.
ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له.
ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، خصوصا الخمر والميسـر، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء.
فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر، فإنه ربما أوصل إلى القتل، وما في الميسـر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء.
ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسـر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو.
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؟ " فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟ "
ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [26] لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ [27]. لكن الإسلام مع هذا التكريم كله وهذا الاهتمام حَدَّ للعقل حدودًا، هي كل ما يستطيع تبيينه، وحذره من الولوج فيما لا يستطيع إدراكه؛ خشية عليه، وحرصًا على سلامته حتى لا يضل، وكيف له وهو المخلوق أن يدرك ذات الخالق؟! بل أنَّى له أن يدرك كل المخلوقات؟! فليؤمن بما استطاع إدراكه، وليبني على ما أدرك ما لم يدرك، وما أعظمها من شفقة حين قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليقل: "آمنت بالله" [28]. وما أعظمه من توجيه ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [29] صـرف الجواب عن ماهيتها؛ لأنه ليس من شؤون العقل ولا من مداركه توجيه وشفقه هما التوجيه السديد حتى لا يتيه العقل فيما ليس من دركه، وليس من طاقته، وهما لا شك تكريم وأي تكريم، ولذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- لا يخوضون فيما لا يستطيعون دركه ومعرفته؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يقرأ على المنبر: ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾ [30] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبُّ [31]؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر [32]. وليس هذا من عمر بالتسليم الأعمى -كما يعبر عنه- أو بمطلق التقليد؛ بل هو وقوف منه عند حد المعرفة، وإعراض عما زاد عنها مما هو تكلف. العقل مناط للتكليف:
ويكفي العقل البشري شرفاً أن جعله الله تعالى مناط التكليف، ويسقط التكليف بغيابه أو ضعفه فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحلم، والمجنون حتى يشفى من جنونه وقد جعل الله تعالى العقل والرشد معيارا للتصرف في المال فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [33] ينهى تعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء، وهم أقسام: فتارة يكون الحجر للصغر؛ فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة يكون الحجر للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه [34]. وقال تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ﴾ [35] فانظر إلى كلمة ﴿ السُّفَهَاءَ ﴾ [النساء: 5]، ﴿ رُشْدًا ﴾ [النساء: 6] فالمعيار فيهما العقل وحسن التصرف. قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسدي، ومقاتل بن حيان: أي اختبروهم ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾ [النساء: 6] قال مجاهد: يعني: الحلم، قال الجمهور من العلماء: البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد. وقد روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: حفظت من رسول الله صل الله عليه وسلم: ((لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل)) [36]. وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة، رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)) [37] أو يستكمل خمس عشرة سنة، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: عرضت على النبي صل الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -لما بلغه هذا الحديث -إن هذا الفرق بين الصغير والكبير [38]. إن العلاقة بين الإبداع والعقل مترابطة جداً، فالعقل هو الجهاز الذي يفكر به الإنسان، والتفكير هو محور الإبداع، لذلك فإن العلاقة بينهما قوية، كما أن مجالات الإبداع تتنوع بحسب القدرات العقلية المتعددة مثل: "القدرة على الإدراك، والقدرة على التذكر، والقدرة على التخيل، والقدرة على الاستنباط والاستنتاج، والقدرة على التحليل، والقدرة على التركيب، والقدرة على الاستقراء، والقدرة اللغوية، والقدرة العددية أو الحسابية، والقدرة العملية، ونحوها" [39]. ولذلك نلاحظ أن البعض لديه القدرة على الحفظ، لكنه ضعيف مثلا في جانب التحليل، والبعض لديه مهارة وقدرة في الجوانب الحسابية، لكنه ضعيف في جانب آخر، والبعض قد وفقه الله تعالى بأن جمع له قدرات متعددة.
ولما أن العقل غريزي ومكتسب، فإن محور عمل التربية يتركز على تنمية العقل المكتسب، من خلال المناهج الدراسية، وأساليب طرق التدريس التي تحرك عقل المتعلم نحو التفكير الجيد البناء، وأن لا يكون أداة للاستماع فقط، فإذا نجحت التربية في هذا استطاعت أن تسهم في تنمية الجوانب الإبداعية لدى المتعلمين.
وحين تتأمل في كل هذه الظواهر التي وجهت للنظر التفكيري فيها نجد أن اكتشاف آيات الله فيها يبدأ عن طريق لفت الإنسان بإسماع الكلام، ثم يعقل ليتوجه العقل إلى التأمل والبحث العلمي الهادئ الرصين.
ومن هذه الأدلة القرآنية وغيرها من الأدلة في الكتاب والسنة النبوية المطهرة والفقه الإسلامي نرى منهاج الرحمن في تكريم عقل الإنسان، وتقدير المسلمين لإعمال هذا العقل في تعمير الكون بنواميس الله في الخلق وفق منهاج إيماني بعيدا عن العلمانية (بفتح العين) الإلحادية والداروينية القائمة على المصادفة والعشوائية المجافية لآيات الله في الخلق وتدبيره المحكم لمخلوقاته وخلق كل شئ في هذا الكون وفق ميزان الحكمة والتقدير الإلهي في الخلق [40] كما قال تعالى: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [41] وفي كل هذا تقدير وتكريم لعقل الإنسان الصريح البعيد عن اتباع الهوى وتعطيل العقل عن الإيمان بالخالق العليم الخبير اللطيف سبحانه وتعالى. فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل، وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملةً وتفصيلاً على وجود هذا العقل، فعلماء أهل السنة عندما يقولون: لا عقل مع النقل، لا يقصدون منه: أن تأخذ النقل بلا عقل وما قدمنا يدل على أن العقل ضرورةٌ وأساس للتكليف فكيف يفهم كلام ربنا وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بلا عقل؟! فقولهم: (لا عقل مع النقل) أي: لا تقدم عقلك على النقل لا تجعل عقلك قاضياً على كلام النبي صل الله عليه وسلم، كذلك قولهم: (لا اجتهاد مع النص) ليس معناه أن تأخذ النص بلا اجتهاد ولا تفكير، وإنما معناه: لكن لا تجتهد اجتهاداً مضاداً للنص.
فمثلاً لو قرأت أنَّ أعرابيًا سألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عنِ الوضوءِ فأراهُ ثلاثًا ثلاثًا ثمَّ قالَ ((هَكذا الوضوءُ فمن زادَ على هذا أو نقَص فقد أساءَ وتعدَّى وظلَمَ)) [42] فالواضح من هذا الحديث: أنه لا يجوز الزيادة على ثلاث مراتٍ في الوضوء، فمن زاد على ثلاثٍ، فقد أساء وتعدى وظلم، فإذا جاء آتٍ وقد قرأ مثلاً حديث علي بن أبي طالب: (أن النبي صل الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً) فقال: على الإنسان أن يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً حتى يعلم أنه قد أسبغ الوضوء! هذا اجتهاد مراده في هذا الكلام أن تسبغ الوضوء في النهاية، ولو أدى إلى تكثير مرات الغسل، فحينئذٍ نقول له: لا اجتهاد مع النص بمعنى لا اجتهاد مضاد للنص، وليس المعنى: خذ النص بلا اجتهاد. وأما ورود "العقل" في القرآن فأكثره قد جاء في الكلام على آيات الله، وكون المخاطبين بها والذين يفهمونها ويهتدون بها هم العقلاء، ويراد بهذه الآيات في الغالب آيات الكون الدالة على علم الله ومشيئته وحكمته ورحمته.. ويلي ذلك في الكثرة آيات كتابه التشريعية ووصاياه، كقوله تعالى في تفصيل الوصايا الجامعة من آخر سورة الأنعام: ﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [43] وجعل إهمال استعمال العقل سبب عذاب الآخرة بقوله في أهل النار.. ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [44] وكذلك آيات النظر العقلي والتفكر كثيرة في الكتاب العزيز فمن تأملها علم أن أهل هذا الدين هم أهل النظر والتفكر والعقل والتدبر.." [45]. ولكن هل يستقل العقل في المعارف الدينية؟ إن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي.. وإنما على العقل بعد التصديق برسالة نبي أن يصدق بجميع ما جاء به، وإن لم يستطع الوصول إلى كنه بعضه والنفوذ إلى حقيقته.." [46]. ويقول في موضع آخر: "ما شرع الله الدين للناس إلا لأنهم لا يستغنون عن هدايته بعقولهم، ومن كان يؤمن بدين منزل من عند الله لا يمكن أن يقبل ما يوافق عقله ويرد ما لا يوافقه من المسائل التي يعتقد أن الله فرضها عليه.. فمن فعل ذلك كان غير متبع لدين يؤمن به قطعاً وإنما يكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، فوظيفة العقل أن يعلم ويفهم ليعمل، لا أن يتحكم في دينه.. ثم إن عقول الناس تختلف اختلافاً كثيراً فيما يوافق أصحابها وما لا يوافقهم، وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يحكمون عقولهم في الدين دين خاص به، وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم. إن تحكيم العقل في كل مسألة من مسائل الدين مخالف لحكم العقل الصحيح [47] ، وهذا الموقف من العقل هو الموقف الصحيح، فالإسلام دين العقل بهذه المعاني، وأنه هاد للعقل ومرشد له وقائد، وهو مبادئ يفهمها العقل في سهولة ويسر، وهو لا يناقض العقل [48]. ومما يزيد الأمر وضوحًا أن أكثر آيات القرآن الكريم جاءت على وجهين متقابلين [49]: الوجه الأول: آيات تنعى على أولئك الذين لا يعلمون عقولهم التي وهبهم الله إياها، وأنعم بها عليهم؛ فعطلوها عن عملها الذي خلقها الله له، وأنقادوا لشهواتهم ورغباتهم؛ فأصبحوا كمن لا عقل له؛ بل هم أضل.
الوجه الثاني: ويقابل ذلك النعي على أولئك دعوة مَن استعمل عقله إلى إعماله على الوجه الأمثل حسب إرشاد القرآن الكريم وتوجيهاته، وتوجيه أعماله وتفكيره وتدبره لما فيه الخير والصلاح، وإلا صار وبالًا على صاحبه وعلى مجتمعه.
إذًا، فالمقصود فيما نرى بالعقل في القرآن الكريم العقل المكتسب الناشئ عن حركة العقل الغريزي، حركة يدرك بها الحق، ويعمل به، وينقاد إليه، ويفهم بها الباطل؛ فيحذره ويجتنبه، مسترشدًا بهذا وذاك بدليل الوحي، وبدون هذه الحركة فإن العقل الغريزي لا أثر له إلا كونه حُجة على صاحبه يوم القيامة.
فالقرآن إذًا إنما يستثير فينا تحريك العقل؛ حتى يؤدي عمله، وعمله الفقه والتفكر والتذكر والتدبر؛ ولهذا فإنا نرى القرآن الكريم يحث أحيانًا كثيرة على نتاج العقل؛ إذ هو المراد وهو المقصود؛ ولذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: "فالعقل لا يُسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم؛ بل إنما يُسمى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم [50]؛ ولهذا قال أهل النار: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [51] أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم [52]. وقال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [53] أفلم يسير هؤلاء المكذبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد، فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذبي رسل الله الذين خلوا من قبلهم، كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، وأوطانهم ومساكنهم، فيتفكروا فيها ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها، سنة الله فيمن كفر وعبد غيره وكذب رسله، فينيبوا من عتوهم وكفرهم، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحق﴿ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ [الحج: 46] حجج الله على خلقه وقدرته على ما بينا ﴿ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [الحج: 46] يقول: أو آذان تصغي لسماع الحق فتعي [54]. لا أريد أن أقول: إن هذا هو العقل بكل إطلاقاته، فلا ماشحة في الاصطلاح؛ ولكن أريد أن أقول: هذا ما أحسبه المراد بالعقل في القرآن الكريم، وهذا هو العقل الذي يخاطبه ويوجه إليه أوامره كتابُ الله، ومن حُرِمَ منه فقد حُرِمَ، أما من حُرِمَ الأول -أعني: الغريزي- فهو غير مكلف، وبالتبع غير مخاطب.
فالعقل جوهرة يتميز بها الإنسان عن الحيوان، وهو مناط الإدراك فيه، فبه يفرق بين الخير والشر، ويميز به الخبيث من الطيب، ومن ثم حرص الإسلام أعظم الحرص على المحافظة عليه، وجعله محل التكاليف الشرعية، إذ قد أسقطها عمن فقده، ففي الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب قال حَدَّثَنَا بَهْزٌ، وَحَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صل الله عليه وسلم قَالَ: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ، - أَوْ قَالَ: الْمَجْنُونِ - حَتَّى يَعْقِلَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَشِبَّ)) [55]. ومعنى رفع القلم: أي: رفع قلم التكليف والمؤاخذة عن هؤلاء الثلاثة.
والنائم والصغير فيهما نوع جنون، إذ أن النائم ذاهب العقل مؤقتاً والصغير لا عقل له.
إذاً صار عندنا: مجنون لا يفيق، ونائم زائل العقل مؤقتاً حتى يستيقظ، والصغير الذي لا عقل له، فهؤلاء الثلاثة زال التكليف عنهم لزوال العقل إما كليةً وإما مؤقتاً.
وحين نستقرئ آيات القرآن الكريم نجد أن الإشارة إلى العقل قد تكررت في صيغ مختلفة - تسعاً وأربعين مرة ورد فيها الاستفهام التقريعي التوبيخي بصيغة "أفلا تعقلون؟ "خمس عشرة مرة، والاستفهام بقوله جل وعلا "أفلا تعقلون؟ "يوبخ أولئك المخاطبين، لأن الله منحهم قولا تدرك، ومع ذلك أبوا إلا أن يطمسوها طمساً تعطل به ولا تستعمل فيما أعدَّها الله تعالى له، فبدلوا هذه النعمة الجليلة التي أنعم الله بها عليهم كفراً، فلم ينتفعوا بها شيئا، وسوف يدركون هذه الحقيقة في الدار الآخرة فيقولون وهم يتلظون بالنار، كما أشار إليهم الله تعالى في قوله: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [56] فهؤلاء أعطاهم الله أسماعاً، وأعطاهم عقولاً، ولكنهم لم يستعملوا أسماعهم ولا عقولهم في إدراك الحق الذي أنزله الله تعالى، فكانوا بمثابة الذين انعدمت أسماعهم وعقولهم ولم تغن عنهم شيئا. أقول هذه لمحة موجزة عن الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم، وإذا كانت الإشارة إلى العقل قد تكررت بهذا العدد الوفير، فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على الأهمية العظمى للعقل لأنه مناط الإدراك في الإنسان، ومحل التكاليف الشرعية التي كلفه الله تعالى بها.
وإذا كان العقل بهذه المثابة، وله هذه المكانة، وهذه الأهمية، فقد أمر الشارع بالمحافظة عليه ضمن الكليات الخمس (الدين - والنفس - والعقل - والمال -والنسل) التي بحفظها يجمع الخير لحياة الإنسان.
ومن ثم فإن اعتداء الإنسان عليه لتعطيله ووقف عمله، يُعدُّ جريمة يرتكبها الإنسان على بعض نفسه، وعلى إحدى كلياته وهو العقل، دون أن يجْرم هذا العقل في حق صاحبه شيئا، وعلى ذلك يستحق هذا المعتدي أن يعاقب تأديباً له على إجرامه. وحين ننظر إلى المسكرات والمخدرات التي يتعاطاها الإنسان نجد أنها من صور الاعتداء البشعة على عقله، لأنها تخامره وتخالطه، فتذهب وعيه، وتبدد إدراكه، ويصبح صاحبه المعتدي على نفسه، كالحيوان أو أضل، لا يفرق بين الخير والشر، لأن أداة التفريق قد أفسدت وعطلت، وانعدمت فيها قدرة التمييز.
والسكر بالخمر يخامر العقل، ويتخلل جوانبه، فيفسده، والتخدير بالمخدر يشل العقل، ويوقف عمله.
فهل لعاقل أن يقدم - باختياره - على تعطيل آلة غاية في الدقة وهي عقله تسجل له الماضي تسجيلاً دقيقا، وتساير له الحاضر مسايرة منتظمة، وتتصور له المستقبل تصوراً معقولا؟ هل لعاقل أن يفسد مثل هذه الآلة في روعة دقتها؟ وقد فطرها على هذا الإبداع الفريد الخلاق العظيم؟
إن الذي يقدم على إفساد عقله يدل بفعله هذا على أنه مستغن عن عقله، وليس في حاجة إليه، وأنه يريد أن يكون هكذا بدون عقل كالحيوان الذي لا يميز، أو كالجماد الذي لا يدرك مما حوله شيئاً.
دور العقل في القرآن الكريم:
من خلال ما سبق من اللَّفتات القرآنية، التي دعت لإعمال العقل، والدلالات التي تنبأ عن كامل اعتبار القرآن للعقل، والمنهجية التي وضعها القرآن ليدور العقل في فلكها، وفي قنوات مسارها، واتجاهاتها نحو العلم والبناء والتجديد والتطور في ظل الخطوط العريضة الحاكمة لعمل العقل ومساراته ومساقات تفكيره، وطموحه، وإلى أي مدى يستطيع أن ينطلق، وفي حدود ماذا من العلوم والفنون يستطيع أن يتوسع ويتطلع، وما هي المواجهات التي تحكم التفكير الذي ينتجه العقل المسلم؟
إن دور العقل المسلم من منظور القرآن الكريم دور هام وفاعل في شتى مجالات الحياة، وفي كل الميادين، وفي مختلف المعارف والعلوم، هذا الدور الذي دعا إليه المنهج القرآني بكل وضوح ومنهجية، وتوافرت عليه كثير الآيات والسور، لا بد وأن يتمثله العقل المسلم من زوايا مختلفة، ومحاور متجددة، ورؤى وضيئة، تضفى على العقل الفاعلية، وتنفي عنه الجمود والتحجر، وتطلق له العنان ليقوم بالدور المناط به كعقل بشـري يمتلك المؤهلات البيولوجية، والقدرات العالية في التنقيب والتجديد، والبحث والنظر، والابتكار والاختراع، والاستدلال والمحاكاة، ونقد الأشياء وفق الزاوية المتاحة، والضابط المتاح.
لقد أسس القرآن الحياة والحضارة المدنية على أساس العقل، فخاطبه ودعاه إلى التفكير، والنظر العقلي، والتفكير فيما أودع الله في الكون من الأسـرار وبدائع الخلق، ورفض الأساطير والخرافات، والأكاذيب بشتى صورها وألوانها، والشائعات والأراجيف التي تتصادم مع عمل العقل، واستخدم القرآن في ذلك الدليل الحسي العقلي لإثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، من هذه الرؤية فإن دور العقل ينبغي أن يكون في المشاركة في النهوض الحضاري، والتقدم الصناعي، والتطور التكنولوجي وفق العلمية والمنهجية القرآنية التي كونته وأضفت عليه الطابع المعرفي وفق الإسلامية الفريدة والمتميزة، وسأتناول شيئاً عن الدور المناط بالعقل المسلم.
[1] سورة ص:29
[2] جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (ج 21 - ص 190).
[3] سورة هود:13
[4] زهرة التفاسير (ج7 - ص 3678).
[5] سورة الروم:8
[6] تفسير بن كثير (ج 6 - ص 305).
[7] سورة الملك:3-4
[8] التفسير الميسـر (ج1 - ص 562).
[9] سورة البقرة:179
[10] سورة الأنعام:11
[11] سورة الكهف:45
[12] أوضح التفاسير (ج1 - ص 357).
[13] سورة آل عمران:104
[14] مختصـر تفسير بن كثير (ج1 - ص 306).
[15] سورة الأنفال:25
[16] تفسير بن كثير (ج4 - ص 37).
[17] سورة البقرة:170
[18] التفسير الميسـر (ج1 - ص 26).
[19] سورة الإسراء:36
[20] تفسير السعدي (ج1 - ص 457).
[21] سورة آل عمران:18
[22] تفسير الجلالين (ج1 - ص 67).
[23] سورة البقرة:160
[24] جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (ج 3 - ص 249).
[25] سورة المائدة:90
[26] سورة المائدة:91
[27] تفسير السعدي (ج1 - ص 243 ).
[28] رواه مسلم: كتاب الإيمان (ج1 ص119).
[29] سورة الإسراء:85
[30] سورة عبس:31
[31] الأبُّ: المرعى وكل ما أنبتت الأرض مما تأكله البهائم كالكلأ والعشب، صفوة التفاسير (ج 3 - ص 494).
[32] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج13 ص372).
[33] سورة النساء:5
[34] تفسير بن كثير (ج2 ص 214).
[35] سورة النساء:6
[36] سنن أبي داود في ج، أ: "بإسناده" برقم (2873).
[37] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، باب وجوب الزكاة (ج 8 ص 237).
[size]
[38] صحيح البخاري برقم (2664) وصحيح مسلم برقم (1868).
[39] أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، عبد الحميد الصيد الزنتاني: ص 419.
[/size]
[40] كتاب براهين وأدلة إيمانية للشيخ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني رحمه الله في، دار القلم: دمشق 1987م (ص43).
[size]
[41] سورة الفرقان:2
[42] تخريج مشكاة المصابيح - الراوي: جد عمرو بن شعيب المحدث: ابن حجر العسقلاني - (1/224).
[43] سورة الأنعام:151
[44] سورة الملك:10
[45] كتاب الوحي المحمدي، المؤلف محمد رشيد رضا (ص: 244).
[46] مجلة المنار (1/ 293)، مقال للشيخ / محمد رشيد.
[47] كتاب الوحي المحمدي للشيخ محمد رشيد المصدر السابق (34/ 758 759).
[48] انظر: د. عبد الحليم محمود: الإسلام والعقل (ص: 12) ط. دار الكتب الحديثة، مصر.
[/size]
[49] العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام: رسالة قيمة أعدَّها لنيل درجة الماجستير الشيخ عبد الرحمن زيد الزنيدي ص46.
[size]
[50] رسالة في العقل والروح: لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية ج2 ص34.
[51] سورة الملك:10
[52] تفسير بن كثير (ج 8 ص 178 ).
[53] سورة الحج:46
[54] تفسير الطبري (ج 18 ص 657).
[55] مسند الامام أحمد، باب مسند علي بن أبي طالب (ج2 ص 266 رقم 956).
[56] سورة الملك:10[/size]