الفرق بين محاولة أبرهة هدم الكعبة وبين المحاولات التي بعدهالشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعيالسؤال
♦ الملخص:
استفسار حول الحكمة والفرق بين محاولة هدم أبرهة للكعبة وبين المحاولات التي جاءت بعده..
♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندي استشكال بارك الله تعالى فيكم حول أمرٍ خطر لي، وهو: ما الحكمة في أن الله تعالى دافع عن الكعبةِ المشرفة يوم الفيل وكان حولها الأوثان، في حين لم نرَ ذلك يوم ضُربتْ بالمنجنيق مِن الحجَّاج، ولا حينما اعتدى عليها القرامطةُ وسرقوا الحجر الأسود؟
الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله تعالى، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فقد أحسنتَ - أيها الأخ الكريم - في سؤالك عمَّا غاب عنك مِن حكمة الله تعالى فيما تسأل عنه، فالله تعالى له كمالُ العِلم والحِكمة واللطف، وله في كُلِّ شيء حكمة باهرة، ولا يفعل ما يفعلُه إلا لحكمةٍ وغاية محمودة وعواقبها الحميدة، فأفعال الله تعالى تابعة لحكمته سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ﴾ [الأنعام: 149]، وهو سبحانه لكمال علمِه وحكمته ووضعِه الأشياء مواضعها ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فليس في أفعاله عبثٌ ولا فساد يُسأل عنه كما يُسأل المخلوق، وهو الفعَّال لِما يريد، ولا يفعل إلا ما هو خير ومصلحة، ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر، ولا الفساد، ولا الجور، ولا خلاف مقتضى حكمته؛ لكمال أسمائه وصفاته العلا، وهو الغني الحميد، العليم الحكيم.
أما حادثة الفيل وحراسة الله تعالى لبيته، فإنها من آيات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فكانتْ تلك الحادثة قبل مولده نذيرًا بزوال دولة الشرك والظلم، وبداية لنشرِ الخير والعدل بين الناس، وهو حادثٌ مستفيض الشهرة في الجزيرة العربية قبل البعثة، وهو عظيم الدلالة على رعاية الله تعالى لبيته الذي اختاره ليكونَ مُلتقى النور الأخير، ومحضنًا لعقيدة الإسلام وموضع الزحف المقدَّس، فحفِظَه سبحانه ليكون مثابةً للناس، فأرسل الله تعالى على أبرهةَ وجيشِه جماعاتٍ من الطير تحصبهم بحجارة مِن طين وحجر، فتركتهم كأوراقِ الشجر الجافَّة الممزَّقة؛ كما ذكره القرآن الكريم، وهي نعمةٌ غمر الله تعالى بها أهل حرمه على وثنيتِهم؛ حفظًا لبيته، إلى أن يرسل سبحانه مَن يحميه بقوَّة دينه صل الله تعالى عليه وسلم، وليبقى بيتُه مَصونًا من كيد الكائدين، وسلطان المتسلطين، وكان هذا من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره لبيته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (6/55، 56): "ومِن آيات محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ودلائل نبوتِه التي في القرآن قصةُ الفيل؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1 - 5]، وقد تواترتْ قصة أصحاب الفيل، وأن أهل الحبشة النصارى ساروا بجيشٍ عظيمٍ معهم فيل، ليهدموا الكعبة لَما أهان بعضُ العرب كنيستَهم التي باليمن، فقصدوا إهانة الكعبة وتعظيم كنائسهم، فأرسل الله تعالى عليهم طيرًا أهلكهم، وكان ذلك عامَ مولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان جيرانُ البيت مشركين يعبدون الأوثان، ودين النصارى خيرٌ مِن دينهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذٍ، بل كانت لأجلِ البيت، أو لأجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، الذي ولد به في ذلك العام عند البيت، أو لمجموعِهما، وأي ذلك كان فهو مِن دلائل نبوته فإنه إذا قيل: إنما كانت آيةً للبيت وحفظًا له وذبًّا عنه؛ لأنه بيت الله تعالى الذي بناه إبراهيم الخليل، فقد عُلم أنه ليس من أهل الملل مَن يحج إلى هذا البيت ويصلي إليه إلا أمة محمد صل الله تعالى عليه وسلم، ومحمد هو الذي فرض حجَّه والصلاة إليه". اهـ.
أما ما فعله فاسق بني ثَقيف الحجاج بن يوسف - قبَّحه الله تعالى - مِن نصب المنجنيق على الكعبة، فإنه لم يقصد بذلك ما قصده أبرهة مِن هدم الكعبة، وإنما فعل هذا لَمَّا لجأ عبدالله بن الزبير إلى الحرم، فحاصروه وليس هو في حصنٍ ولا خندق ولا منعة، فلم يزل به حتى قتله، وكان هو ومن معه مِن الجند مُعظِّمين للكعبة، مشرِّفين لها، إنما يقصدون بالضرب بالمنجنيق محاربة ابن الزبير، وإخضاع أهل الحرمين و إذلالهم، ولم يقصد هدم الكعبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة النبوية (4/ 582-584): "... كل مِن الأمراء والعلماء الذين رأوا هذا وهذا مُعظِّمون للكعبة مشرِّفون لها، إنما يقصدون ما يرونه أحب إلى الله تعالى ورسوله، وأفضل عند الله تعالى ورسوله، ليس فيهم مَن يقصد إهانة الكعبة، وَمن قال: إن أحدًا مِن خلق الله تعالى قصد رمي الكعبة بمنجنيق أو عذرة، فقد كذب، فإن هذا لم يكن لا في الجاهلية ولا في الإسلام، والذين كانوا كفارًا لا يحترمون الكعبة - كأصحاب الفيل والقرامطة - لم يفعلوا هذا، فكيف بالمسلمين الذين كانوا يُعظمون الكعبة؟!
وأيضًا فلو قُدِّر - والعياذ بالله تعالى - أن أحدًا يقصد إهانة الكعبة، وهو قادرٌ على ذلك، لم يحتَجْ إلى رميها بالمنجنيق، بل يمكن تخريبها بدون ذلك، كما تخرب في آخر الزمان، إذا أراد الله تعالى أن يقيم القيامة فيخرب بيته، ويُرفع كلامه مِن الأرض، فلا يبقى في المصاحف والقلوب قرآنٌ، ويبعث ريحًا طيبة فتقبض روح كلِّ مؤمن ومؤمنة، ولا يبقى في الأرض خيرٌ بعد ذلك، وتخريبها بأن يُسلَّط عليها ذو السويقتينِ؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: ((يخرب الكعبةَ ذو السويقتين من الحبشة))، والمنجنيق إنما يُرمى به ما لا يُقدر عليه بدونه، كما رمى النبي صل الله تعالى عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق لَمَّا دخلوا حصنهم وامتنعوا فيه، والذين حاصروا ابن الزبير لَمَّا استجار هو وأصحابه بالمسجد الحرام رَمَوهم بالمنجنيق؛ حيث لم يقدروا عليهم بدونه، ولَمَّا قتل ابن الزبير دخلوا بعد هذا إلى المسجد الحرام فطافوا بالكعبة، وحجَّ الحجاج بن يوسف ذلك العامَ بالناس، وأمره عبدالملك بن مروان ألا يخالفَ ابن عمر في أمر الحج، فلو كان قصدُهم بالكعبة شرًّا لفعلوا ذلك بعد أن تمكَّنوا منها، كما أنهم لما تمكنوا من ابن الزبير قتلوه"؛ اهـ.
ونصَّ على مِثْلِ هذا الإمام ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ (3/ 400): "ولَمَّا حصر الحجاج ابن الزبير نصب المنجنيق على أبي قبيس، ورمى به الكعبة، وكان عبدالملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية، ثم أمر به، فكان الناسُ يقولون: خذل في دينه، وحج ابن عمر تلك السنة، فأرسل إلى الحجاج: أن اتقِ الله تعالى، واكفُفْ هذه الحجارة عن الناس، فإنك في شهرٍ حرامٍ وبلد حرام، وقد قدِمت وفودُ الله تعالى من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله تعالى ويزدادوا خيرًا، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فاكففْ عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة، فبطل الرمي حتى عاد الناس مِن عرفات وطافوا وسَعَوا، ولم يمنَع ابن الزبير الحاجَّ من الطواف والسعي، فلما فرَغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: انصرِفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير المُلحِد"؛ اهـ.
وكذلك الإمام ابن كثير في البداية والنهاية/ ط هجر (12/ 178)؛ حيث قال: "نصب الحجاجُ المنجنيق على مكة ليحصر أهلها حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبدالملك، وكان مع الحجاج خلقٌ قدموا عليه مِن أرض الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق، فقتلوا خلقًا كثيرًا، وكان معه خمسُ مجانيقَ، فأَلَحَّ عليها بالرمي مِن كلِّ مكان، وحبس عنهم الميرة فجاعوا، وكانوا يشربون مِن ماء زمزم، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة، والحجَّاجُ يصيح بأصحابه: يا أهل الشام، الله الله في الطاعة".
هذا، وقد أجاد الإمام الماوردي في بيان الفارق بين المسألتين كما في كتابه أعلام النبوة (ص207)، فقال: "وآية الرسول صل الله عليه وسلم من قصة الفيل: أنه كان في زمانه حملًا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يومًا من الفيل، وبعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فكانت آية في ذلك من وجهين:
• أحدهما: أنهم لو ظفِروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله صل الله تعالى عليه وسلم أن يجري عليه السبي حملًا ووليدًا.
• والثاني: أنه لم يكن لقريشٍ مِن التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن، أو ثائل بالزندقة، أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسًا للنبوة وتعظيمًا للكعبة وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكًا للحج.
فإن قيل: فكيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قِبلةً ومنسكًا، ولم يمنع الحجَّاج مِن هدمها وقد صارت قِبلة ومنسكًا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها؟
قيل: فعلُ الحجَّاج كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحابُ الفيل كانوا قبل ظهور النبوة، فجعل المنع منها آيةً لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول صل الله تعالى عليه وسلم قد أنذر بهدمِها، فصار الهدم آيةً بعد أن كان المنع آيةً، فلذلك اختلف حكمُهما في الحالين، والله تعالى أعلم"؛ اهـ، مختصرًا.
أما ما فعله القرامطة الأشرار مِن سرقة الحجر الأسود، وأخذه إلى بلادهم، ثم أعادوه بعد 22 عامًا، فقد كان هذا بعد استقرارِ الشرائع، والعلم بشرف الكعبة، ووجوب الذَّود عنها مِن قِبل المسلمين، فهو ابتلاءٌ لأهل الإيمان، وإمهال لأهل الضلال، بخلاف الحال قبل بعثة النبي صل الله تعالى عليه وسلم؛ حيث لم يكن هناك مَن يذودون عن بيته الحرام.
إذا ظهر لك ما ذكرنا أدركت سلمك الله أن حفظ الكعبة والذود عنها ليس مِن القدر الكوني، الذي لا يمكن أن يقع خلافها، وإنما هو بعد استقرار شريعة الإسلام مِن قدر الله الشرعي؛ حيث فرض الله على المسلمين الذود عن البيت الحرام وجميع الحرمات؛ وبهذا يزول الإشكال.