الموهبة التي لا تكفّ عن العطاء
توماس فريدمان - (نيويورك تايمز) 2/12/2014
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
عند هبوطي في نيويورك قبل أيام، أمعنت النظر جيداً في برج الحرية الذي يعرف راهناً باسم مركز التجارة العالمي 1، وهو ناطحة السحاب التي تجلس حالياً في مكان أرض الصفر التي نجمت عن هجمات 11/9. والمبنى ينطح السحاب فعلاً، مرتفعاً 1776 قدماً. وبعد ثلاثة عشر عاماً من 11/9، أقدر الكرامة والعزة الوطنية التي تمكننا من إعادة بناء ما يهدمه الإرهابيون من مبانينا. أعلم يا أسامة بن لادن.
وليت أن القصة انتهت هناك. لكن بن لادن استطاع، للأسف، إفساد أوضاعنا وهو يستمر في فعل ذلك. ورغم أننا محونا آثار مركز التجارة العالمي، فإن السياسة الخارجية القائمة على الخوف التي زرعتها هجمات 11/9 في نفوسنا ما تزال تعشش عميقاً جداً في أحشائنا -عميقاً جداً. وهو يظل في المعنى الضمني للكثير مما نفعله في عالم اليوم، ويفسر السبب في اختياره ليكون العنوان الفرعي لكتاب جديد لديفد روثكوبف "اللاأمن القومي: القيادة الأميركية في عصر الخوف".
ينطوي الكثير من الكتاب على نظرة عميقة في الكيفية التي وضعت من خلالها السياسة الخارجية منذ 11/9. ولكن، وفي العديد من الطرق، يبقى النجم الفعلي للكتاب والمكون الكلي لكل شيء، هو هذا "العصر من الخوف" الذي انحرف بمؤسساتنا وأولوياتنا السياسية عن الطريق السوي. فهل سيذهب هذا العصر إلى أفول أم سيظل بن لادن إلى الأبد تلك الموهبة التي تستمر في العطاء؟ وكان هذا هو السؤال الذي أرسلته في رسالة إلكترونية إلى روثكوبف، محرر مجلة "فورين بوليسي".
وقد رد بالقول: "لن ينظر إلى حقبة ما بعد 11/9 على أنها العصر الذهبي في السياسة الخارجية الأميركية". وأضاف: "ويعود هذا في جزئه الأكبر إلى أن هجمات 11/9 كانت صفعة عاطفية كبيرة للولايات المتحدة، إلى درجة أنها غيرت في لحظة نظرتنا إلى العالم وخلقت شعوراً قوياً لدينا بهشاشة موقفنا". واستجابة لذلك "لم نبالغ في حجم التهديد وحسب، بل أعدنا تنظيم تفكيرنا لنجعله المبدأ التنظيمي المركزي لتأطير سياستنا الخارجية".
كان ذلك خطأ على مستويات عدة، كما أصر روثكوبف على القول: "ليس لأنه أفرز رد الفعل وحالات الإفراط في سنوات بوش، ولكن لأنه أفرز أيضاً ميل أوباما الذي ذهب في الاتجاه المعاكس -وهو الذي كان يسعى ليكون عكس بوش، لكنه يخاف هو نفسه من أن يظهر ضعيفاً في هذه الجبهة" -ومن هنا جاءت زيادة التواجد في أفغانستان وإعادة التدخل في العراق، فيما كان في جزء منه انطلاقاً من الخوف بالإنحاء عليه باللائمة في حال أنه لو لم يفعل ذلك، وضربنا بهجوم إرهابي آخر.
لقد أصبح الخوف من اللوم عند الخائف قوة كامنة في سياستنا. وقد أمضينا أكثر من عقد، كما ذكر روثكوبف، ونحن في حالة "رد الفعل على الخوف من تهديد صغير جداً، سامحين له بأن يعيد تعريفنا، وفاشلين في الارتقاء كما ينبغي إلى مستوى التحديات الأكبر التي نواجهها -سواء تلك التي تتعلق بإعادة البناء في الوطن، أو إعادة تنظيم القوة العالمية، وتغيير الأنماط الاقتصادية التي لم تعد تخلق وظائف وثروة بالطريقة التي دأبت عليها في السابق، "أو تشكيل" مؤسسات دولية جديدة، لأن المؤسسات القديمة أكل الدهر عليها وشرب وأصبحت غير عاملة".
لصياغة الأمور بطريقة أخرى، كما قال -وأنا أتفق معه في هذا الرأي- فقد أفضى التركيز على الإرهاب، مجتمعاً مع سياستنا "إلى قتل التفكير الإبداعي" في واشنطن، ناهيك عن أي شيء "ملهم" في سياستنا الخارجية. انظروا إلى الوقت والمال اللذين أجبر الجمهوريون على إنفاقهما وهم يناقشون ما إذا كان الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي مخططاً إرهابياً أو تطوراً عفوياً -بينما ينعدم التركيز على الموضوع الحقيقي: يا له من فشل من الحزبين ذلك الذي تمثل في إزاحتنا الكلية لدكتاتور ليبيا كما تبين، وما يجب علينا تعلمه من ذلك التطور وكيف يتم تصحيحه.
إنني أتعاطف مع الرئيس أوباما لكونه يتعامل مع هذه الفوضى الجارية في العالم، وحيث تأتي التهديدات من دول منهكة، والتي يمكن أن تدار فقط من خلال إعادة بنائها بكلفة ضخمة، مع نتائج غير أكيدة وشركاء مراوغين. إن الأميركيين لا يريدون تلك المهمة. لكن هذه الدول غير المنظمة تخلق مقدمات للإمكانيات المنخفضة، وللإرهاب عالي التأثير؛ حيث تتمكن طلقة رصاص محظوظة واحدة من أصل مليون طلقة من إلحاق الضرر بنا. لا يريد أي رئيس أن يكون في المنصب عندما يحدث ذلك أيضاَ. لكن عدداً أكبر من الأميركيين قتلوا في سياراتهم في العام الماضي مقارنة بالذين قتلوا منهم على يد إرهابيين. ولا أعتقد أن أوباما كان سيئ الأداء إلى ذلك الحد عندما أبحر في عباب هذه المتناقضات. لكنه اضطلع بمهمة صعبة وهي شرح ما يفعله، ويربط انضباطه بأي من الأهداف السياسة الأكبر في الوطن أو في الخارج.
يقول غوثام ميكيوندا، الأستاذ في كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد وواضع كتاب "الذي لا يمكن الاستغناء عنه: عندما يهم القادة فعلاً"، إن مبالغتنا في الاعتماد على وضع أنفسنا داخل سياج، أو ما يشبه ذلك، منذ 11/9 قد شتتت انتباهنا عن بناء المرونة والمقاومة كما اعتدنا من قبل، عبر الاستثمار في التعليم والبنية التحتية والهجرة والبحث الممول من جانب الحكومة والقوانين التي تحفز المخاطرة التجارية، لكنها تمنع التهور.
وقال ميكيوندا: "لقد دأبنا على الاستثمار في تلك الأشياء أكثر من أي أحد آخر لأنها انطوت على احتمالية عالية وعوائد عالية الأثر". والآن، فإننا لا نستثمر، وقد أصبحنا أقل مرونة نتيجة لذلك -ولا يهم عدد الأسوار التي نشيدها. كما أننا لا نستثمر بما فيه الكفاية في الاحتمالية المنخفضة والتجديدات التي تعود بعوائد عالية- مثل الانترنت أو نظام تحديد الموقع الجغرافي "جي بي أس" اللذين ميزانا كأمة وأضافا إلى مرونتنا. وقال أيضاً: "إننا نعيش في عالم يمكن فيه للمراهنات الصغيرة أن تنطوي على عوائد ضخمة".
عندما تنظر إلى الجهد الذي يبذله قادتنا راهناً في منع الأحداث قليلة الاحتمال، أو بمنع الهجمات الإرهابية عالية التأثير -أو حماية أنفسهم من التهمة بأنهم لم يفعلوا ذلك- مقارنة مع إعادة التفكير والاستثمار في مصادر قوتنا المعروفة في هذه الحقبة من التغير السريع، فإن ذلك، كما قال ميوكيوندا، هو "انحراف في الميزان".